|
جميلٌ أن يُعملَ الإنسان عقله و فكره مقيِّماً أمراً مما يسوغ له أن يدخل في
التقييم له ، و هذا نوع من إعمال الفكر في اختيار و تحقيق ما يناسبه .
لكن المؤسف أن يكون هذا التقييم مطلقاً لا ضوابط له ، أو يكون اتكاؤه على
ضوابط وهمية خرافية لا تنتج إلا خللاً كبيراً ، و خرقاً واسعاً .
فلعظم هذا الأمر تعيَّن الكتب في هذا إيضاحاً و بياناً للخلل الواقع و الحاصل
في التقييم عند كثير من طلاب العلم .
و قبل البدء بذكر الخلل أريد أن أبيِّن أن التقييم إنما هو : تقييم بعضُ طلاب
العلم الشيوخَ من أهل العلم ، و الدين .
فمن الخلل :
أولاً : تقييم العالم بكثرة دروسه و
لقاءاته العلمية .
و هذا سائد و منتشر عند الأغلبية من
طلاب العلم ، فما أن يروا عالماً قد ربت دروسه و كثرت إلا و تكالبت عليه
ألقاب التعظيم ، و شارات : العلامة ، الفذ ، الحافظ ، … إلخ .
و يكون هذا التقييم في بعض الأحايين في مقابل عالمٍ آخر مثله في : السن ،
العلم ، المكانة ، الشيوخ.
و هذا خلل بيِّن لكل ذي عينين ، و واضح لمن أنار الله بصيرته .
فلم يكن معهوداً عند السالكين مجال العلم أن كثرة دروس الرجل دالة على قوة في
العلمية تؤهله أن يفضل على غيره ، أو أن يُلزم فلا يُغادر درسه .
و ليست قلتها دالة على قلة علم الرجل ، و ضيق مداركه العلمية .
و لو نظرنا بهذا الاعتبار لكنا مُسْقطين لجملة من أهل العلم _ الذين هم أهله
_ في قديم الزمان و حديثه ، و آخذين لجملة من المتصفين بالعلم _ و لم يدركوا
حال الذين قبلهم _ كذلك .
نعم ؛ الأصل أن كثرة الدروس فيها دلالة على كثرة علم الشيخ و لكنها دلالة
ظنيَّة لا يقين فيها .
و بيان كونها ظنية ليست باليقينية أن أهل العلم فيهم تفاوت في أحوالهم :
فمنهم من هو كثير الأشغال ، فلا يكاد يجد له وقتاً يفرغ فيه للتعليم أصلاً ،
أو الزيادة من مجالس التعليم .
و منهم من لم يفتح الله _ تعالى _ له في التعليم لكن فتح عليه في مجالات أُخر
.
و منهم من لم يُعرف ، و منهم من لم يُعطَ أسلوباً في التعليم مناسباً لحال
طلاب زمانه .
إلى غير ذلك من الأحوال التي لا يكاد يخلو منها أحد من أهل العلم ممن هذا
شأنه .
و إذا نظرنا أيضاً إلى العالم المكثر من الدروس و مجالس التعليم نجد أن الكتب
التي يقوم بشرحها و تدريسها كلها ذات ترابط بينها فهو إما أن يشرح في : الفقه
، أو الحديث ، أو الاعتقاد ، أو المصطلح ، … إلخ ؛ فهذه كلها علوم كتبها إنما
هي إعادة و تكرار ، فليس فيها دليل على علمية العالم ، أو قوته .
ثانياً : التقييم بكثرة الكتب .
يعمد كثير من الناس إلى تقييم العالم
و إيضاح رتبته العلمية من خلال ما له من الكتب و التصانيف ، و هذه حجة الجاهل
بأحوال أهل العلم ، و مسالك التصنيف .
لو كان كلُّ من صنف و ألف عالماً لما كان للقولة الشهيرة ( من صنف فقد استهدف
) و لا للأخرى ( من ألف فقد عرض عقله على الناس ) أي معنى و مكانة ؛ إذ لو
كان لا يؤلف إلا العالم لكان تأليفه عرض لكمال عقله ، و تمام علمه و نضوجه ،
لا ليحظى بتقييم ممن هو بحاجة إلى تقييم .
فلو أبصرنا حال المكتبات في هذه الآونة لوجدنا الأكثرية من المؤلفين إنما هم
ممن ليسوا على حال متقدمة في العلم .
