|
إن الناظرَ في أحوال الأمم و تجاربها يَلْحَظُ فيها أنها قد قامت على إحدى
قاعدتين :
الأولى : الكيانُ الأممي .
الثاني : العقل الأممي .
و حين النظر ثانيةً إلى تلك نلْحَظُ تفاوتاً بيِّناً ين نتائج تينك القاعدتين
.
إن الاعتماد في الإنتاج على الكيان أو الجسم لن يَعْدُوَ نتاجه ذلك الكيان ،
بل ينتهي بنهايته ، و أما الاعتماد على العقول الفعَّالة ، و الابتكارات
المُخْتَرِعة فإنه سَيُوَرِّثُ أكبرَ نتاجٍ تنتفع به الأمم ، و يدومُ معها في
أحوال الزمان و تقلُّبَاته .
من ذلك يتضحُ أن نجاح أي أمرٍ إنما هو بتدعيمه بإدارة العقل ثم بالجسم المنفذ
لما تُمْلِيْه تلك الإدارة .
و حتى يتحقق هذا لابد من تفعيل القُدُرات العقلية ، و حثِّها على الإنتاج
الفكري إما بتحديث أو بتجديد .
تحديثٌ لمقومات تدفع بعجلة نجاح ما نريده ، و تجديد لكل قديم قد كرَّته
الأيام .
و إن أحوجَ شئٍ إلى تلك القُدُراتِ العقلية ( الدعوةُ إلى الله ) ، فهي من
أعظم الوظائف الإسلامية ، و من هذه الحيثية كانت الحاجة إلى تفعيل العقول
لخدمتها توسيعاً لها في نطاقٍ أكبر في الأرض .
و ليتبين لنا مدى الحاجة إلى هذه العقول و الإدارة العقلية الفعالة في (
الدعوة إلى الله ) ليس علينا إلا أن نقوم بالنظر في أدوات تبليغ الدعوة ،
فإننا نرى فيها : قصوراً واضحاً ، و قِدَماً بيِّناً ، و معها لا نكاد نصل
إلى ما نريده إطلاقاً إلا شيئاً يسيراً .
و نحنُ في العمل الدعوي نقومُ بأعمال البدن و الجوارح ، أما ما يتعلَّق بأمور
التفعيل العقلي و التدبير الذهني للمجالات الدعوية فهذا مما نفتقده في حياتنا
الدعوية .
و هل ننتظرُ حتى يخرجَ لنا من أهل الإسلام مَنْ يُتْقِنُ الإدارة العقلية ؟!
لا ، و إنما علينا الاستغلال للتقنيات الفنية الخادمة في المجال الدعوي ، فهي
مرْتعٌ خَصْبٌ لتوسيع نطاق العمل الدعوي من خلالها ، و ذلك لما تميزت به من
ميْزَات مهمة :
الأولى : الاتساع و البُعْد .
الثانية : السهولة و اليُسْرُ في التعامل معها .
الثالثة : الإقبال ليها مِنْ قِبَل العامة .
و فيها كفايةٌ للكشف عن أهميتها ، و تحريضٌ على استغلالها . و الأخذ بها طلبٌ
مُلِحٌّ في الجانب الدعوي .
و ما أحسن أن يقوم فئات في مجتمعٍ مُسْلِمٍ بأعباء الدعوة إلى الله _ تعالى _
و يقوم آخرون بأمر التدبير الإداري العقلي للدعوة ، إذ أننا نرى إهمالاً في
الإدارة الدعوية واضحاً لا يكادُ يُنكر ، و إليكَ جوانبُ من ذلك :
أولاً : الجانب الإداري ، فالإخلال في هذا الجانب كبير و بيِّنٌ و يفقد
أموراً ثلاثة :
1-
الإدارة .
2- التخطيط .
3- الأهداف .
فغالبُ الأعمال الدعوية سائرة بعمايةٍ و غَبَشٍ ، و موفقةٌ ببركة الله _
تعالى _ و حفظه لها ، و إلا فإن أمثالها لا يُحالفه التوفيق ، و لا أرمي بذلك
أن الدعوة قيامها بهذه الأمور مُغْنٍ عن توفيق الله _ تعالى _ و لكن هي من
ألأسباب التي بها يكون تحقيق العمل و إيصاله .
