|
قال أبو الطيب المتنبي :
أفعالُ مَنْ تَلِدُ الكرامُ
كريمةٌ --- و فَعالُ مَن تلِدُ الأعاجمُ أعْجم
وَحْيُ البيت :
الأفعالُ من المرءِ لا تكونُ إلا في انتسابٍ لأساسٍ تُبْتنى عليه ، و أصلٍ
تتفرَّعُ منه ، فهي خارجةٌ من أصلٍ باطنٍ ، و البواطنُ جواهرُ الظواهرُ ،
فكلُّ فعلٍ حسنٍ فعَزْوُهُ إلى أصلٍ حسنٍ ، و مثلُه السوءُ و القُبحُ ، فلا
يَبدو ظاهراً إلا ما كان مخفياً أساسه في الباطن ، ففي الأمثالِ ” كلُّ
إناءٍ بما فيه يَنْضَحُ ” .
و الباطنُ الأصلُ منه ما هو من اختيارِ الشخصِ أن يستبطنَه و يجعله أصلاً ،
كالدينِ ، و منه ما ليس إلا اضطراراً كالنَّسَبِ ، فكلُّ دينٍ عليه من
علائم الجمالِ و الكمالِ يَهبُ أصحابَه من جماله ما يُكسبَهم رونقاً و
أُبَّهَةً ، و بعكسه أديان النَّقْصِ و القُبح ، و بضدِّ الشيءِ يبينُ
الشيءُ .
و أصول الأنسابِ تنتقلُ مفاخرُ كمالها في سلاسلها ، فيغدو الحفيدُ على
سَنَنِ الأجداد ، و الآخِرُ على قَدمِ الأولِ ، سلسلةٌ محفوظةٌ مَرْعِيَّةٌ
، فلكلِّ عِرْقٍ نَزعٌ في جسدٍ ، و العِرْقُ دسَّاس ، و حيثُ كان ذا بهذا
الوصفِ و النَّعْتِ كان النظرُ في حفظِ ديمومةِ الكمالِ الخُلُقي و
الخَلْقي محلَّ عنايةِ أهل الكمالات .
و اللغاتُ تنزعُ المرءَ نحوَ الأفعالِ ، فتصنعُ أصول اللغاتِ حالاً له و
تُؤَثِّرُ عليه ، و اللغاتُ كالأنسابِ ، فليسَ في الأعجمي من كمال الأخلاقِ
ما في العربي ، صيانةً لشرفِ العربِ ، و حفظاً لكمالهم ، و أفعالُ كمالهم
ذاتُ تأصُّلٍ فيهم ، و الدينُ تمَّمَ و كمَّلَ و لم يكن مُبتدعاً جديداً ،
فكانت الأديانُ في العربِ توجيهٌ للأفعالِ .
و الأرضُ تصنَعُ أفعالَ الناسِ ، فليست الأرضُ سواء ، فما الأرضُ اللينةُ
كالقاسية ، و لا العاليةُ كالسافلة ، و لا المباركةُ كالمشئومة ، فتجذبُ
الأفعالَ أراضي الخِلْقةِ ، فمنها البَدْءُ و إليها العَوْدُ ، و الأرضُ
أُمُّ و الأمُّ دارُ تربيةٍ .
و ثَمَّةَ أصولٍ أُخرَ هُنَّ أُمَّاتٌ للأخلاقِ و الأفعالِ ، و ما حُرِّرَ
مشهورُ البروز و الظهور ، و الباقي قد يكون ذا قِلَّةٍ أو يكون مخمولاً ليس
مذكوراً .
هذه الأصول تُصيِّرُ الأفعالَ طباعاً ، و الطِّباعُ سرَّاقةٌ ، و تتوالدُ
بين الناسِ ذوي الأصلِ الواحدِ فلا يَعْدُ فيهم من يَستغربُ منكرَ الأخلاقِ
أو يستملحُ جميلها ، فينشأ الصغيرُ و يَشيبُ الكبيرَ و الحالُ متوارثة .
