|
( المراهقة ) نَقْلَةٌ حياتية يمرُّ بها الشاب أو الشابة في مرحلة ما
بعد البلوغ ، و هي تُشْعره بنوعٍ من الاستعظام الذاتي ، فيُحاكي ( أو تحاكي )
من هو أكبر سناً .
و هذا مُلاحَظٌ فإن أغلبَ المُراهقِيْن يتصرَّفُ تصرفاتِ الكبار ، فيصنع
كصنيعهم ، و يسير مسيرتهم ، بِغَضِّ النظر عن صحة ذا أو خطئه ، فالمهم عنده
أنه قلَّد كبيراً ، و صنع صنعة من يراه أهلاً للتقليد .
و هذه يستعظمها بعضُ المُرَبين ، و يرون أنها آفةٌ من الآفات الخطيرة التي لا
علاج لها ، و لا سبيل إلى إقصائها و حلها .
لذا كان خطئاً العنايةُ بالتنظير التعليمي للمراهق في علاج تلك الأحوال ، و
مجانبة تلك التصرفات .
و حتى نجعل من المُراهق شخصاً ذا دورٍ إيجابي فإن لنا مرحلتين جديرتين
بالاهتمام الشديـد :
الأولى : المرحلة العاطفية .
غالباً ما تكون مرحلةُ المراهقة
مرحلةً يفقد فيها المراهق ( العاطفية ) و ( الحِنيَّة ) و ( الوداد ) ، فيسعى
لتحقيق تلك الرغبة في أي مجال يتمكن منه .
و لا ريب أن إشباعها يعني الكثير للمراهق ، و مِن ثَمَّ يتودد إلى مَن
يُشْبِعُ له تلك الرغبة و يحققها له .
لا تكادُ أسماعنا تقف عن سماع أقاصيص من البعضِ في ميول المراهقين إلى
ثُلَّةٍ من الناس لا يساوون قذاةً ، و لا يَزِنُ بهم شيئاً ، و لو بحثنا
بِدِقَّةٍ في الأمر لوجدنا أنه حصَّل عندهم ما فقده من الأخيار .
كون المراهق محتاجاً إلى تلك العاطفية عائد إلى صِغَر عُمُرِه ، فليس كونه
بلغَ ( 15 ) و زاد أنه أصبح رجلاً فيُحْرَم من التعامل معه بالعاطفية ، و ليس
كونه تجاوزَ سنةً دراسية كان معه الأخذ له بأسلوب كبير يفوق عقله .
و إشباعُ الحاجة العاطفية لدى المراهق
تكون بأمور كثيرة ، منها :
1-
عُذُوْبَةُ اللفظ ، فإن غالباً ما يُواجَه المراهق بألفاظ فيها قسوة و
غِلْظةٌ مما يجعله نافراً عن قبولِ أيِّ شئٍ من المقابل له ، و اللفظ الحسَنُ
العذب يَسْلِبُ اللُّبَّ و يَسْحَرُ العقْل ، و معلومٌ حديث رسول الله صلى
الله عليه و سلم : " إن من البيان لسحراً " و بيانُه يُغْني عن تبيانه .
و تتأكدُ هذه الحالة في حينِ وجودِ أخطاءٍ من المراهق ، فإنه يصادمُ بسيئ
اللفظ إن أخطأ ، و يقابل بفاحش القيل إن بَدَرَتْ منه زلَّةٌ و صبوة .
2-
معاملته بتفكيره _ مؤقتاً _ ، يدورُ تفكيرُ أغلب _ بل كل _ المراهقين حول
أمورٍ لا يخرجُ مجملُها عن نطاق ضيِّقٍ جداً ، فهي بينَ أمانٍ و طموحاتٍ و
آمالٍ من ذوات الظل القريب .
و المَسِيْرُ معه في تفكيره ، و محاكاته في طموحه ، و التفاعل مع أطروحاته
مما يُشْبِع حاجته العاطفية ، فهو يُحِبُ مَنْ يفكر كتفكيره ، و يميل إليه و
كما قيل : الطيور على أشباهها تقعُ .
