جرت بيني و بين صديق محبَّبٍ مقرَّبٍ ترسُّلات ، أرسلت إليه جوابا على
رسالة منه : أُقسم بربِّ القمرِ إنَّك لنقيٌّ . فأرسلَ إليَّ : أما النقاء
؛ فو اللهِ لا أعلم قلباً تلطَّخ بالقاذورات كقلبي ! . صدقا لا تواضعا .
فأرسلت إليه : أيَجُبُّ الخيرُ الشرَّ ، و الطُهْرُ القَذَرَ ؟! . في قلبك
من الخير ما لا يجوز لك ألا تفخر به ، فاذكرْه تحدُّثاً . و لم تأت منه
رسالة جواباً ، و جاءني صوته النقي الشجي .ما جرى بيني و بين صديقي هذا
جعلني أكتب شيئاً مما يختلجُ الخاطرَ ، و يسلك في العقلِ سُبلاً ذُللاً ،
لعلي واجداً قلباً ماجداً و عقلاً راشداً ، فيعي ما أريد دون مزيد . أيها
الإنسان الصديق ، حين ترسل ناظرك في الكون لا تجد شيئاً أكمل منك ، و
مخلوقاً أجمل منك ، و كذلك لا تجد شيئاً يرفلُ بمزيد من النعم كما ترفل ،
بل إنَّك غدوت مظهراً من مظاهر الإبداع الإلهي ، و هذا الإبداع الإلهي كامن
في الكثير منك ، في الدقيق و الجليل ، الصغير و الكبير ، الجلي و الخفي ،
ذلك الإبداع ما كان ليكون في الإنسان و يكون مستوراً ، بل جعله الله حين
أبداه ظاهراً أكثره للعيون الباصرة ، و باقيه للبصائرة السابرة ، فيُدرك من
نفسه كثيراً ، و يرى أكثر و أكثر . و حين تكون تلك المظاهر من الإبداع
الإلهي منشورة ظاهرة ، كان من لزام الحال أن يُظهرَ الإنسان من نفسه شيئاً
من الإبداع الذي كَمُن فيه ، حيثُ أمرُ { و أما بنعمةِ ربِّك فحدِّث } و
إشارةُ ” إن الله يُحبُّ أن يرى أثر نعمته على عبده ” ، فالإظهار من بديع
الشُكر الذي لا يَنتبه إليه إلا القلائل من الناس ، و الفطناءِ ، فالله
الخالق لم يجعل هذه ليكون مآلها إلى الكتمان ، و لا حالها إلى السَّتْرِ ،
بل ليبدو منك أثرُ عظمته ، و اعجبْ أن جعلك مظهراً لذلك ، و ذاك مدعاة
الفخرِ و الشرف .إن الكتمَ بحجة التواضع ، ليس سارياً في كل حالٍ على وجهٍ
صحيح ، فربما كان البيان من أكمل التواضع ، ففي الفخرِ تواضعُ القلبِ ، كما
في الذم كِبَرُ القلب ، و لستَ من أولئك صُنعاً ، فاعترافك بما أنتَ عليه و
بما هو لك من أنفسِ الأحوال في الالتفات إلى جانب التحدثِ المتضمِّنِ دقيقة
الشكرِ عند من لَحَظَ سرَّ ذلك ، كما أنه في الكتمِ استلفاتٌ للأنباه
بالانتباه إلى ما وراءِ الكتمان ، غيرَ ذلك ؛ ما فيه من حجبِ أثرِ نعمة
الربِّ الأعظم تعالى ، و تلك مزلةٌ لا يسلم منها من تواضَع ، فليس بضائرٍ
أن تتفوَّه ، أيها الإنسان ، للقومِ بما أنت فيه ، و بما حُبِيْتَ به من
أثرِ الخالق العظيم ، و من جرى على خاطره شيءٌ من ذلك ، فليرْعَ خاطرَه
