مجالسُ المُتنبي
المجلس التاسع
20/4/1430 ، 16/4/2009
عبد الله بن سُليمان
العُتَيِّق
قال أبو الطيِّبِ المتنبي :
أعزُّ مكانٍ في الدُّنَى سرْجُ سابحٍ و خَيْرُ جليسٍ في الزَّمان كِتابُ
وحيُ البيتِ :
المطالبُ لا تُنال إلا بهمة باعثة و نفسٍ حارثة ، و البقاءُ في الوجودِ
بالشُّهودِ يكون بالمسارعةِ و المُطالعةِ و المُصارعة .
الكتابُ جليسُ الكاملين ، و أنيسُ البالغين ، يجدون فيه تلقيحاً ، و
يُدركون تصحيحاً ، و ينالون تنقيحاً ، يُحصِّلون في صحائفه صُور الكمالات ،
و يقتبسون دُرر الكلمات ، فلا ينأون عنه ، و لا ينفرون منه ، يُجددون
الولاءَ له كلَّ آنٍ ، و يُديمون صُحبتَه كلَّ زمانٍ .
نظروا إليه صديقاً لا يكذب ، و ناصحاً لا يخدع ، و محايداً لا ينزع ، يُعطي
دون أخذ ، و يبذُل من غيرِ منٍّ ، و يَهَبُ من غيرِ رجْعٍ .
لما كان الكتاب بتلك المنزلة حظي بعناية الاهتمام ، و رعاية المقام ، و
أقيمتْ لتحقيق غايته العلائمُ ، ووضعت القواعد ، حتى يَغدو المُمسِك به
مُدرِكاً مراده ، محصِّلاً مطلوبه .
الكتابُ مصدرُ وعي البشر ، و مُستودَع سرِّ الحضارات ، فلم نكن لنعرفَ
أحوال الحضارات القديمة لولا تخليدها في الكتب ، و لم نكن لنعرفَ ما فيها
لولا معرفتنا بالقراءة ، فالكتابُ مستودعٌ و القراءة مفتاحٌ .
تحصيل مخزون الكتابِ يُدرك بمهارة الكشف عنه ، و المهارات علمٌ و ذوقٌ ،
فكلُّ قاريءٍ يعرفُ كَتِفَ كتابه ، و الأذواقُ لا تتكوَّنُ في المعارفِ إلا
بعد دراية بأصولها .
الاهتمام بالقراءة من مهامِّ القِوام البشري ، فلا يستطيع إنسانٌ أن يُقيم
شيئاً على أصوله إقامة سليمة إلى حدٍّ كبير إلا بعد أن يقفَ على شيءٍ
يُبَيِّن له كيفية ذلك ، و زمنَه ، و أشياءَ أُخر ، و من سُبُل الوقوف :
القراءة ، و حين تغيب القراءة في عُنصر حضارة من الحضارات فإنها ستختلُّ و
يعتريها نقصٌ و عَوَرٌ ، و لكل حضارةٍ قراءة تناسبها ، فليست القراءة حصراً
على مرور العين على أحرفٍ يُدركها العقلُ فيقف على مقاصد الوجود ، و لو
كانت القراءة بهذا الحصر لَمَا قامتْ حضارات لا يعرف أهلها الحروف ، و
لَمَا قامت حضارات غارقة في العظمة في حين لا حروف موجودة ، فالقراءة وسيلة
لإدخال المعرفة إلى العقل ، قد تكون حروفاً ، و قد تكون رموزاً ، و قد تكون
حقيقة أو خيالاً ، إلا أنها تنتهي إلى كسْبٍ لمعرفةٍ تُضافُ إلى العقل
البشري لتُقام به حضارة .
و إذ كانت القراءة بهذه المكانة كان من الضروري الوقوف على ما يجعل أثرها
متحققاً ، من خلال إشارات وجيزة ، درءاً لمفاسد الإخلال ، و منعاً لحصولِ
تَبِعاتِ الفوضوية و الإعلال .
فتحديد الغاية من القراءةِ من الأشياء الضرورية لإدراك منفعتها ، يختلف
الناسُ في الغايات من القراءة ، و باختلاف الغايات اختلاف الوسائل ، فكل
غاية لها وسيلة تتناسب معها ، و التناسُبُ بين الأشياء من قوانين الكون
الكبرى .
الغاية تحدد وسيلة الوصول إليها ، فينبغي للقاريء أن يعرفَ الوسائل التي
توصله إلى غايته ، فيأخذ منها الأنسبَ لحاله ، و الأجود أثراً ، و الأضمنَ
تأثيراً .
التعرُّف على الكتابِ ، و ما يحويه من أبحاث مهمٌ ، فليس كل كتابٍ يَفي
بغرضِ الغاية ، كثيرون يَقعون في اقتناء كتاب لغرضٍ يريدونه ثم ينتبهون
بعدُ إلى أنه ليس هو ما يأملون منه أن يكون مغنياً ، فكتابٌ يُغني عن غيره
و لا يُغني غيرُه عنه هو المقصود بالاقتناء ، فتفادياً لتلك الحالة لزم
التعرُّف على الكتابِ بالنظرِ في مضامينه ، و القراءة لبعضها .
وليست كل الكتبِ في موضوع واحدٍ تتشابه في المُعطياتِ و المضامين ، ففي
كتابٍ ما ليس في غيره ، ففي حين القراءة في كتبٍ ذات موضوعٍ واحدٍ لتكن
القراءةُ مراعيةً التفرقةَ ليُدرك ما في الكتب من مفارقاتٍ مفرَّقاتٍ ، و
حين نقرأ بنظرة التشابُه نفقد الإفادة منها ، فاقرأ بعين التفارُق لا بعين
التشابُه .
آلية القراءة تُحقق الكثير ، فحركة النظر ، و استصحاب القلم ، و الإعلام
على فرائد المنثور ، و الإشارة إلى جوهر المقصود ، كلها تدلُّ على انتباه
العقل ، و تُبرهن على مدى استيعابه ، و الآلية لا شيءَ يحكمها ، فلكل قاريء
آليته .
الصلة بالكتابِ من الضروريات القرائية ، فبمجرد وجود الكتاب قريباً من
القاريء يبعث الولاء له ، و يجعل القلب مرتبطا به ، و الروح متعلقةً به ،
حتى لو لم تكن هناك إمكانية للقراءة فيه ، فلا يبتعد الكتاب عن العين ،
فالبعيد عن العين بعيد عن القلب ، ليكن الكتابُ صاحباً و جليساً مهما كانت
حالة مجالسته و صحبته .
في ضبط القاريء أصول قراءته تتحصَّل له خيرية مجالسة الكتاب ، و ما غابت
لذة الكتابِ إلا لما غابت مهارة قراءته ، و مهارات القراءة لا تُحصى في
محلٍّ ، فلا زالت تتجدد كتجدد الكتاب و القراءة ، لهذا فإن ملاحظة و متابعة
تطوُّر فنون القراءة من فطنة القاريء ، فالقارئ ابن عصره فلا يعشْ في غيره