و لِيُنْتَبَهُ إلى أن التفاعل معه في هذه النقطة مُمَهِّدٌ للمرحلةِ الثانية
الجادة ، و لكن لابد من خطواتٍ قبل الانتقال إليها ، بها يُحْكَمُ سَيْرُ
المرحلة الثانية ، و يُعْطي المُربي اطمئناناً بِثِقَةِ المراهق بجدوى
المرحلة الثانية ، و الخطوات هي :
أولاً :
التبصُّر بمواضع الضَعْفِ في المُراهق ، فَحِيازةُ هذه الخطوة و النجاحُ فيها
مكْسَبٌ كبيرٌ جداً للمربي ، إذ موضع الضعف في المراهق هو مَكْمَنُ الخَطَر و
مَوْطِنُ الزَلل . تقولُ كيف ذلك ؟ فأقولُ : الغالبُ على المراهقين أنه
يَشْعُرُ بِخَرْقٍ في شخصيته فتراه مُحَاكِيَاً من هو أرفعُ منه _ في ظنه _
فلا يَعْتَرِفُ أنه ذو شخصية متفرِّدَةٍ متميِّزَةٍ ، و هذه من أجزاءِ
نُقْطَةِ الضعف التي تكون في المراهق .
فإذا تبصَّرْناها و عرفناها بِدقةٍ يكون الانتقال إلى الخطوة الثانية و هي :
ثانياً :
معرفةُ ميول المراهق ، فإن سِنَّ المُراهَقة سنُّ أحلامٍ و أمانٍ عريضةٍ ، و
مرحلةٌ واسعةُ الخيال لدى المراهق ، فتراه يُؤَمِّلُ آمالاً ، و يتمنى أماني
، و يَسِيْحُ في خيالاتٍ واسعة الأرجاء .
و معرفتها مُهمةٌ جداً فمنها يكون التوجيه و منها تكون التربية ، و بِعدمها
لن يكون أي نِتاجٍ متين في سلوك التربية مع المراهق .
و إذا تَفَهَّمَ المربي هذه الخطوة و أتقنَها فإنه ينتقلُ إلى الخطوة التالية
.
ثالثاً :
التوجيه اللبِق _ و اللباقة الحذق في العمل _ ، و هذه بيتُ القصيد في حياة
المراهق فإنه لم يجد من يقوم بتوجيهه نحو الأصوب له في حياته ، و لم يَظْفَرْ
بِمَنْ يُسَدِّدُ له تصرُّفَاتِه .
و المراهِقُ يتصرَّفُ بما يراه من أعمالٍ و تصرفاتٍ حولَه من الناس الذين
يراهم قُدُوَاتٍ له يُأتَسى بهم ، و حين لا يرى من يوجه ميوله نحو السداد ، و
يهديه نحو الكمال فإنه سيبقى سادراً في مسيره ، هائماً في طريقه .
و هنا لا يحتاجُ المربي إلى كبير عملٍ لأن المراهق نفسه قد أبدى من نفسه
قناعاتٍ كثيرةٍ جداً _ كما هو سابقٌ في تبيان الخطوات _ ، و ما عليه بعدُ إلا
أن يبين للمراهق بأن الطريق الصواب هو من هذه الجهة ، و بلزوم تلك الطريق .
فإذا ظَفِرَ بها المربي و أحسن سَلْبَ لُبِّ المُراهقِ _ هنا _ يكون البَدْءُ
بالمرحلَة الثانية التي تَعْقِبُ المرْحَلَةَ العاطفية ، و هي :
الثانية : المرحلة التربوية .
و هذه المرحلةُ هي الأساس و هي المقصد
و الغاية من معاملة المراهق و العنايةِ به ، و تربيةُ المراهق لن تكون صعبةً
_ و لله الحمد _ لأننا أنجزنا أكثر من نصف الطريق في المرحلة الأولى .
و كل ما على المربي هو أن يقومَ بتربيةِ المراهقِ تربيةً ذاتِ سداد و إصابةٍ
، و يُنَوِّعُ في أساليب التربية حتى لا يَلْحَق المراهق ملل ، و لا يعتري
التربية خلل .
يستطيعُ المربي
التنقلَ بالمراهق في مجالاتٍ كثيرةٍ جداً ، و مجموعُ تلك المجالات ثلاث
مجالات :
الأول : المجالُ المَعْرِفي .
المَعْرفةُ مما مايَزَ الله به بين
الإنسان و الحيوان ، بل هو أداةُ العقل و غذاؤه ، و لا يخلو منه الإنسان مهما
كان .
و المعرفة يتفاوتُ البشر في تحصيلها ، و يتفاوتون في قيمتها ، و قيمةُ المرء
ما يُحْسِنه .