بعض أهل العلم لا يرى نفعاً _ له _ في التأليف و التصنيف فلا حاجة له في أن
يشغل نفسه في مثل ذلك .
و منهم من لم يرزقه الله جلداً على التأليف و الجلوس له ؛ إذ التأليف محتاج
إلى تفرغ للبحث و التنقيب في بطون الكتب .
و منهم من يكتفي في التأليف في الأمور التي لم تطرق فيؤلف فيها .
و غالب من ألف حاله بعكس حال من لم يؤلف .
بل أكثر التآليف في هذه الأزمنة مفرغة من الأشرطة السمعية فليست تأليفاً ، و
لو صحَّ أن تسمى تأليفاً لكان كل بليغ و متفيهق يتكلم في أشرطة ثم تفرغ و
تنشر كتباً مرقوم على طرتها ( تأليف ) .
ثالثاً :التقييم بكبر السن .
ما أظن زماناً عُهد فيه تقدم السن
دليلاً على العلم مثل زماننا هذا .
بل لم يعرف للعلم وقتاً و لا عمراً ؛ و إنما هو مُنالٌ بالجد ، و السلوك
الأمثل في التحصيل .
لا شك أن للعمر دوراً في رسوخ القدم في العلم و التمكن فيه ، و قوة التحرير و
التدقيق في المسائل ، لكن ليس هو مقياساً و ميزاناً ثابتاً لتقدير علم العالم
: كماً و كيفية .
و التأريخ حاكم على هذا الميزان _ الذي تعلق به من تعلق لتقييم بعض أهل العلم
على بعض _ بالإبطال و النقض ، و من قرأ السير درى الخبر .
رابعاً :التقييم بكثرة الطلاب .
إن الاحتجاج و الاستدلال على مدى
علمية العالم و قوته بكثرة الطلاب أو قلتهم من الأمور التي لا يلتفت إليها
إلا جهلة المنتسبين إلى طلبة العلم و لمّا يدركوا .
إيضاح ذلك أن الطلاب يكثرون عند الشيخ
لأسباب ، أجملها في :
(1)
حسن أسلوب الشيخ و براعته في الشرح .
(2)
ميول بعض الطلاب إلى الشيخ و محبتهم له _ و الحب يعمي و يصم _ .
(3)
مكانة الشيخ : العلمية ، المنصبية ، النسبية ، … إلخ .
(4)
التخصص ، أو التفرد بنوع من العلم .
فلا عبرة بعد هذا بالتقييم بكثرة الطلاب .
و ليُعلم أن كثرة الطلاب عند الشيخ دليل _ في الغالب _ على خلل في التأصيل في
الطلب .
خامساً :التقييم من خلال : الحب و البغض .
فبعض طلاب العلم يفضا فلانا على فلان
لمحبته له و بغضه للثاني ، و قد يكون الثاني أكثر علماً و قدراً ، و هذا ظلم
بيِّن ظاهر .
و هذا مما لا يحتاج إلى بيان و لا إيضاح فتوضيح الواضحات من الفاضحات .
هذه بعض الخلل الموجود في صفوف طلاب العلم في هذه الأزمنة _ و الله المستعان
_ .
و ليعلم المشتغل بالتقييم أنه مقبل على ربه _ تعالى _ و محاسبه على كل صغيرة
و كبيرة فلا يعلقن في ذمته شيئاً من مثل هذه الأمور ، و ليتق الله _ تعالى _
فإن لحوم العلماء مسمومة ، و عادة الله في منتهكم معلومة .
سادساً : التقييم من خلال ما يريده الشباب
من الكلام في بعض القضايا الساخنة ،
فنرى كثيراً من الناس كبَّرَ فلاناً ( طالب العلم ) لكونه قد أدلى بدلوه في
بعض القضايا الحالَّة ، أو أفتى بما تميل إليه رغبات الشباب _ و لا يعني ذلك
أنه يفتي على رغباتهم ؛ لا ، و لكن يفتي بما يراه حقاً فيتعلقون به _ و أما
من خالف ما يريدونه فذاك فيه و فيه ، و من الصنف الفلاني .
و ليحذر من الحجة المهلكة _ التي قذفها الشيطان في قلوب بعض طلاب العلم _ :
الكلام في مثل هذه الأمور إنما هو بيان حالٍ ، أو غيبة في ذات الله _ تعالى _
.
