يَعجبُ المرءُ في أحيان كثيرةٍ ما يحدثُ من تواصُلٍ بينَه و بين أطرافٍ
أُخرى ، لم يَكنْ في حُسْبانه أن تكون تلك الصِّلَة ، ليس لنقصٍ في طرفٍ
مَّا ، و إنما لعدم ظنيةِ ذلك ، و هذا التواصُل المفاجيءُ ليس آتياً دون
ترتيبٍ مُسْبَقٍ من دواخل النفوس ، فإنه آتٍ من توافُقٍ بين الطرفين في
شيءٍ أوقَع ذاك التواصل ، و سِرُّ التواصلِ في معرفة نقطته التي هي بِذرةٌ
.
يتبايَن الناسُ في مداخلِ التواصُلِ ، و معرفة المداخلِ ضمان صحة الدخول ،
فمن الناسِ مَن يأخذُ بخُلُقٍ امتازَ به فصار جذاباً إلى ذاته به ، كمن
يمتاز بابتسامةٍ ترتسم على مُحَيَّا وجهه تبعثُ سروراً في عين ناظره ، أو
يكون ممتازاً عن غيرِه بنظرةِ العينِ ، فللعينِ رسالاتٌ تُدركها العيونُ ،
و كلُّ شيءٍ له لغةٌ يُدركها شبيهه ، و آخرُ يمتازُ بفكرٍ يسلُبُ لُبَّ
آخرَ في مباحثاته و ثقافاته ، فيكونان متنقلَيْن بين أزهار بساتين المعارفِ
لا يَلويان على شيءٍ ، فمعرفةُ المدخلِ حِرفةٌ و ذوقٌ ، و تميُّزُ أصحاب
العلائقِ الواسعة في إتقان مهارة التواصل .
يتنكَّبُ كثيرون طريق التواصل مع الآخرين ، لغياب الدراية في المدخل
المُوْلِجِ إليه ، و لو دُرِيَ قليلاً لكان الكسْبُ وفيراً ، و التوفيق
للتحقيق مبني على التصديق ، التواصلُ قانونٌ له إشاراته العامةُ في الحياة
، و الإشاراتُ إيحاءاتٌ تنتثرُ في دروبها ، تصديقُ كونها مدخلاً ينقُلُ إلى
تحقيق التواصل .
مواكبةُ حالِ الطرفِ الآخرِ عند التواصُلِ مدخلٌ بديعٌ لتحصيل تمام التواصل
، كما أن المُناكبة قَطعٌ له ، فلا يكون التواصل قائماً على ساقِ الإتقانِ
عند المعارضاتِ في الجزئيات ، كما أنه لن يتحقق عند الموافقةُ في الأساسيات
المتعارضات ، إذ ليس من شأن التواصُلِ التنازلُ و لا المنازلة و لا
المماثلة ، و هنا كان الخللُ في نُقاط التواصلِ و اخترامِ بنائها .
عدمُ مواكبةُ حال الطرفِ الآخر نوعٌ من استعلاء الذاتِ بِزَيْفِ اللذات ،
حيث كان رؤيةً لحال النفسِ منحازةً نحوَ امتيازٍ عن الغيرِ مخصوصةً به ،
فيَئِدُ التواصُلَ في مهده ، و الجسد لا يكذبُ في تعبيراته ، و لصِدقه كان
مُسْتَشْهَداً به ، فالعفويةُ في التواصل صِلةٌ المعافاة ، و تعبيراتُ
الجسدِ منطلقة من تفاعلات الروح ، نبرةُ الصوتِ رسالةٌ في نغمتها لأُذن
السامع يُدركُ منها مدخلاً للتواصلِ مع المتكلم ، مَلْمَسُ اليدِ عند
المصافحةِ تنقلُ حرارَة الصدق في اللقاءِ و التواصل ، العينُ تحكي ما يحكيه
اللسان ، و العينُ تعكسُ الروح ، و الأُذنُ تسترقُ حديث النفسِ قبل همس
الحرفِ به ، فالجسد كله لغة تتكلم بالتواصلِ و عدمه ، و هُنَّ إشاراتٌ
مُرْسلاتٌ و منثورات ، يُدركها حصيفُ العقلِ ، و يغفلُ عنها خفيف الفِطنة ،
و هي من أسرار علائق الخلائق بعضها ببعضٍ ، فليست بين بني الإنسان فقط ، و
واقعنا يَحكي صوراً ، لو تأملنا أدركنا .
فلا تكون الروح لطيفة في معشرِها إلا مع من تآلفتْ معه فتكون حاكمة على
الجسدِ ، فيرى الحَسَنَ و القبيحَ سواءً ، فالمحبوبُ مغفورُ الذنوب مستور
العيوب .
فتعبيراتُ الجسد تتكوَّنُ من تلك التفاعلات الروحية ، و غالباً ما تكون
خارجَ مقدور المرءِ ، فلا يُمكنه أن يكون مُتحكِّماً بتعابير الجسد ، و
ربما مُكِّنَ من التصنُّعِ ، و التصنُّعُ بَدلٌ ، و البَدلُ أعورُ ، و في
تصنُّعِ تعبيراتِ التكميلِ في التواصل بلوغٌ لكماله ، فالتصنُّعُ بالكمالات
كمالٌ ، و عند التصنُّعِ يعتمد المرءُ على ما يَعْضُدُ مسيرته ،
فالمُصانعةُ مُجهِدَةٌ ، و الإجهادُ مُمِلٌّ ، و المللُ خللٌ ، و الخللًُ
زلل .
تبدأُ عملية التواصلِ من بذلِ الروحِ تفاعلاتها على مظهر الجسد لتَتمَّ على
سُوقِ الكمال ، فيبدأ الجسدُ برَدِّ الجميلِ في وصل الروحِ بالروحِ ، و
العاطفة بالعاطفة ، و المشاعر بالمشاعر ، فتندمجَ النفسان ، و تتعانق
الروحان ، فتُدركان من بعضهما عن بعضهما دون وسيطٍ ظاهرٍ ، و تدوم وظيفة
الترابط و لو بَعُدَت الأجساد ، و تفارقت الأعينُ ، فجوارح الروحِ تحكم
جوارح الجسد ، و تلك غايةُ التواصل و سر المصاحبة ، و الإثراءُ بثراءِ
التنمية ارتقاءٌ لثَرى ثُريا المصاحبة ، و ليس فوقَ المصاحبة إلا مخاللةُ
الأرواحِ ، و نِعْم الفوقية .
عبد الله العُتَيِّق
Abdullah .s. Alotaig