|
قال أبو الطيب المتنبي :
وَ مَنْ يَجِد الطَّريقَ إلى
المعَالي --- فَلا يَذَرُ المَطيَّ بِلا سَنَامِِ
وَحْيُ البيت : مَن لقيَ في
نفسَه طموحاً نحوَ غايةٍ نبيلةٍ ، و مقصدٍ سامٍ ، و بانَ له الطريقُ ، و
اتضحتْ معالمُ سابلةِ المجدِ ، فلا يتركنَّ شيئاً من المطايا ليرْكبَها ،
فإنَّ الطريقَ مِلْكُه ، و لم يَعُدْ سوى وَضْعُ القَدَمِ ، و البَدء
بالخُطوة الفاعلة، وزَّعُ الله الهممَ بين الناسِ ، و قسَّم العزائمَ بينهم
، و ربَّما اجتمعتْ و ربما افترقت ، و بيَّنَ الطرائقَ و السُّبُل ، فبانَ
الكلُّ للكلِّ ، أرزاقٌ مُوَزَّعة ، و نِعَمٌ مُنَوَّعَة ، كلٌّ يُدركُ
مقسومَه ، و يأخذُ معلومه . و أكملُ الناسِ مَن علَتْ همتُه ، و قويَتْ
عزيمتُه ، و بانت لَهُ طُرُقُ مُراداتِه ، فشَدَّ ساعد المسير ، و حدا
بالدابَّةِ بالتغنِّي ، مَرِناً في مسيره ، متيناً في تشميرِه . و ليسَ هذا
معذوراً في ترْكِ اقتحامِ مصاعبِ الطرقِ ، فإنَّ الكمال لا يُنالُ إلا
بالمُحال ، و شموخَ النفسِ إلا بِذَوقِ النَّحْسِ ، و التمامَ إلا بهجرِ
المنامِ ،و المجدَ إلا بالحَدِّ و القَدِّ ، و ما لمْ يأتِ بِالتعبِ
يَغْدوُ كاللُّعَب ، فإياكَ و التراجُعَ ، و احذرِ زيفَ التواضُع ، فأظهرِ
مكنون القوة ، و استعلي ظهرَ الصهوة . و أفصَحُ أبو الطيِّبِ قبلُ فقال :
عَجِبتُ لِمَن لَهُ قَدٌّ وَحَدٌّ وَيَنبو نَبوَةَ القَضِمِ الكَهامِ و
بِقَدرِ الهمةِ يكونُ الهمُّ ، و الرجالُ بهمَمِهم و عزائمهم ، و لكلِّ
صغيرٍ صغيرٌ ، و لكلِّ كبيرٍ كبيرٌ ، فللحويجةِ رُجَيلٌ ، فبِعِظَم المطلبِ
يَعظُم الاقتحامُ و الخوضُ للشدائد ، و ” الحياةُ مغامرةٌ جريئةٌ أم لا شئ
” ، و لا يبينُ شرَفُ المطلوب إلا بمدى البذلِ لَه ، فـ ( من يخطُب الحسناء
لَمْ يُغْلِهِ المهرُ ). و مَن لمْ يَخُضْ معاركَ المجدِ فدعواه باطلة ، و
همته ساقطة كَزَرْغَبٍ ، و عزيمته كبيت عنْكَبٍ ، و صِدقُه مفقودٌ ، و
خَتَلُه موجودٌ ، فعلامةُ ما لمْ يَكُنْ الاعتراضُ للمحن و مهاجرَةُ
الفَنَن .