تصحيح التقييم
إن التقييم أمرٌ ملحٌ في جانب حياة الإنسان : علماً ، و نهجاً ، و سلوكاً ...
فأقول _ و من ربي استمد العون _ :
إن تصحيح خلل التقييم عائدٌ إلى أمورٍ
هن أُسس و أصول :
الأول : التقييم الديني :
و أعني به : تقييم العالم من جهة دينه
.
و هذا له فرعان :
1- التزامه بالدين ظاهراً و باطناً .
فإن سلوك درب الاستقامة أساس في
التقييم متين ، و به التعديل و التجريح .
و متى تخلَّف فردٌ من أفراد الاستقامة _ التي شأنها الضرورة _ عن رجل من
الناس كان ذلك ناقصاً من تعديله .
2- الحمية للدين .
فإذا ما رأينا الرجل ( العالم ) ذا
حمية على دينه حين انتهاك حرماته ، و ذا قومة قوية في وجه من تبنى نشر
الرذائل و تمكين أهل الفسق و الانحراف استحق بذلك أن يكون ممن له وزنه بين
الناس معدَّلاً موثقاً .
و لا يستحق التقييم من نِيْلَ من دينه و انتهكت حرماته و لم تقم في قلبه
قائمة الغيرة على الدين .
الثاني : التقييم العلمي :
المعنيُّ بالتقييم العلمي هو : أن
يكون تقييم العالم من حيث كونه عالماً بدين الله تعالى ، سالكاً في التعليم
درباً مؤصَّلاً .
و أطمح من ذلك : أن يكون تقييم كل ذي علم بما لديه من علم ، فلا يُتَجاوَز به
إلى فوق مرتبته .
و عند إمعان النظر في أحوال الطلاب مع الشيوخ نرى ذلك جلياً في تخلف التقييم
الأصيل لقدر الشيخ بعلمه ، و نرى _ أيضاً _ الحطَّ على من نبغ في العلم قدراً
كبيراً .
و التحكيم و الوزن راجع إلى ما في النفوس من سخائم ، و ما في القلوب من تقديس
.
فالتقييم للعالم يكون من جهة ما ناله من العلم : المؤصَّل المسلوك فيه طريق
الفقهاء و الأئمة المعروفين .
و _ أيضاً _ من جهة كونه باذلاً العلمَ للطلاب على وَفْقِ أصول التعليم
المقررة في كتب التربية و التعليم .
ثالثاً : التقييم الإبلاغي :
و أعني به : تقييم الشيخ من جهة كونه
ممن أعطى دينه شيئاً من جهده الدعوي .
فمن الغلط : أن يكون تقييم شيخٍ وتفضيله وهو خِلْوٌ من أي همٍّ للتبليغ دين
الله تعالى .
و من الغلط _ أيضاً _ هدرُ قَدْرِ شيخ بذل مهجته و نفسه و وقته لتبيلغ دين
الله تعالى .
تنبيه :
أشير إلى أمورٍ ذات بالٍ :
الأول :
أن بعض العلماء العاملين في تبليغ دين الله قد يكونون ممن قارفوا شيئاً من
المخالفات _ فيما يظنها المقيِّمُ أنها مخالفة _ ، فلا يعني ذلك أن يكون
حاظياً بهدم قدره عند المقيِّم .
الثاني :
أن الاعتبار بالتبليغ في القدر الواجب من الدعوة إلى الدين و الحق .
فليس مراداً لي _ البتة _ أن يكون همه التبليغ و الدعوة بمعنى : أن يكون
عاكفاً ليل نهار ، لا و لكن مرادي أن ذا بذل مناسب لقدره و مقامه العلمي .
الثالث :
عند التقييم يلاحظ أمرٌ مهم ؛ و هو : اعتبار المسائل الخلافية في الشريعة ،
فلا تأتي إلى رجل عالمٍ يأخذ من لحيته فتفسقه و تحطُ من شأنه لأنه يأخذ من
لحيته .
فهذا سوء فهم ، و ليس تقييماً علمياً ؛ إذ ما قام هو بأخذ لحيته إلا لما صح
عنده جوازها ، كما أن من لم يأخذ ما ترك الأخذ إلا لما صح عنده عدم جوازه .
فليست المسائل كلها مُجْمَعٌ عليها .
و الله الموفق
الخميس
19/2/1423هـ