و أهميتها بالنسبة للمراهق تتركز في جهتين اثنتين :
الأولى :
أنها توجيه و تبصير .
الثانية :
أنها تثبيت و تأييد .
و سواهما داخلٌ فيهما .
و المعرفة تتنوعُ و إليك أنواعها :
1-
المعرفة الدينية ، و هي التي يكون بها معرفةُ المراهق أمورَ دينه و أحكامه ،
و قسمان :
الأول :
الواجب العيني ، و هو أنواعٌ أربعةٌ :
أ-
أصول الإيمان ، و القدرُ الواجبُ منها العلم الجُمْلي لا التفصيلي .
ب-
الأحكامُ الفقهية ، و هي أركان الإسلام ، و الواجبُ معرفةُ ما تقوم به تلك
العبادات صحةً و إجزاءً .
ت-
معرفة المحرمات ، و هُنَّ خمس _ كبائر _ في قول الله _ تعالى _ : { قل إنما
حرَّمَ ربي الفواحش ما ظهرَ منها و ما بطن و الإثمَ و البغي بغير الحق و أن
تُشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا و أن تقولوا على الله ما لا تعلمون } .
ث-
الأخلاقُ و الأدابُ مع الناس خاصةً و عامةً
انظر : مفتاح دار السعادة 481:1-482 .
فإذا مرَّ المراهقُ على هذه المسائل معرفةَ إتقان و درايةٍ بها يكون قد أتى
بما لا يجوز له لجهلُ به في دين الله _ تعالى _ .
القسم الثاني :
الواجب الكفائي ، و هو الإتيان بالعلم بما لا يجب على الإنسان أن يتعلمه و
إنما هو من باب الكفائية و الندب .
و هو منقبةٌ و فضيلة .
2-
المعرفة الثقافية العامة ، كالاشتغال بسائر العلوم التثقيفية كالتاريخ ، و
الأدب ، و الإدارة و غيرها من الثقافات .
الثاني : المجالُ الإيماني .
الإيمانُ أساسُ الحياة ، و بستان
القلب ، و لا يستغني عنه المرء أبداً و لو تمتع بكل ما أوتيه من مُتَعٍ و
لذائذ .
و التربية الإيمانية مهمةٌ في حياة
المراهق ، و أهميتها في أمرين :
الأول :
أنها أساسٌ في حياته عامةً ، و في حياة المراهقة خاصة .
الثاني :
توثيقاً للصلة بينه و بين الله _ تعالى _ ، و نتائج هذه كثيرةٌ و مهمة
للمراهق .
و المجالات التربوية الإيمانية ثلاثةٌ
:
أولها :
الصلاة ، و المراد بها غير الفريضة كـ : الرواتب ، و قيام الليل ، و الوتر ،
و النافلة المطلقة ، و النافلة المقيدة .
ثانيها :
الذكر ، و هو ذكر الله _ تعالى _ و يُقْصَدُ به غير الواجب ، والواجب ما تقوم
به الصلاة ، والمقصود _هنا _ : أذكارُ طرفي النهار ، و أدبار الصلاة ، و
الذكر المطلق .
ثالثها :
قراءةُ القرآن في : إقبال النهار و إدباره ، و دُبُرِ الصلوات ، و الوِرْدُ
اليومي . و لا يُرادُ بقراءته الواجبة التي لا تتم الصلاةُ إلا بها كالفاتحة
.
هذه هي مجالات التربية الإيمانية للمراهق ، و هي الداعم المعنوي للسير به نحو
التميُّز و التفوق .
الثالث : المجالُ الخُلُقي .
المرءُ مدنيٌ بطبعه ، لا يستغني عن
معاشَرة بني جنسه ، و لا يستطيعُ الفكاك عنهم مطلقاً ، و هذه الغريزة النفسية
التي وهبها الله المرء تحتاجُ إلى من يَصقلها و يهذبها ، ويصوِّبُ سيرها نحو
الكمال والتمام .
و من كمال الشريعة أن جاءت بما يُكمل هذه الناحية ، و يهذب هذا المجال ،
فجاءت بأخلاقٍ كثيرةٍ جداً و آدابٍ بها قِوامُ السلوك الاجتماعي على أحسن
وجوهه .
و المراهقُ جزءٌ من المجتمع المسلم _ و غيره _ فلابدَّ من تربيته أخلاقياً
حتى يستقيم سيرُه بين الناس على أحسن الأوجه ، و أتم الصُوَر .