و هذه الأمور لا يُوجد لها في العمل الإداري أيةُ أثرٍ ، و إن كان ففي نظريات
بدائية عن تصورات شخصية ، فليست قواعد مُقَنَّنَةٌ عند الإداريين فيُعْتَمَدُ
عليها ، و هل هذه ذاتُ جدوى في العمل ؟!
و تكمن أهميةُ هذه الأمور إذا أبصرنا نتائجَ العمل في خواتيمه ، و رأينا
الفوضوية و الخلل في الثمار .
إن الأعمال التي يقوم بها المرءُ في حياته لابد لها من مقاصدَ و غاياتٍ و
أهدافٍ يُسْعى إليها ، و الأهداف ضمانات للمسيرة العملية في أيةِ عمَلٍ يعمله
المرء .
و الأهداف نوعان :
أولهما : أهدافٌ زمنية ، و هي الأعمالُ التي يتمُّ إنجازها في غضون زمان
مُعيَّنٍ ، و الأهداف هذه قسمان :
الأول : أهداف بعيدة المدى .
الثاني : أهداف قصيرة المدى .
و الأول غالباً ما يكون للأعمال التي تتمتع بالشمولية و الكِبَر ، و الثاني
دون ذلك .
ثانيهما : أهداف كيفية ، و يُرادُ منها الصفات و الكيفيات التي تكون عليها
الأهداف و الأعمال الدعوية و هي قسمان :
أولهما : ما يتعلَّق بذات العمل الدعوي كـ :الوسائل و الغايات .
ثانيهما : ما يتعلَّق بالذوات المتعلقة بالعمل الدعوي ، و هذا شيئان :
أ- القائمين بالعمل ، وصفهم ، قُدُراتهم ، أعمالهم .
ب- المُوَجَّه إليهم العمل الدعوي .
فالعنايةُ بهذه الأهداف يضمن لنا إحكام العمل الدعوي ، و من ثَمَّ يَطيبُ
النتاج و يُزهرُ الجنى .
و لِتمامِ المقصود على أحسن أوجهه لابد من رعايةِ أمرين :
الأول : الواقعيةُ ، فلا يكون : التخطيط و الإدارة و الأهداف من باب الخيال ،
و إنما إظهاره في أرضِ الواقع مهم للغاية ، و _ أيضاً _ مراعاة أحوال الواقع
المُعاش .
الثاني : المرونة ، و تعني : يُسْرُ التعامل معَ الطوارئ و العوارض في مجال
تنفيذ الأهداف ، فإن الدقة في التخطيط الداعية إلى التخبط ليست من حُسْنِ
الإدارة في شيء .
فالمرونة تجعلُ العمل يسير سيراً مضبوطاً و لا يكون في مسيره غضاضةٌ و لا
إشكاليةٌ ، و أما حَصْرُ الأهداف في زمنٍ و مكانٍ و طريقة بالتحديد الدقيق
ففيه مَضَرَةٌ و مَشَقَةٌ .
فالمشقةُ بعدم الإتيان بالهدف فيما حُدِّدَ له حيث العوارض التي تعترضُ
الأهداف .
و أما المضرة فبالسابق : المشقة ، و بتخلف تنفيذ العمل .
و حاصل المرونة أن يكون ذلك الثلاثي ( الإدارة ، التخطيط ، الأهداف ) مطاطيةً
فكيفما كانت الأمور جاء العمل و تحقيق الهدف معها .
و قَيْدُ المرونة : أن يكون بقدر معقولٍ متناسبٌ مع أحوال الزمان .
و الجانبُ الثاني : العمل الواقعي ، إن أعمالنا الدعوية في الميادين الواقعية
تعيشُ نوبَةً من الخلل المستطير المُنْبيء عن خطورة كامنة ، جرَّ تلك الخطورة
عدمُ حُسْنِ تصرُّفٍ في أداء العمل الدعوي في ميادينه .
فكثيراً ما نأخذُ قواعدَ و أصولاً دعويةً و نقتنع بها ، و نتعرَّفُ على
أساليب كثيرةً في الدعوة لكن الخلل في تطبيق هذه الأمور .
بل الأدهى من ذلك كله أننا نَرْكُدُ على حالٍ واحدة و ندوم عليها ، فلا نفكر
بتقديم أساليب حديثة منها يكون اتساع نطاق الدعوة ، و بها يكون التأثير
البليغ في المجال الدعوي .