بالمراقبةِ .إن رأيت قلبكَ و ما حواه من جمال الكمال ، و كمال الجمال ،
لرأيتَ أن ما فيه غالبٌ خيرُه و جميلُه على شرِّهِ و قبيحِهِ ، و الغالبُ
مذكورٌ لأنه منصورٌ ، و المغلوبٌ مهجورٌ حيثُ كان مدحوراً ، و في مثل هذه
الحالِ تكون مِشية القلبِ خُيلاءَ ، حيثُ انتصرَ فيه الكمال المرادُ على
النقصِ ، و لا يَختال كاملٌ ، و لا يتكبَّرُ صافٍ ، و إنما يتشبَّثُ
بذَيْنِ ، و يتعلَّق بهما ، من لم تكتمل نفسه ، و لم يَصِحَّ عقلُه ، و حين
ترى الكاملين ، ترى فيهم حيناً من الدهرِ مدحاً لأنفسهم ، و إشادةً بذواتهم
، و لكنها حيث صحَّ منهم الفعلُ الموجبُ لذلك ، و ثبتَ عنهم العمل
المُصدِّقُ للقولِ ، و ما آيةُ ” لمَ تقولون ما لا تفعلون ” إلا إشارة إلى
الإشادة بالأفعال ، فمن فعلَ و عملَ نال الإشادة ، و الإشادة درب السيادة ،
و من لم يُعرف إلا بجعجعة اللسان ، و شنشنةِ الهذَرِ فمدحه قدحه ، و
مناقبُه مثاقبُه ، و رَفْعُه رَقْعُه ، وحمدُه خَمده . فأنتَ من الأولِ ، و
مسراك حيثُ المعوَّل ، إذ صحَّ بحضورك حبورُك ، وببقائك نقاؤك ، و بوجودك
شُهودك ، و بِغَيْضِكَ فيضُك ، و بعلمك حلمُك ، حيث رُمتَ القولَ بالعمل ،
و الكمالَ بتحقيق الأصل ، و لم تكن بالدَّعَيِّ العَيِي . لذا فلا
يَغلِبَنَّ الحسنَ اليقينَ ظنُّ القُبحِ ، و لا الخيرَ دعوى الشرِّ ، و لا
الكمالَ النسبيَّ وجودُ النقصِ الأزلي ، فالاعتبارُ ههنا بما أراد الخالقُ
منك و فيك و لك و بك ، من كمال و تمام ، فـ { و لقد خلقنا الإنسان في أحسن
تقويم } بيانٌ لأصلِ لزوم إبداء ذلك على الدوام ، حيثُ كان الخلْقُ أولاً ،
و التخلُّقُ تالياً ، و لزوم الإظهار لذلك من أسرار دقائق الشكر و الحمد و
العرفان . و لا يكون الناسُ عارفين بك إلا حين تكون مُعرِّفاً بنفسك ، و
حين تُعرِّفُ بها تكون قد عرَّفْتَ بأثرٍ من آثار الخالق الأعظم ، و لا
يلتفتُ أحدٌ إلى من لم يلتفت إلى نفسه ، فـ ” تكلم حتى نراك ” ، ليعلم
الناسُ ما فيك مما يُناسبهم فيلجوا ميدانك ليأخذوا بيانك ، و ما لا يناسبهم
منك يذهبوا بأنفسهم عنك ، ليأتي آخرون ، و ليس ذا من حمْد الذاتِ في شيءٍ
بقدْرِ ما هو بادرةٌ في إظهار ما فيك من الأثر الأكبر .أيها الإنسان الصديق
، لستُ أنا من يَرعى جنابك بمثل ذا ، فأنت مثالٌ يُحتذى ، و إنما بَوحُ
صديقٍ وثيقٍ ، و محبٍّ رفيق ، أكشفُ لك عن مكنونِ الحالِ ما يبتهج به الحال
، و عن مَصون الخَفِيِّ ما يُسعد الحُفيّ ، و من مخزون القولِ ما بِهِ
حَوْل ، فغايةُ ما أتقنُه حرفٌ إلى حرفٍ أَخِهْ ، إن رأيته معافىً
فانتَخِهْ ، و إن لم يكن شيئاً ، فلا تتخذه فيئاً .