|
قال أبو الطيِّب المُتنبي :
وَمَنْ
يَبِغ ما أبغي مِن المَجْدِ و العُلا --- تَسَاوَى المحايي عِندَه و
المقاتِلُ
وَحْيُ البيتِ :
كلُّ إنسانٍ في هَمِّهِ مجدٌ يطمحُ بلوغَهُ و إدراكه ، و مقاماً عالياً
يرمي ببصرِ قلبِهِ ليُدركَه ، و لِذَيْنِ سُلَّمُ الهمِّ الباعثِ على
رَسْمِ العَزمِ الحاثِّ ، و بدونِ هذينِ رُكونٌ لِوَتدِ الأُمنياتِ
المميتاتِ و لجوءٌ إلى رُكنِ الجُبْنِ عن المغامراتِ ، و ما تلكَ لبشرٍ
بمَرْضِيَّةٍ صِفةً و لا حالاً .
الطلبُ يقتضي الخطْبَ و العطَبَ ، و لا يكادُ يَسلمُ طلبٌ منهما ، و هما
متنوِّعانِ متغيِّرانِ ، طُلاَّبُ المعالي كُثُرٌ ، و فيهم مَن يُريدُ بلوغ
المعالي صِدقاً فسعى إليها حَقَّا ، و منهم مَن يُريدها دعوى فتصنَّعَ
السَّعيَ .
و بقدْرِ الصِّدْقِ في الطلبِ للمرادِ يَكون الاحتمالُ للناتجِ عن السعي و
الطلبِ ، و مَن لم يَصْدُق في طلبِهِ سيكون هاويَ العزْمِ في أولِ الخُطى ،
فالغاياتُ بالنهاياتِ لا بالبداياتِ ، و النهاياتُ لأُوْلي الثباتِ لا
الوَثباتِ ، و مخادعةُ النفسِ في الاحتمالِ يَبينُ عند الخوضِ في أول خُطى
الطريقِ .
يُدرُك الصادقُ في طلبِ المُرادِ أنَّ بقاءَه لن يُؤْتِيْهِ بما يُريدُه ،
فلا يَستبقي نَفَسَاً في نَفْسٍ ، فيبذُلُ قُصارى الجُهْدِ لبلوغِ المَجْدِ
، و يُغادِرُ الملا لمُواكبةِ العُلا ، فلا كمالَ إلا بضريبةٍ ، و ضرائبُ
الكمالِ اكتمالٌ ، و حينَ يَغيبُ عن الطالبِ للمجدِ قانونُ البذلِ فإنه
سيكون متراخياً في المسيرِ ، و ناكصاً عند أولِ شِدَّةٍ تعتَوِرُه ، و إذْ
يُدركُ ذلك فإنَّه يُقَوِّمُ العزْمَ بالحزْمِ ، و الهِمَّةَ بالحَدْوِ ،
فيجدُ لذةً يَستصحيُها في كلِّ أحوالِ مسيرِه ، لذةٌ الهمِّ الأولِ البائسِ
الدافعِ له في البحثِ عن قيمةِ الوجودِ ، و لذةُ الهمةِّ الموجودةِ مِن بؤس
الهمِّ و المُوْجِدَةِ للمجدِ المَرُومِ ، و لذةِ الشَّوقِ المُلتهِبِ في
النفْسِ لبلوغِ العُلا المُمَجَّدِ و المجدِ المُعَلَّى ، و لذةُ السيرِ
للغاياتِ ، و لذةُ الاستلذاذِ بالتَّعَبِ و النَّصَبِ ، و ما مِنْ لذَّةٍ
إلا و تُفضي إلى لذةٍ ، و لذَّاتُ المعالي غاياتُ المطالبِ ، و لا أجملَ من
حالِ استلذاذِ التَّعَبِ في الطلَبِ ، إذ يقولُ أبو الطيِّبِ ذاتُه :
سُبحانَ خالقُ نفسي كيفَ لذَّتُها --- فِيما النفوسُ تراهُ غايةَ الألمِ
و كما كان الاحتمالُ بقدْرِ
الصِّدقِ ، فهناك الاحتمالُ بقدرِ الغايةِ ، فالغايةُ السامية الحميدة ، و
المطالبُ النامية المجيدة ، يُحتملُ في سبيلِ بلوغها كلُّ عارضٍ ممطرٍ
بإعاقةٍ ، و مُعترِضٍ صارفٍ بِصَفَاقَة (1) ، حيثُ الغايةُ أعظمُ ، و
العظِيمُ للعظيمِ طلباً و حجباً ، هُنا سيُدرِكُ أنَّ مُرادَه سينالُه
لأنَّه يستعذِبُ ألمَ السعي إليه كما يستعذِبُ البقاءَ عنه حينَ لم يَعرفه
، و كما يَستعذِبُ الراكنُ رُكونه ، حيثُ غدا المكروهُ محبوباً ، لأنَّ
المطلوبَ محبوبٌ ، و المحبوبُ له عَيْنُ الرِّضا و عَنه إغضاءٌ ، فَتسَاوى
عِندَه الحالُ في الاستلذاذِ لا في اللياذِ.
و الاحتمالُ لا يَقْوى إلا بِعُرى التوثيقِ بِثِقَةِ الهمةِ و العزيمة ،
فهما مُبتدَاٌ و الاحتمالُ خبرُ ، و المُبتدَأُ و الخبَرُ اسمانِ لِمُسمًّى
قائمٍ في حالِ الرَّفْعِ عن الدُّوْنِ بِضَمِّ الحالِ و القلبِ على الغايةِ
العاليةِ ، و بواويَّةِ الجمْعِ للفكرِ و العقلِ لبلوغِ مقاصِد الذِّكْرِ
الحَسَنِ ، و بهما تمامُ الفائدةِ العائدةِ ، و الإفادةِ الراشدة .
كذلكَ ؛ الاحتمالُ لا يَكونُ إلا في خَوْضٍ لِمنافَسَةِ المُزاحمينَ ،
بصوتٍ عَلٍ ، و ثَباتٍ جَلِيٍّ ، ففي الخوضِ تبينُ حقائقُ الدعاوى ، و
الطالبُ العاقلُ مَن يُدرِكُ بيقينٍ صِحةَ غايتِه ليخوضَ حالةَ الطلبِ
بالخَطَرِ ، و الخَطَرُ لا يُنالُ إلا بالخَطَرِ (2) ، و إدراكُ الغايةِ
يَكون بإجالةِ البصرِ نظراً و البصيرةِ فِكْراً في استعبارِ شأنِ الغايةِ و
ملائمةِ البذلِ و السَّعي لها ، فالخوضُ شَجاعةٌ و الشجاعةُ ذكاءٌ لا قُوةٌ
، فـ ” ليس الشجاعةُ أن يحمِلَ الرجلُ نفسَه على الهلَكَةِ إنما ذلك هَوَجٌ
، و الشجاعةُ أن يتقدَّم و غالبُ ظنِّهِ أن يظفر “(3) .
فالمجدُ المطلوبُ قاضٍ بالسعيِ المحبوبِ ، و باعثٌ على احتمالِ الخُطوبِ ،
و كاشفٌ الصَّدوقَ من الكذوبِ ، و { قَدْ علِم كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهمْ }
.
-------------------------
(1) وَقاحة .
(2) الأولى : القَدْرُ و المنزلةُ ، و الثانيةُ : الحركةُ و الاضطرابُ .
(3) ” ديوان المعاني ” (1/112)