لأفعالِ الأصولِ آثارٌ في التعامُلِ مع الآخرِ ، فما تُمليه الأصولُ تقومُ
به الأفعالُ على وجهٍ أتمّ ، و ربما زِيْدَ بهوى النفسِ ما يُسيءُ أو
يُحَسِّنُ ، فسوءُ الأصلِ يُخرجُ سوءَ الفعلِ ، و سوءُ الفعلِ يُنتجُ سوءَ
الفِكرِ ، كما قيل : ” إذا ساءَ فِعْلُ المرءِ ساءتْ ظنونه ” ، و ذو العيبِ
قذَّافٌ بعيبِه البريءَ ليُجعلَ في وصفِ العيبِ و إيَّاه ، فلا يرتضي
انفراداً بسوءةٍ و غيرُه منها سليمٌ ، و قد قال أهل الحكمة ” ودَّتْ
الزانيةُ لو أنَّ النساءَ زوانٍ “، فإذا حسُنَتِ الأصولُ حسُنَتْ أفعالُها
فكانت البواطنُ غايةً في الحُسْنِ ، فالبواطنُ مَبدأُ و مُنتهى للأفعالِ ،
و هذا من أسرارِ أخلاقِ الناسِ أنها تصدُرُ مِن محلٍّ لِتجوبَ الظواهرَ
الخارجيةِ فتعودَ لتعيدَ بُنيتها .
يتوارثُ الناسُ معَ أفعالهم توجيهاً لها نحو الأصَحِّ من التوظيف لها ، و
يُربَّى الشخصُ مِن قِبَلِ الكبارِ في طرائق التعاملِ مع كلِّ فعلٍ و أين
يضع تصرُّفَه ، لأجلِ هذا كانت الأديانُ السماوية تُهذِّبُ و تؤدِّبُ ، و
سُلكتْ مسالكُ المجاهدة في عَجنِ النفسِ بيدٍ حانيةٍ و أُخرى قاسية لتنمى
فيه تهذيبا لأفعاله .
تلك الأفعالُ منها ما هو جِبِلَّةٌ ، عليها المرءُ خُلِقَ و فيهِ طُبِعَتْ
، فلا تغييرَ و لا تبديل لها ، و إنما التعديل ، فالتربيةُ جائيةٌ من أجل
التعديلِ لا التبديل ، لأنَّ الجِبِلاَتِ مُرتكزاتٌ في النفسِ ممزوجة مع
الروحِ ، و لَهَدمُ جبلٍ أهونُ من تغييرٍ لطبعٍ .
و مُكَلِّفُ الأشياءِ ضِدَّ
طباعها --- مُتكلِّفٌ في الماءِ جَذْوةَ نارِ
و التهذيبُ بالتأديبِ نوعٌ
من النُّقْلَةِ لأفعالٍ أُخَر ، و إن كان التعديلُ مُجدياً فلا بُدَّ مِن
نَزوةٍ نحوَ الطَّبْعِ و ندودٍ عن التأديب .
تَعديلُ الطِّباعِ فِعْلٌ كَسْبيٌ ، و الفِعلُ الكَسْبيُ فضيلةٌ في الشخصِ
حيثُ يُرْغِمُ ذاتَه على مُجاوزةِ سُوءِ الأخلاقِ و الأفعالِ إلى أحسنها و
أكملها ، و رذيلةٌ إن غادرَ كمالاً إلى نقصٍ و جمالاً إلى قُبْحٍ
فكلُّ طبعٍ مجبولٌ عليهِ الإنسانُ عند إرادةِ تغييرِه و تبديله نحوَ
النَّجديْنِ قادرٌ متى كانت إرادته قويةً و عزيمته نافذة ، و أماني
التغييرِ شِنْشِنةٌ أخزمية .