|
قال أبو الطيب المتنبي :
إِذا تَغَلغَلَ فِكرُ المَرءِ
في طَرَفٍ --- مِن مَجدِهِ غَرِقَت فيهِ خَواطِرُهُ
وَحْيُ البيت :
عادات الكبارِ مِن أهلِ الهمم أنَّهم إذا أردوا الخوضَ في أمرٍ مِن غاياتهم
و مقاصدهم أعملوا العقلَ في التفكيرِ ، و أعملوا أُخرى في التدبيرِ ،
فيستغرقون فيه استغراقاً كُلِّيَّاً ، حتى يأتوا على أتمِّ أوْجُهُهِ ،
فإذا بدأوا فيه بالتنفيذِ يكونون قد برئوا من تَبِعَةِ اللومِ في التقصيرِ
، و برئوا من هُمومِ الإهمالِ .
فمن رامَ شيئاً من المقاصِدِ الحِسان ، و الغاياتِ الكبارِ أغرقَ فِكْرَه
في معرفتِها ، و سَبْرِ غورِها ، و درْكِ أبعادها ، فيكون متصوِّراً
الغايةَ كأنها يراها ، و يُبصرها أمامه رأيَ العَيْنِ ، حتى لا يَفْترِقَ
عنده خيالٌ مِن حقيقةٍ ، فيعرفَ من ذلك كلِّه مواطنَ الكمالِ و الجمال ،
فيُنَمِّيْها و يُرَبِّيْها ، و يعرفَ محالَّ النقصِ و العيبِ ، فيُعَدِّلَ
ما يُعَدَّل ، و يُبدِّلَ ما يُبتَذَل .
فإذا خاضَ في بحرِ هذا الاستغراق ، و غاصَ في أعماقِهِ ، اجتاحتُه حالةٌ
تَدَعُه يَرىَ غايتَه في أجملِ اللونِ ، و أحسنِ الصوَرِ ، فتكتحل عينُ
باطنه بذاك الجمال ، و تُسْبَى بذلك الحُسْن ، و يُبصرُ دقيقَ الصورِ ، و
تدرُّجاتِ اللونِ ، فيكون مُسْتَغرِقاً خاطرَ التخيُّلِ البَصَري .
و يُشَنِّف أُذُنَيْهِ بِهُتافاتِ المجدِ مُنْشَدَة ، و بلابلِ المدحِ
مُغَرِّدَة ، تنتابُه حينها نشوةٌ تُطْرِبُ فؤاده ، و تهُزُّ أنغامَ قلبِهِ
، تخترِقُ حُجُبَ السماعِ فتغدو هباءً منثوراً ، يُنادي على نفسِه في فلاحه
، و يُثنى عليه بنجاحه ، و يُبارَك له في البلوغ ، و يُهنأ بالنبوغ ، تمام
الاستغراق في السَّمْعِ في بلوغِ الغايات .
فيبعث الاستغراقانِ في نفسِهِ نزوةَ الشموخ ، و زُهُوَّ السُّموِّ ، و
بَرْدَ الاطمئنانِ ، و راحةَ المرتجلِ ، مشاعرٌ أغرقَه فيها تمامُ
استغراقِهِ في تَفَكُّرِهِ في بلوغِ مجدِهِ ، فيتمَّ له في ذلك التكوُّنُ
الداخليُّ ليقينِ البلوغ ، و ثِقةِ التحقيق .
فإذا ما اجتازَ هذا الاستغراقَ بإتقانٍ نَقَلَه إلى الاستغراقِ في التدبير
، فيُقَلِّب الأمورَ ، و يُصرِّف الأحوال ، و يُقايسُ بين مُتْعَةِ البلوغِ
و ألم المسيرِ ، و بين مصالحِ الوصولِ و مفاسدِ الخمولِ ، فيُقَدِّمَ
مُسْتَحِقَّ التقديم ، و يَضْبِطَ الزمانَ فلا تختلطَ الوظائف ، و يتمهَّرُ
وسيلةَ الترابُط و التواصُلِ ، فيخدِمَ الغايةَ و المقْصَدَ .
و بعدُ ، فلا يُبْقِيْهِ في عريْنِ الاستغراقِ التدبيري إلا عجزُ و خَوَرٌ
، و لا يستقيمانِ معَ كلِّ مَن بَدتْ فيه بوادرُ الشوقِ نحو المجد ، و
بواعثُ السموِّ نحو السماءِ ، و إنما ينتقلُ إلى الاستغراقِ في سُوْحِ
التنفيذِ ، بَدْءاً من رَسْمٍ للمسيرِ ، و تخطيطِ الانطلاقِ ، و تثنيةٍ
بالخَطْوِ في أولِ الدرْبِ ، حيثُ العينُ على النهايةِ ، و القلبُ في
الغاية ، و النفسُ تتوقُ ، و الهمةُ تسوق ، في ميدانٍ كثُرَ المُزاحمُ و
قلَّ الحازم ، و التفَّ المُدَّعي و احتُفَّ بالألمعي .
هذا الاستغراقُ في صورِه و أشكالِه ، يأتي للمرءِ في طَرَفٍ من مجدٍ يَرومه
، ليُدرِك الكلُّ أنَّ القاعدةَ الراسخة ، لا مجدَ إلا باستغراقٍ في بحرٍ
عميقٍ قعرُهُ ، ليُسْلَكَ طريقٌ عَتِيٌّ ظَهرُه ، فيُرْتَقى جبلٌ شديدٌ
وعرُه ، لتُدرَك الراحةُ في قمة الساحة .
دستورٌ كونيٌ ، سنَّه الربُ تعالى ، و بانتْ حقائقه ، و بدتْ نتائجه ، فمن
غالطَ دُفِعَ ، و من عاندَ صُفِعَ ، فالحقائقُ براهينُ اليقين ، و التجاربُ
سوابل التمكين .