التاريخُ أعلاه ليوم جُمعةٍ ، صليتُ الجُمعة في أحد مساجد الرياضِ ، في شارعٍ
كوالالموري * ، قرأ الإمام في ركعتِه الأولى بعد فاتحة الخيرِ { محمدٌ رسول
الله و الذين معه أشداءُ على الكفارِ رُحماء بينهم } بصوتٍ شَجيٍ جميلٍ ، لم
تدع هذه الآيةُ حالي معَ صلاتي حتى سَبَتني أسيراً في تأملاتٍ في أسرارها
المكنونة فيها ، فحقَّاً خواطرُ العقلِ عند الغفلاتِ جواهر نفيسات ، و العاقلُ
مَن ابتدرَ فقيَّدَ .
الآية بيَّنتْ منهجاً محمدياً تُجاه فئتين من الناس ، يُعايشهما النبيُّ و
أتباعه ، و لكلِّ فئةٍ أسلوباً خاصاً في التعامُلِ ، كان منثوراً في أقوال
النبي العظيم صلى الله عليه و سلم ، و مُصدَّقٌ بأفعالِه في حياته التعامُلية ،
و أتباعه السالكين منهجَه كذلك ، و ما الخللُ إلا في دَعِيِّ النسبةِ أو
عَيِيِّ الفِطنة ، و الأصلُ برئ من تَبِعةِ الفرعِ .
الفئةُ المخالِفةُ لما عليه النبيُّ محمدٌ صلى الله عليه و سلم ، سُمُّوا في
الآية بالكُفَّارِ ، و هم النائون عن الدين ، الغاربون عنه ، و الخارجون منه ،
و الذين لا يمتُّونَ إليه بِصِلَةٍ أبداً ، و لم تذكر أنهم جملةُ المخالفين
فيكون داخلاً فيها المخالفُ في الأصول و الفروع و ليس من منهجية النبي محمدٍ
صلى الله عليه و سلم أن يُحدِثَ مع المخالفِ في فروعياتِ دينه شِدةً في التعامل
، فالمخالفاتُ تحدثُ ، و لا يُؤْبَه إلا بالكبارِ العِظام .
رسمتْ منهجَ التعامُلِ معهم على أنَّه يجبُ أن يكون شديداً ، دستورٌ قويم ،
تقوم به كلُّ الديانات بلا استثناء ، أن المخالفَ لها في الأصولِ ، الكافرَ بها
، المحاربَ لها يُعامَلُ بالشدة ، لأجل ذلك كانت الحروبُ ، إلا أن الشدَّةَ
ليست على وتيرةٍ واحدةٍ ، و ليست على نَسَقٍ واحدٍ ، فيختلفُ تطبيقها من حال
إلى حال ، و مع شخصٍ دون غيرِه ، و على حَسْبِ حالِ المُتَعامِلِ بها ، و لو
استعرضنا صُورَ الشدة المحمدية في تعاملاته مع الكفار ، الكفارِ و ليس غيرَهم ،
لرأينا ذاك التبايُن ، فكانتْ شِدةً في القبضِ و الأَسْرِ فلا يقبلُ شريفٌ أن
يُقْبَضَ و يكون أسيراً فإنَّ وقْعَ ذاك شديدٌ على قلبه ، و خاصةً إن كان وجيهَ
قومٍ ، حيثُ يظنُّ أن شدةَ محمدٍ في أسْرِهِ تستمرُّ حتى آخرَ لحظاتٍ يقفُ
عندها مَدُّ تلك الشدة من محمدٍ صلى الله عليه و سلم ، فكان الشدَّةُ في نظرِ
الأسيرِ ليس إلا ، فيُؤتى به فيجدُ لينا و كرماً في جوفِ تلك الشدةِ ، فما كان
دستورُ محمدٍ الشدةُ في كلِّ أحوال التعاملِ مع الشخصِ الواحدِ الكافرِ ، فشدةٌ
مُحدَّدة التعامل .
