لا يزال اللاحقُ مِن ذوي المعارفِ يَستدرِكُ على السابق، فيُتَمِّم كلامَه، أو
يُقيّده، أو يُخصِّصه، أو يُبِيّنُه، إلى غير ذلك، فكانَ أن وُضِعَ الاصطلاحُ
في الاستدراكِ و التَّتَبُّعِ على هيئة بناءٍ هرَمي؛ رأسه (المتن)، يليه (الشرْح)،
تعقبُه (الحاشية)، و يُختَم بـ : (التقرير)، و قد يكون ثَمَّ تجاوُزٌ فيهِ، إذْ
لا مُشَاحَّةَ في الاصطلاحِ.
و
(التحشيةُ)
ثالثةٌ في الترتيبِ، و هي مكمَنٌ لدقيق التحقيق، و مخزَنٌ لفهمِ الوهم، فلا
يكادُ يجرؤُ عليها إلاّ النَّبَغَةُ ممن نال التمكينَ في العلوم و المعارف، فشحَّ
الزمان بِهم فلمْ يَجُدْ إلاّ بقِلَّةٍ، و الكرام قليلُ، و اليومَ طرَقَ بابها
من غيرِ بابها مَن جمعَ بين حرفين، و ضبط حركتين، و لمَّ مُتضادَّيْن، و كثيرٌ
ما هُمْ.
و الأصلُ فيها كينونتها في ذات الفَنِّ المطروقة فيه، و بتحقيقِ و تكميلِ ما لا
بُدَّ منه، و ما خرجَ فلا يُحمدُ عند أهل المعارفِ.
نُوِّعَت (التحشيةُ) إلى أنواعٍ:
أوّلها:
تأصيليٌّ، و هو ما كان مِن موضوعِ الكتابِ أو الفنِّ أصالةً، تكميلاً لنقصٍ، و
استدراكاً لِفَوْتٍ، مما به يكتملُ التحقيقُ للمطروقِ فيه، مِن ذلك حواشي
القُدامى، و عليها عَقْدُ الحَمْدِ و الثناءِ عند أهل المعرفةِ، لجودتها و
قيمتها، و ما فيها من منثورِ النُّكَتِ.
ثانيها:
تَكميليٌ، يُقَيِّدُ المُحَشِّي فيها ما يقتنصه من لطيف المُنتخباتِ المعرفية،
و دقيق الأبحاثِ العلمية، مما يُستَلْطَفُ ذكرها، من باب: الشيءُ بالشيءِ يُذكرُ.
ثالثها:
حَشَويٌ، تنتظمُ تحتَ قالةِ: "مَن قرأ الحواشي ما حَوَى شَيْ"، و أصِفُ هذا
النوعَ بـ "الحواشي لواشي" و اللَّشُّ: الطَّرْدُ _ كما في "القاموس" _، و هذه
ظاهرةُ الجيلِ الكُتُبِي في عالمِ التحقيقِ _ لا التأليف _ ، فقد غَدَتْ (التحشيةُ)
صناعةً _ لا فنّاً تأليفيّاً_، ستُقامُ لها أصولٌ هزيلةٌ و قواعدُ مُهْتَرِئَةٌ،
ليسهُلَ الولوجُ لكلِّ لَجوجٍ، و تفنَّنَ أهلُ النوعِ الحَشَوي في (التحشيةِ)
فكانتْ الفنونُ الحشويّة:
أولاً:
فَنُّ الفُروق النُّسَخِيَّة؛ إذْ يَعْمَدُ كثيرٌ
إلى تقييدِ ما يقفُ عليهِ مِن فُرُوقٍ بين النُّسَخِ للكتابِ الواحد، فيقيمُ
سطراً لحرْفٍ، جادةَ المستشرقين في النسخِ و الإظهار، يكتبُ: في نُسخةٍ ( وَ )
بدلَ ( فـ ) ، و في نسخةٍ: صلى الله عليه و سلم، و في أخرى: عليه السلام. و
غالبُ الفروق لا تلوي على شيءٍ، و هذه صنعةُ مَن لا يُدرك إلاّ رَسْم الحرفِ
فيُحسن الوَقْفَ، وَ عجبٌ أنَّ مُتَّخِذَ هذا الفنِّ محمودٌ، و موصوفٌ
بالدِّقَةِ، و كم دِقَّةٍ أورثَتْ دَقَّةً، و أهل النوعين السابقين يلْحقهما ذمٌ
جَمٌّ.
ثانياً:
فَنُّ السَّرْد المَرْجعي ، عِند العَزوِ _ لما
في المتنِ _ في الحاشيةِ يَروقُ لبعضٍ أن يأتي بجرِّ عَزْوِ المَرْجِعِ، فيسرُدَ:
الاسمَ، و المؤلفَ، و لقبَه، و مولدَه و وفاتَه، و المحقِّقَ، و الجزءَ، و
الصفحةَ، و الناشرَ، و تاريخَ النشرِ، و رقمَ الطبعةِ، و بلدَ الناشرِ. يهونُ
الأمرُ إن كان المرجعُ واحداً، لكن إن كان أكثرَ من مرجعٍ، و ليتَ الاقتصارَ
على جرِّ العزوِ أولَ الأمرِ فحسب، بل عند كلِّ ذكرٍ للمرجعِ، على أن الاقتصارَ
على: الاسم ، و الجزءِ، و الصفحةِ، كافٍ، و لكنَّها آفةٌ أكاديميةٌ، الصبرُ
عليها ضرورةٌ على ضررٍ.
هذا الفنُّ مُملٌّ لما فيهِ مِن طولٍ مَهولٍ، و ضخامةٍ مُسْئمةٍ.
ثالثاً:
الفنُّ التسويقي، يَتخذُ البعضُ (التحشيةَ) محلاً تطبيقياً لفنِّ التسويقِ،
فيُنَزِّلُ نظرياتِها ليُحْسِن الفنَّ، يذكرُ كثيرٌ كثيراً مِن: لنا، كتبنا،
حققنا، لن تجده في غير كتابنا.
و من التسويقِ تهميشُ الغيرِ _ بأدبٍ في التسويق _ فيُسطِّرُ: لديه أخطاءٌ
كُثُرٌ، صحَّفَ و حرَّفَ، له وهمٌ و خلْطٌ، ليس من أهل الفنِّ... .
انتقلتُ مِن فنِّ (التحشيةِ) الأصيلةِ إلى صناعةِ (التحشية) الدخيلةِ دون إشارةٍ،
أدْعى لِلَفْتِ القلبِ، و صرفِ النظرِ، و بين الفنِّ و الصناعةِ فرْقٌ يلمعُ
كبرْقٍ.