إننا نحرصُ على أمورٍ و أساليب دعوية كثيرةٍ بِدائية لها أثرٌ بالغ _ بتوفيق
الله _ ، و لكننا في الوقت ذاته نريد الانتقال من هذه الدائرة الضيقة إلى
دائرةٍ أوسع و أشمل .
نتحسَّرُ حين نرى أهل الكفر و دعاة الباطل قد سبقونا بمفاوز في أساليب نشر
دعواتهم ، و اتسعت رقعُ دعواتهم و أفكارهم في الأرض ، بل من بني الجِلْدَةِ
مَنْ سبقَ إلى أفكارٍ متعددة النطاق ، متسعة الساحة.
لستُ داعياً إلى سلوك ما تقرر في دين الله تحريمه ، و إنما أطالبُ بأن نسلك
أموراً مباحةً و جائزٌ الأخذ بها ، و هي كثيرة _ و لله الحمد _ و لن
يَتَبَصَّرْها إلا مَنْ فتحَ الله على قلبهِ فأبصرَ حقائق الدعوة إلى الله .
إن أسلوب : الشريط المسموع ، و المطوية ، و الكُتَيِّب و غيرها قد شرب منها
الزمن حتى رَوِيَ ، و ملَّت الناس رؤيتها ، و التنويع بينها و أخواتها من
أساليب التبليغ و الدعوة مطلوب .
و مثلها أسلوب الإلقاء للحديث فالعادة القديمة في الحديث و الكلام لابد من
تجديدها و تطويرها إلى أساليب أُخَرَ توحي بانبعاث النفس نحو الكلام
المُلْقَى ، و تسلبُ الفؤاد ، و تسحر القلب .
و يأخذُ المجرى ذاته المجلات و الصحافة الإسلامية فليس من المعقول أن تكون في
الذنب و الباطل في الرأس ، و ليس منه كذلك أن تطرحَ طروحاتٍ مجتها الأنفس ، و
سئمتها الأعين ، و الذي عليها للأمة الإسلامية أن تنتقل من الطور و الطراز
القديم إلى التجديد الدائم المستمر .
و مثلَ هذا يكون الحديث عن الإعلام الإسلامي ، فأينه و التطور ؟ و أينه و
التقنيات الإعلامية التي أصابت العالم بتخمة منها ؟
لا شيء ، و أستغفر الله ، هذه هي الإجابةُ المحزنة .
إننا لسنا بأقلَّ من أهل الغواية و الردى : عقلاً ، و ذكاءً ، و قُدْرَةً ، و
نستطيع أن نأتي بمثل ما أتوا به بل بأكثر و الله يقول : { و الذين جاهدوا
فينا لنهدينهم سُبُلنا و إن الله لمع المحسنين } .
فهما قيدان للهداية بهما يكون التوفيق نحو السداد ، و بدونهما لا يكون شيئٌ :
الأول : بذلُ الجهد .
الثاني : الإحسان في العمل .
فلم يبقَ عُذْرٌ لنا في التخلف عن ركب التقنية المتطور ، و ليس لنا أيةَ حجةٍ
إذا أشبعنا أمتنا بما لا ينشر أصولها في أرجاء الأرض .
نؤمنُ بأن دين الله _ تعالى _ سيعمُّ أرجاءً كبيرة ، و أن المستقبل لهذا
الدين ، و لكن نؤمنُ أيضاً أنه لا يكون ذلك إلا بأسباب تتفاقم مع حجم الزمن
الذي تعيشه الأمم ، و الأساليب التقليدية لا يُؤْبَه بها .
من هنا تكون البدايةُ في السعاية بالدعوة نحو الأمام ، و تطوير تقنياتها ، و
إيجادُ عقولٍ مُدَبِّرَةٍ مُفَكِّرَةٍ تضيء للدعوة طُرُقاً و دروباً ، و
نُحْدِثُ من السالكين سبيل الدعوة أقواماً تنفيذيين لأفكار تلك العقول .
و غضُ الطَرْفِ عن الخلافيات التافهة مهم جداً في مسيرة العمل الدعوي .
أرجو أن أكون وضعتُ نقاطاً على أحرفٍ ، و رمقتُ بعين النصح مواضع الداء ، و
أفلحتُ في وصف الداء .
12/11/1423هـ
الأربعاء - الرياض