من شدته منْعُ التعامُلِ مع الكافرِ ، و ليس على الإطلاقِ دون قيدٍ ، بل ضمَّن
الحكمَ استثناءاتٍ كثيرة ، لضرورة الحياةِ في التعايُشِ مع الكافرِ ، و تحجيرُ
التعامُلِ معه في كلِّ الأحوال لا يستقيم و كمال عقلِ محمدٍ العظيم صلى الله
عليه و سلم ، و قد تعامَلَ بالحُسنى فنال المُنى .
و قد تكون شدَّتُه لِيْنُه ، فإكرامُ المخطئِ زيادةٌ في تعذيبِه ، و اقتلْه و
لا تُغرقه في كرمك ، خبرُ أبي سفيان في أَمَنَةِ دارِه ، فكانت لِيْناً و في
حقيقتها شدةٌ أقوى من ضربة سيفٍ .
رَحمة محمدٍ صلى الله عليه و سلم بينه و بين أتباعه ، فسمَّى أتباعاً و في
الشدةِ كُفاراً ، فمن الأتباعِ مَن خالفَ و هو تابعٌ في الأصولِ ، فدستورُه معه
تمام الرحمةِ ، و رحمته من رحمةِ ربه ، و رحمةُ ربِّه شملت كلَّ شيءٍ ، و رحمةُ
محمدٍ حوَتْ أسرار معاني الرحمة و لا يفقه سِرَّ رحمتِه إلا من عرفَ جوهرَ
محمدٍ لا ظِلَّه ، و الواقفُ على صورته دون معرفةٍ بحقيقته واقفٌ على تصحيفٍ و
تحريفٍ في الرحمة ، و أقصد المعنى لا المبنى .
يبتسمُ في وجه الغضوب ، فيرحمه باستخراجِ جُرعة الغضبِ ، فتهدأ النفسُ و يُؤتى
المطلَبَ ، يُستأذنُ في الزنى فيُحَوِّل الكلامَ إلى توجيه الغريزةِ لا إلى
هدمها ، فرحِمَ وجودها و ثورانها ، و غيرُه يمنحُ لقبَ الفسقِ دون مفَسِّقٍ ،
يُجَرُّ ثَوبُه فيُحدثُ أذىً في رقبته فتبدو أسنانُ الجمالِ بابتسامةِ الجلالِ
و يَرْحم محتاجاً فيهبَه ما يريد ، فكان رحةً تمشي بكمالها و جمالها و جلالها .
يُخالفه أصحابه في رأيه ، و هو رأيٌ فرعيٌ لا أصلي ، فيرجع ليجبرَ الخاطرَ و
يجمع الكلمة ، و ترى أتباعاً يُقيم القضية في الدنيا بحروفٍ مسطورةٍ لا تنتهي
إليها أبعادُ الأنظارِ ليُظهرَ ( أناه ) بثوبِ دينه ، و يتخذُ طرائقَ السبِّ و
الشتمِ لاختلافِ المظاهرِ و لا يقيم للمخابرِ وزناً ، حسْبُ علمهم الذي بلغوه
أنه صورة .
و قد يكون لِينُه و رحمته في شدته ، فيقسوَ على حبيبٍ لخطأٍ لئلا يُعاوِد
الوقوع فيه ، فشدته تحتضنُ رحمتَه ، إبداعٌ في تعامُلِه ، و رُقيٌ في خُلُقِه ،
صلى الله عليه و سلم .
لم يقف إمام الجُمعةِ عند هذا بل شرعَ في الثانية بقراءة { إذا جاءَ نصرُ الله
و الفتح } فبدأت جولةً أخرى ، حيثُ لا يأتي النصرُ إلا بعد أن يُقام دستور
الرحمة و الشدةِ على أصوله المحمدية ، لأنَّه في حقيقته رحمه تامةٌ كاملة ، و
في تخلُّفِ أسرارِ ذلك تخلُّفُ النصرِ و الفتْح ، و الفتحُ و النصرُ باطنان و
ظاهران ، فكانت الآية الأولى دستوراً و نظاماً و الثانية نتيجة و ثمرة .
عبد الله العُتَيِّق
--------------------------------------
* نسبةً إلى اسم الشارع الذي عليه المسجد .