و ما نيْلُ المطالِبِ
بالتَّمَنِّي --- و إنما تُؤْخَذُ الدُّنيا غِلابا
و يقلُّ عَنه منزلةً في
الكمالِ مَنْ لَم تتضح له الطريقُ ليسلكها ، فعنده همةٌ تُفَتِّتُ الحديد ،
و تُكسِّرُ الجبالَ ، و لكنَّ الطريقَ هي التي لم تُفْسَحْ له ، و لم
تُواتِه الفُرْصَة لتحقيقِ ما يُريد ، و هذا حالٌ غالبٌ على كثيرين من
أفاضل الناسِ ، تحدوهم الهمم العوالي ، و العزائم الكبار نحو غاياتٍ
يتقاصَرُ عنها كلُّ دنيء الطبع ، فيبقى في حالٍ من الهمِّ و الغَمِّ ، يَرى
إشراقاتِ مستقبلِه أمامه ، و يمنعه عن الولوج في طريقِهِ مُحقَّراتٌ
مُصغَّراتٌ ، و تلك هي : القشَّة التي قصَمتْ ظهر البعيرِ . و ليسَ في حكمِ
أهل الهمم و العزائم ، و لا في دساتير ذوي الطموحات العالية البقاءُ
باستسلامٍ ، و ضمُّ الأيدي فُرْجَةً ، و إنما خلْقُ الطريق ، و تمهيدُ
السابلة ، فالطريقُ المسدودةُ كانت لا شئَ ، و كانت مَعِرَة ، فمهدها مَن
كانت لَه عائقاً ، و سهلها من كانت حجرةَ عِثارِ أمامَه ، ففرَّج عن نفسه ،
و لم يُخَيِّب أملَه ، و لم يرضَ بالبقاءِ ، لأن البقاءَ شقاء . و متى بقيَ
مَن أُوْصِدَتْ أمامَه الطُّرُقُ واقفاً لا حراك له ، فإنَّهُ نعيٌ لهمته ،
و إمراضٌ لعزيمته ، و المرضٌ للموتِ عرَضٌ ، و الموتُ فوتٌ .
و أوْضَع الناسِ قومٌ كثيرٌ ليسوا إلى الهمِّ في المعالي ، و لا إلى عزمٍ
على العظائم ، رضوا بالرتعةِ مع الراتعِ ، و أخملوا النفوسَ بِخِلْعَةِ
الميئوس ، و لو أدركوا شأنهم ، و عرفوا نبأهم لشدوا المُطِيَّ ، و أعملوا
الرواحلَ ، فلحقوا السابقين ، و بَسَقوا معَ الباسقين . إن لبلوغِ المقاصِد
، و إدراك الأمنيات قانوناً قوياً ، و نظاماً مُحْكَمَاً ، من سلَك في
تحقيقِ المطالبِ قانونها بلغها ، و من حادَ عنها ذِيْدَتْ عنه ، و بقيَ في
حالِهِ . همةٌ الشخصِ العاليةُ أساسٌ لبناءٍ عظيمٍ ، و قاعدةٌ لطريقٍ
مُنيرٍ ، فإنها لا تزالُ تدفعُ بصاحبها حتى يُدرِكَ الشأوَ و يبلغ
الأُمنِيَّة ، و لا تستقيم الهمةُ إلا بعزيمةٍ صلْبَةٍ ، تُواجِهُ المعترِض
فتهزمه ، و تأتي على المُثَبِّطِ فتُنْهِضه أو تقرِضه ، فتغدو كشاهبٍ
يخترقُ طباقَ السحابِ ليُحدِثَ أثراً بعده ، يكون مَعْلَماً لمن مرَّ ، و
بتحقٌّقِ الهمة العالية ، و العزيمةِ القوية ، يكون لدى الشخصِ الهمَّام
العازم طرْقُ الطرُقِ ليشُقَّ سبيلَه على صهوةٍ الأملِ الواسع ، و
المستقبلِ المُرْتَقَب ، فيضع أولَ خطواتِه طريقَ مجدِهِ فينفجرَ {
مُغْتَسَلٌ باردٌ و شراب } فيتخلَّى عن خوامد المقاصد ، و يُعرِض عن سفاسفِ
الهواتفِ ، غاسلاً قلبَه عن دنيءِ الهَّمِّ ، و قالَبَه عن رخيصِ الوصف ،
فيشرَبُ مِن كأسٍ مِسْكُ خِتامِها عزيمةُ أهل العزم ، فيرتوي من معاني
السَّبْقِ ، و يُدركُ مقاعِد الصِّدق ، و يَلْحَقُ و يُلْحِقُ ، و يسبِقُ و
لا يُسْبَق ، فَمنْ أرادَ لقيَ ، و مَن حادَ شقيَ ، و ليسَ موهوبَ الهمةِ
بسابقٍ إنْ جلَسَ ، و لا محرومها بممنوعٍ عن كمالٍ إن اقتَبَس ، فإن
الكمالَ لمنْ صدَقَ في العزمِ ، و سبقَ في الهمِّ .