للرجولةِ قيمتُها و منزلتها عند أربابِ العقول ، و يَدَّعيْها مَن ليسَ من أهلِ
الاستنانِ بها من الصغار ، و يَرنو إلى المِدحةِ بها الأكابرُ ، فيُمدَح الشخص
بأنه : رجلٌ ، و من قومٍ رِجال ، و فيهِ رُجولةٌ ، و قد يَصِلُ الحالُ أن
تُمْدَح المرأةُ بأنها : مُسْتَرْجلةٌ ، لنُدرَةِ الرجولة بين الناسِ.
و الرُّجولةُ صِفةٌ معنويةٌ و ليستْ شكلاً صُوريَّاً ، فليستْ الرجولةُ هي
الذكورةُ ، و إنما هي صِفةٌ تَلْحَقُ مَن هو مَحلُّ الإتيانِ بِها و هم الذكور
، لأنَّها قائمةٌ على العزائمِ القوية ، و التصرُّفات المتينة ، التي تحتاجُ
إلى إبداءٍ دائمٍ ، فلا يُستلانُ جانبُ ذي الرجولةِ ، و لا يُستهانُ بمشاعره ،
فبتعطُّلِ محلِّ الرجولةِ عن قبولِ معانيها تُنفى عنه و تُلْحَقُ بمن يقومُ
بحقائقِ تلك المعاني ، لأجلِ ذا كانتِ الصِبيانُ يُحاكون الرجالَ في رجولتهم ،
يُقلِّدونَ في الصفاتِ الكبيرة ، و يتكلمون الكلماتِ المتقدمة على أسنانهم ،
فرُبَّ صَغيرِ الظاهرِ غلبَ صغيرَ الباطن ، و كذلك بعضُ النساءِ يَغلِبْنَ
الذكورَ فيَسْلُبْنَهم معاني الرجولةِ التي لم يكونوا أهلاً لها فيُنْعَتْنَ _
تعييباً _ بالاسترجالِ ، و استرجالُ النساءِ محمودٌ فيما كان من كمالٍ لها ، و
العيبُ ما كانَ نقصاً لحقيقتها ، و الاسترجالُ المحمودُ استرجالُ الصفاتِ
الباطنة لا استرجال الأشكال الظاهرة ، فأدركِ الفرْقَ ، فيُطلَقُ الاسترجالُ
على غيرِ الذكرِ مدحاً في غالبِ الأحوال ، لكن التأنيثَ إن أُطلِقَ على الذكرِ
فهو عَيبٌ في كلِّ حال.
الرجولةُ كاملةٌ في ذاتها ، فليستْ صِفةً ناقصةً ، تُعْوِزُها المعاني النبيلة
، و هي من أحوالِ الكمالِ في الشَّخْصِ ، لا من النقائصِ اللاحقة ، و هي دافعةٌ
نحو الكمالِ و تحقيقه ، تراها تبعثُ في نفسِ الذَّكرِ الحركةَ نحوَ التحصيلاتِ
الكمالية ، و تدفعه إلى نَيْلِ المكرُماتِ العالية ، و إنْ تقهقرَ أو رَجعَ
أيقظتْ عليه صوتَ الذامِّ الناقِدِ ، فيُعاب تشهيراً لأن الرجولةَ لا ترْضى
بمحلِّ الدُّوْنِ و الضَّعَةِ ، فمن ادِّعاها و ليسَ فيه سَعيٌ لكمالٍ فهو ذكرٌ
لا رجلٌ ، فكمالُها يُكمِّلُ و لا ترتضي النقيصة .
الرجولةُ خُلُقٌ ، فما هي بالخَلْقِ الصُوْري ، و لا بالبُنيانِ الشِّكلي ،
حيثُ الكمالُ يُصرَفُ حقيقةً للمعاني الخَفِيَّة ، و أما المباني الجَليَّة
فليستْ إلا للكماليات لا للكمالات ، و لا مَدحَ للذكورِ بأشكالهم إلا ممن يَهوى
الشكلَ ، و لا يقعُ على الأشكالِ إلا مَن أشكلتْ عليه الحقائق ، و أما مَن يقصد
الحقائقُ فهو يُشكِّلُ الذواتِ بالصفاتِ و الظواهرَ بالبواطنِ و المباني
بالمعاني ، فالرجلُ إن اتَّصَفَ بالرجولةِ كانَ اتِّصَافُه تَحلياً منه
بالأخلاقِ التي يتخلَّقُ بِها الرجال ، و لَنْ يَحِلَّ خُلُقٌ عظيمٌ إلا في
محلٍّ فيه قبولٌ للرجولةِ ، سواءً كان ذكراً أم أُنثى ، بشراً أم غيرُه ،
فمُدحَ الحيوانُ بأخلاقٍ تُمُنِّيَ أن تكون في الذكور ، فكُفْرُ الذكرِ برجولته
ينقلُها لمن يستحقها ، و لو كان غيرَ بشرٍ .
تلك الرجولةُ بمعانيها صِفةٌ نادرةٌ في الذكورِ ، و لا يَكاد أن يجدها الباحثُ
كمالاً و تماماً في أحدٍ ، إلا في قِلَّةٍ ، لأن الكمالَ عزيزٌ نادرٌ ، و
النادرُ لا يَسعى له إلا نوادرُ الكُمَّلِ .
و الرجولةُ بَعْد ذا كُلِّه قد تكون رجولةً كاملةً ، و هي التي كمُلَتْ صورةً و
صِفةً ، خلْقاً و خُلُقاً ، أو كمُلَتْ خُلُقاً و صِفةً ، فكمالُ الجزءِ
الأهمِّ فيها كمالٌ لها .
و قد تكونُ رجولةً ناقصةً ، تلكَ التي اعترى الذكرَ نوعُ نقصٍ في صفاتِ الرجولة
، فلم يكمُلْ لديه كلُّ أجزائها ، أو غالبُها ، فيُوْصَفُ بالرجولةِ بِقَدرِ ما
فيه .