|
" إنَّ الله جميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ "
حديثٌ نبويٌ
الجَمالُ حُسْنٌ في الشيءِ ،
مزروعٌ فيه ، و ظاهرٌ عليه ، يستلفتُ انتباهَ الصرِ و البصيرة ، و يستجلبُ
المدحَ و الإشادة باللسانِ ، و يرجع بذلك الانتباه إلى سائرِ الكيان البشري
، حيثُ الميلُ الجميل ، و الإقبال الراقي .
الجَمالُ سِرٌّ ساحرٌ في الوجودِ ، وضعه الخالقُ ليكون دالاً عليه ، و
منبئاً عنها ، و ليكونَ ظاهرةً من ظواهر إبداعه في صنع الكون ، نعتَ به
نفسَه ووصفها ، ليكون أبلغَ في بيان سرِّه .
إنَّ جَمالاً كان الله موصوفاً به يحملُ رسالتين إلى الإنسانِ ، عبرَ
رُسُلِ الكونِ الموزَّعةِ فيه :
الرسالةُ الأولى : أنَّ الله الجميلَ وصفَ نفسَه بهذا الجمالِ ، و سَمى
نفسَه به ، ليجعل الجمالَ أساساً في الوجود ، و أصلاً في الذاتياتِ و
الصفات ، فكان جميلاً في كلِّ شيءٍ ، جميلاً في كونه هو الله ، و جميلاً في
كونه هو الخالقُ ، و جميلاً في تلك الأسماءِ التي له ، و جميلاً في تلك
الأفعالِ التي فعلها ، و جميلاً في كلامه ، و جميلاً في الوجود ، و جميلاً
في الجمالِ ، و جمَّلَ الجمالَ به فكان جمالاً لا يُضاهى ، جَمالُ اللهِ
الجميلِ كانَ منشوراً في الكونِ ، في كلِّ جزئياته فضلاً عن كلِّيَّاته .
جَمالُ اللهِ ليس له حدٌّ ينتهي إليه ، لأنَّ الجميلَ ذاته كذلك ، و جَمالُ
ما منهُ كذلكَ ، و جمالُ جمالياتِهِ كذلك ، و سلسلةٌ لا تنتهي مِن جمالِ
الجميلِ اللهِ .
تلك رسالةُ الجميلِ إلى خلقه في الكونِ يُعرِّفهم بجَمالِهِ و حُسْنِه ، و
يجعلهم يُحبون الجَمالَ و يَعْشَقونه حدَّ اللا حدَّ و نهايةَ اللا نهاية ،
لأنَّ جمالَ الجميلِ كذلك ، فإذا ما أدركوها يقيناً جاءتهم :
الرسالةُ الثانية : صناعة الجمالِ ، في النفسِ ، و في الكونِ كله ، قولاً و
فعلاً ، صفةً و ذاتاً ، حقيقةً و صورة ، صناعته من ذاك الحبِّ الذي
انْزرَعَ في النفوسِ ، حيثُ حُبُّ الجميلِ اللهِ له ، حيثُ كوَّنَه في
كَوْنِهِ الفسيحِ ، صناعته بشتَّى أنواعِهِ و أشكالِهِ ، وِفْقَ الأذواقِ
النفسية و الروحية .
صناعة الجمالِ في الوجودِ وظيفة المخلوقاتِ ، في إخراجها من نفسها لتكون
ظاهرةً في الوجودِ مُدْرَكَةً في الشُّهود ، فالجَمالُ لن يكون جَمالاً إلا
في إظهارِ المخلوقاتِ له ، و في قبولها إياه و استحسانها إياه ، فنحنُ
أساسُ الجمالِ الذي خُلِقَ في ذواتنا ، و صُنِعَ لنا ، لنجعلَه آيةُ الكونِ
منشورةً ، و علامةً بيِّنَةً لكلِّ أحدٍ ، و إذا ما أغفلناه و أهملناه خَبا
بريقُه ، و ضُلَّ طريقُه ، و صارَ مقبوحاً منبوذاً ، و تقبيحُ الحُسْنِ
خللُ العقلِ .
صناعة الجَمالِ تشتملُ كلَّ ما نراه بالعَيْن ، و نسمعه بالأُذُنِ ، و
نشُمُّه بالأنفِ ، و نذوقُه باللسانِ ، و نعقِلُه بالقلبِ ، و نستشعرُه
بالنفس ، و نميلُ إليه بالروح ، و نُدركه كُلَّه بكُلِّنا .
بين الرسالتين تواصُلٌ و ترابُطٌ ، فصناعةُ الجمالِ متكوِّنَةٌ من معرفةِ
جمالِ اللهِ الجميل ، فجمالُ كلامِهِ يُدركُه جمالُ السمعِ ، و الأقوى و
الأعمقُ سَمعاً أدْرَك للجمالِ الكلامي الإلهي من غيره ، و جَمالُ الصورِ
يُدركه جَمال البَصَر ، و جمَال كلِّ شيءٍ في موجوداتِهِ يُدركه شيءٌ من
مُدْرِكاتِ خلقه .
القولُ جمالٌ ، و الفصاحة جمالٌ ، و الحرفُ جمالٌ ، و الفعلُ جمالٌ ، و
الحبُّ جمالٌ ، و الرحمةُ جمالٌ ، و البكاءُ جمالٌ ، و الدمع جمالٌ ، و
الحركة جمالٌ ، و السكون جمالٌ ، و المشيُ جمالٌ ، و الوقوف جمالٌ ، و
النجاحُ جمالٌ ، و الفشلُ جمالٌ ، و الغِنى جمالٌ ، و الفقرُ جمالٌ ،
اللونُ جمالٌ ، و الصوتُ جمالٌ ، و الخيرُ جمالٌ ، و الشرُّ جمالٌ ، و
النوم جمالٌ ، و اليقظة جمالٌ ، و الليل جمالٌ ، و النهارُ جمالٌ ، و كلُّ
شيءٍ فيه جمالٌ بذاته أو بغيره ، وهنا مَكْمَنُ سرِّ الجمالِ .
تأمُّلٌ يسيرٌ في أبعادِ الوجودِ نجد جَمالاً متجدداً ، في كلِّ شيءٍ
جَمالٌ ، نحن بتأملنا نصنعه في نفوسنا ، ثم ننقلُه للغيرِ عن طريق تعبيرنا
عن أذواقنا ، و نسعى لنشره في الوجود باستعمالنا إياه .
هذا في الجمالِ الظاهرِ جمالُه ، و هناك جمالٌ آخرَ و أعمقَ ، و لا يكون
مُدرَكاً إلا بالتأمُّلِ ، و هو جَمال القُبْحِ و الدمامة ، فلولا القُبْحُ
ما عُرِفَ الجَمالُ ، و لولاه ما تنوَّعَت الأذواق الجَمالية ، فلو لم يَكن
القُبْحُ ما كان الجمالُ .
الجَمالُ واسعٌ و كبيرٌ ، حيثُ لا قانون يضبطه ، و الأذواقُ تحكُمُه ، و
الأذواقُ لا حاكم عليها ، فكان الجَمالُ جميلاً في إطلاق عنان إدراكه و
تذوقه .