لا ينهض بالشخص مثل نفسه ، و لا يقوم به غيرُه ، فمهما بذل الناس ، و مهما
كانت التوجيهات و الإرشادات ، فإنها لا تعني شيئا أبداً ما لم يكن للإنسان
من نفسه واعظ و موقظ ، وحين نتعرَّف على الإنسان نفسه نجد أنه ممنوح من
الله بأمور كثيرة لم يكن ممنوحاً أحداً غيره إياها ، بدءاً من العقل المرشد
، إلى الهمة الباعثة ، و حتى العزيمة السائقة ، و التي تنتهي به إلى أن
يصنع من نفسه شيئاً مذكورا . انظر في حالك ، و تدبرها كثيراً ، و أنت
تعرفها أكثر من غيرك ، ستجدها مليئة بالكثير من الأسرار التي ليست عند أحد
غيرك ، حتى لو شاركك فيها ملايين البشر ، فإنها لا تكون متشابهة إلا في
الوجود و الشهود ، لا في الحقيقة و الدقة ، تماما كما هي بصمات الأصابع ،
حين تعرف هذه من نفسك ، فستعرف أنك ملزم بالكثير مما يُحقق وظيفتك التي
أوجدك الله لها ، و هي أنك خليفةٌ له في الأرض ، و الخليفة يقوم بمهامٍ
أوكلها مَن أخلفه بها ، منها عمارة الأرض ، و يُعجبني أن أقول : عمارة
الكون ، لأن الإنسان يمتلك جزءاً من الكون ، ليس لأحد سواه ، حتى لو ذهب
بقيَ له ، و لا يملأه غيرًُه ، تلك الوظيفة تقتضي مني ، و منك ، أن نهتم
بالقيام بها بصورة جميلة ، يَحسُن بنا أن نقدمها كإنجاز لمن جعلنا خلفاء
الأرض ، و سخر لنا السموات و الأرض و الأكوان كلها خادمة مطيعة . حين نُدرك
هذا ، فستنبعثُ فيك أشياءُ من خصال الكمال ، هي موجودة فيك ، و لكنها
تنبعثُ تجدداً :الأولى : الهمة الباعثة للعمارة . و التي تدفع بك إلى كشف
الأسرار ، و البحث عن الطرقِ ، و هذا البحث لا يكون إلا بعد أن ينهض في
داخلك ، في نفسك الجوهرية الداخلية ، باعث العمارة الأكبر للوجود ، و الذي
به إفراح الله تعالي ، و به تحقيق مراده ، هذه الهمة في النهوض ما كانت لك
دون غيرك إلا لاختصاصك بشيء من دون من سواك ممن لم يُفكر بما جاء في بالك
من تقديم نهضة في الكون ، و نهضات الكون ليست محصورة في شيء ، فكل شيء
يعمرُ جزءاً من الكون فهو نهضة .حين تنبعث الهمة بالنهوض في تحقيق وظيفة
الإنسان الخليفةِ للهِ تعالى في الأرض ، تنبعثُ فيه :الثانية : العزيمة .
على الرشد و السداد ، فلا يَعزم الناهض إلا على أن يكون حقيقة فاعلاً و
مؤثراً و متناً ، لا أن يكون منفعلا متأثراً هامشيا ، فلا يمكن أن يرضى
بالدون مَن ملك الهمة ، و من ملك الهمة أتى بالعزيمة ، و العزيمة التي فيك
، يقينا ، لا تكون عند أحد ، و لكل إنسان عزيمته المناسبة له ، لذلك لا
يملأ أحد فراغَ أحد ، و لا يسُد شخص مكان شخص ، لأن الإنسان في الكون لا
بديل له ، لذلك تبكي عليه سماؤه و أرضه ، و لو كان له بديل ما بكتا عليه .
تلك العزيمة تفتح لك آفاقاً واسعة في صناعة أسرار النهوض ، و إيجاد صور
العمارة الكونية ، مما ينقلك بقوة إلى : الثالثة : صناعة النهضة . و لا
يمكن أن تنهض في صناعة الوجود و الكون ، و النهضة بعمارته ، إلا بعد أن
تكون ذاتك قد نهضت ، و نهوض الذات موجود في كل إنسان ، فقط يحتاج إلى تجلية
و كشف ، و حين تكون النهضة الذاتية اكتملت و تحققت ، و لو في أغلب صورها ،
تكون النهضة بالوجود ، فانظر إلى مكانك في هذا الكون ، كم يحتاج منك ، و
انظر إلى إمكانيتك التي منحك الله إياها كم الكون محتاج إليها ليعتمرَ بها
عن طريقك ، لا مجال للتواضع هنا ، فتلك حقائق موجودة ، إن لم نعرفها وجب
علينا البحث عنها ، و أنت تعرف إمكاناتك و قُدراتك ، فهل ترى أنها ستصنع
مجداً ، و تنهض بشيء من الكون هو مهمتك ووظيفتك ؟إن أدركت ذلك بقوة و وضوح
فإنك ستكون في حالة :الرابعة :التميُّز . فالأعمال المحسوسة الملموسة هي
التي يَحكم الناس من خلالها للشخص أو عليه، و نهوضك ذاك السابق ، قد اثبت
آثارك ، و الله حكى أنه يكتب ما قُدِّمَ من آثار الإنسان ، لا ما حُكي و
طار بالهواء ، و تلك الآثار و الأفعال ستكون متميزة ، و صانعة منك نفساً
تأبى أن تكون إلا في السماء ، و تتخذ السماء أرضا لها ، و لا ترضى بما دون
النجوم ، و حين تتحقق فيك تلك ، فاعلم أنه سيتحقق لك :الخامسة : الاستقلال
الذاتي . فلا أحد يقدر أن يكون عليك ، لأن ارتباطك بالرب الخالق ، حيث هو
الذي استخلفك و جعلك وكيلاً عنه في كونه ووجوده ، فإن ارتباطك به أقوى ، و
لا يمكن لمن ارتبط بالمكوَّنات أن يرتبط بالمكوِّن ، فالإنسان لا يكون إلا
لواحد ، حينها ، سترى نفسك تُعطي عطاء من لا يرجو فقراً في إمكاناته ، و
حينها تتوارد و تتوافَد عليك العطايا من السماء و الأرض ، فلا تجد نفسك إلا
في حالة من الأبَّهة في الإنجاز ، و حُق لمن كان الله وليّه أن يتأبَّه بما
قدَّم .عند ذلك ، و بعده ، لا يكون منك توقف عن ملاحقة الكمال ، فالله
كمالٌ تام ، لا يعتريه نقص ، و المرءُ على قدرِ مَن التحقَ به ، فأنت في
ذلك كله كان ارتباطك سماويٌ ، فلا تكون الأرض لك ، فانطلق هناك ، و اعلم أن
الكون كله جناح يحملك حيث تريد، و أرِ اللهَ منك آثاراً من تلك المواهب
التي منحك ، هل تستطيع ؟!