الشريعة جاءت بأخلاقِ المعاشرة الاجتماعية و نوعتها أنواعاً متعددة يَصْعُبُ
حَصْرُها في هذه العُجالة ، و الإشارة إلى أصول الأخلاقِ حَسَنٌ جميلٌ .
و أركان الخُلُقِ الحَسَن :
1-
العلم ، و مضى تقريرُ ما يحتاجه المراهق .
2-
الجود ، و هو مراتب أعلاها : بذل النفس ، و بذل العلم ، و بذل الجاه ، و بذل
المال .
3-
الصبر ، و هو أربعةُ أنواعٍ :
أ- صبرٌ على الطاعة .
ب- صبرٌ عن المعصية .
ت- صبرٌ عن فضول الدنيا .
ث- صبرٌ على المِحَن و المصائب .
و أضدادها أركانٌ للأخلاق المذمومة المرذولة .
فهذه مجالاتُ المرحلةُ الثانية في التعامل مع المراهق ، و السير معه في
إقحامه دربَ النجاة ، و تبقى لفتةٌ ذاتُ بالٍ يجبُ الوقوف عندها ، و هي : أن
تمام تينك المرحلتين صُنْعاً و إحكاماً يكون بالمربي ذاته ، فمتى ما كان
المربي على أوفقِ حالٍ و أجملها كان النتاجُ طيباً مبارَكاً ،
و المربي ينبغي أن يكون متصفاً بأصول
ثلاثةٍ :
الأول :
العلم ، فإذا كان المربي خالي الوِفاض من العلم و المعرفة كيف يكون متأهلاً
للتربية لغيره ، بل عليه أن يكون متأهلاً بعلومٍ و معارف كثيرةٍ .
الثاني :
إجادةُ أسلوب التربية ، و أعني بها السياسة التربوية لإيصالِ الغاية و
المعرفة للمراهق ، و أصلها التدرُّجُ بالمراهق من البدايات إلى النهايات .
الثالث :
أن يكون أهلاً للاقتداءِ به و الإئتساء به ، و التواضع البارد في هذه
المجالات غير مقبول و هو نوع من الخذلان و الهروب عن المسؤولية .
نعم ؛ لا نريد رجالاً يعتزون بأنفسهم و يجعلون منها شيئاً له بريقٌ و لمعان
مع الخلو من الحقيقة ، كما أننا لا نريد رجالاً لا يرون أنفسَهم شيئاً و هي
هي بالمقام التربوي و المعرفي .
إن تأهل المربي لأن يكون محلاً للاقتداء مهم في وظيفةِ ( صناعة المراهق ) لأن
المراهق يريد أحداً ينظرُ هو إليه على أنه مستحقٌ للاقتداء به و جعله نبراساً
و مثالاً للحذو على منواله ، و أقربُ مَنْ له هذه الصفة و الحالة هو المربي
الملاصق له في أغلب ساعات يومه .
و لأهمية هذه اعتنى أهل التربية و السلوك بها فسطروها في تصانيفهم التربوية و
السلوكية ذاكرينَ لآدابهم و أخلاقهم ، و ما ذلك إلا لكونهم أسوةً لغيرهم من
المُرَبَّيْن و غيرهم .
و أصلُ كلٍّ في المربي أن يكونَ مراقباً الله _ تعالى _ في جميع أحواله و
شؤونه فإنه _ تعالى _ رقيب على كل ظاهر و باطن ، و كل جلي و خفي .
و المُربي أصلٌ و المراهقُ فرعٌ و لا يطيبُ الفرع مع فساد الأصل .
و من أجل أن
تتحقق الرغائبُ ، و تُنالَ الكمالات في ( صناعة المراهق ) الاهتمام بأمرين
مهمين في كل عمل و هما :
الأول :
العزيمة في العمل و السير فيه .
الثاني :
الجدية في إتقانه .
و منهما و فيهما أمران :
أحدهما :
حُسْنُ الإدارة و ذلك بـ : التخطيط ، و صياغة الأهداف .
ثانيهما :
التفاؤل و عدمُ اليأس ، و الفشلُ أولُ خُطى النجاح .
هذه معالمُ مُشرقةُ واضحةٌ في ( صناعة المراهق ) جادَ بها على عِوَزٍ الفكرُ
المكدود ، سدد الله الخُطى ، و أقالَ الخطا ، و بارك في الجهد ، و أفاد
السَّعْد .
11/11/1423هـ
الثلاثاء - الرياض