|
الحظْوة التي نالَها أبو الطيِّبِ المتنبي و شعرُه لدى الناسِ جعلتهم
يُقبلون على شعرهِ ، إلا أنَّ ذاك الإقبال على شعرِهِ قَدْ لا يُوفِّي
شعرَه حقَّه ، و لا يُوقفهم على حقائقِ و أعماقِ معانيه ، لذا كان مِن
المُقْتَرَحِ رسْمُ طريقةٍ لقراءةِ شعرِهِ ، تُعينُ كَشْفٍ أسرار أبي
الطيِّبِ المتنبي ، و هذه معالمها التي تَسْبُرُ غَوْرَه و تغوصُ بحرَه :
الأول : سَبْرُ سِيْرَةِ شِعْرِهِ ، للشِعرِ سِيْرَةٌ ، و سيرَتُه
في سِيْرَةِ الشاعرِ ذاته ، و سيرةُ الشعرِ تُعطينا تنقُّلاتِه و تطوراته ،
و المتنبي كان شِعْرُه كذلك ، فليسَ شِعرُ أولِ أمرِه كأوسَطِه ، و لا
آخِرِهِ كأولَه ، و ليس شِعرُه في بلدٍ كالذي في آخر ، و هذا السَّبْرُ
يُفيدنا في معرفةِ تاريخ أبي الطيِّب المتنبي ، ومعرفةُ التاريخِ مهمةٌ
جداً لمريدِ الحُكم عليه أو له ، و لَقَدْ أجادَ في سَبْرِ ذلك أديبُ
العربية محمود شاكر في كتابِ ” المتنبي ” .
الثاني : سَبْرُ فِقْهِ شِعْرِهِ ، و فَهْمِ مُراده ، شِعرُ المتنبي
منقولٌ و محفوظٌ ، و ليس نادراً لا يُعرَف منه سوى القليل ، بل ربما
يُجْزَم بأنه لا يكاد يُجْهَل من كثرته و شُهْرَتِهِ ، في شعرِه نَثْرٌ
لوصف حاله ، و بيانٌ لشيءٍ من حياته . يَكْشِفُ عَن تلك الأسرارِ المنثورة
في أشعارِه شُرَّاحُها ، فإنهم لَم يَدَعوا شيئاً من معانيها _ قَدِروا على
الوصولِ إليها _ إلا أظهروها و سبروها ، و لَهُم في ذلك طرائقُ و مناهجُ ،
فَجَمْعُ الشروحِ السابرةِ شِعْرَه مهمٌ ، ليكون الناظرُ على اطِّلاعٍ
واسعٍ على ما كُتِبَ تعليقاً و شرحاً على شعرِهِ ، و يبين منه معرفةُ
قصدِهِ في المُوْهِمِ و المُشْكِلِ ، فقد يكون فُتِحَ لبعضٍ ما انْغَلَقَ
على البعض الآخر ، ففي قولِهِ :
يَتَرشَّفْنَ مِن فَمي
رَشَفاتٍ --- هُنَّ فيه حلاوةُ التوحيدِ
فاختلَف الشُرَّاحُ في
مُرادِه بـ ” التوحيد ” ، و اختلافهم إنما هو لإشكالها ، لذا كانت
التأويلاتُ مختلفة ، فلا يَجوز القولُ بأنه يُريد كلمة التوحيدِ لأنَّ هناك
من قال بأنه يقصد تمراً مدنياً يُسمَّى بالتوحيد [ " العود الهندي "
(2/233) ] ، فمن خلال السَّبْرِ لمعاني شعرِهِ نُدركُ المراد المقصود .
الثالث : سَبْرُ أشباهِ و نظائرِ أشعارِه ، الشعرُ ينبعثُ من مشاعرِ
قلبٍ ، و قلوبُ الشعراءِ ذوي المعاني المتفقة متوافقةٌ ، فكيفَ في شاعرٍ
واحد . لأشعارِ المتنبي شِبْهٌ في أشعارِه ذاتِه أو في أشعارِ غَيْرِه ، و
ضَمُّ الشَّبِيْهِ لِشَبِيْهِهٍِ و النظيرِ لنظيرِه من مواطنِ معرفةِ
أسوارِ المعاني ، إذ الألفاظُ إذا تواردتْ لِتَصُبَّ في معنىً واحدٍ
أكَّدَتْهُ و قَوَّتْه . و ممن حَرِصَ على تبيانِ نظائر أشعارِ المتنبي عبد
الرحمن بن عُبَيْد الله السقاف في كتابِه : ” العود الهندي ” ، و هو من
عجائبِ تآلِيْفِهِ .
الرابع : سَبْرُ كافورياته ، فأشعارُه التي قالها في كافورَ حظيتْ
بشيءٍ من العناية ، و هو قد أظهرَ فيها و أضمرَ إبداعَه البلاغي ، يُفاد في
هذا مما كتبَه الأديبُ حُسام زادَ الرُّوميُّ .
الخامس : سَبْرُ نْحوياتِه و لُغتِه ، و سبق الحديثُ عنها ، و هي من
المنزلةِ بمكانٍ مهمٍ ، حيثُ الإعرابُ و مذهبُ الشخصِ النحوي كاشفان عن
المعنى المراد .
السادس : سَبْرُ تاريخه ، فتاريخُ أبي الطيِّبِ ، تاريخُ ذاتِهِ و
تاريخ عصرِهِ ، مهمٌ للوقوفِ على مقاصِدِهِ في شعرِهِ ، فقد أرْمَزَ في
أشعارِهِ أشياءَ متعلقة بالتاريخِ ، لا يُعرَفُ مرادُهُ إلا بمعرفةِ
تاريخِهِ ، معرفةَ عُمْقٍ و دِقَّةٍ .