|
الدكتور الراحل العلامة نزار الريان ، شخصٌ نال عندي منزلةً رفيعة ، و
آثرْتُه بحبٍّ كبيرٍ ، لا لشيءٍ سِوى أنني رأيتُ رجلاً جمع الله فيه من
خصال الكمال ما تفرَّقَ في الكثيرين ، لم أعرفه عن قربٍ ، و لكن أحاديثه
تنبيءُ عنه و تُخبرُ عن كُنه حقائقه ، رجلاً عالماً ، أضاف إلى علمه حِلماً
و عقلاً ، و قليلٌ من العلماءِ من هو كذلك .
كانت البداية أن أضافني عنده في برنامج المحادثة " الماسنجر " ، إضافةٌ من
رجلٍ لا يعرف عني شيئاً ، سوى ذكر بلغه ، و لا أعرف عنه شيئاً سوى ذكر
بلغني ، و لكن ما إن كان التواصلُ حتى بدا بيننا حديث الودِّ و الإلْفِ ، و
لا زلتُ أعجبُ من ذاك التواضع الكبير الذي جعله يُضيف شخصاً ليس شيئاً ،
حتى الساعةَ أتعجبُ منه كلما مرَّ شريط ذكريات الحديثِ معه .
متمتعٌ بهمةٍ عاليةٍ ، رأيتها في حديثي معه في برنامج المحادثة فقد كان
يذكرُ لكلامه ما يُوثقه من نقلٍ عن سابقٍ ، و لا يطمئن حتى يُتبعَ ذلك
بالعزوِ للمصدرِ الذي نقلَ منه ، و مجالس المذاكرات يُتساهَلُ فيها ، و
لكنه جادٌّ و الجادُّ لا يرنو نحْوَ التساهُلِ في حالٍ .
***
"
استفدتُ في السجنِ الفِقْهَيْن ؛ فقه اللغةِ ، و فقهِ الأحناف ، فقد
أفاداني كثيراً في العلم "
نزار الريان
كنتُ معه في كلام عن اللغةِ ، و مدى أهمية توظيفها و استعمالها في أحاديثنا
، لم نكن جميعاً نقصد الإعرابَ للكلامِ و لا صرفَه ، بل كنا نقصدُ استعمال
ألفاظ العربيةِ و التعمُّقِ في أسرارها ، ليعرف الناسُ ، و طلاب العلوم آكد
، مدى استيعاب اللغةِ كثيراً مما يريدون ، حكى لي قصته في السجنِ و أنه
استفاد منها أن قرأ في كتب فقه اللغة كثيراً مما أطلعته قراءته على كنزٍ
كان عنه غافلاً ، و أنها عرَّفته كثيراً من أسرارها و التي تعينه على فهم
الشريعة ، قال : قد استفدتُ ذلك جليَّا في شرحي لـ " مسلم " ، ثم سردَ لي
ما كتبَه عن كلمة " السنة " و تطورها الدلالي و الاصطلاحي ، ثم قال : أين
سأحكي ذلك لولا تلك القراءة .
من فقه اللغةِ اللساني إلى الفقه الشرعي المتمكن في إعمالِ الرأي و توظيفِ
العقلِ في فهم النصوص كان انتقاله في القراءة في كتب الأحناف ، فأكسبته تلك
القراءة فهماً للنصوص أبعدَ مما كان يعتقد ، و أن الأحناف لهم فضل كبيرٌ
على فقهاء الشريعة ، فقد نظروا إلى أبعادٍ كثيرة ، و إن كان لا يوافقهم .
هذا الحالُ من رجلٍ يقبَع في السجن محصوراً مأسوراً ، مُثاباً مأجوراً ،
يغتنم تلك الحالة بهذه التعمقات الفقهية ، لهي حالة ليست إلا صورة نادرة ،
كان بإمكانه أن يُريح عقلَه قليلاً بقراءة مُلَح العلم و يستغنيَ عن
عُقَدِه ، و لكن الهمة معقودة في قائمة عرْش الكمالِ فأنَّى أن تُفَكَّ .
" و أظلمت المدينة "
..
في محادثةٍ من تلك المحادثات الطاهرة معه ، قبِلَه الله ، تطرقنا لشيءٍ من
الحديثِ عن السيرة النبوية ، و أن السيرة لم تُصَغْ اليومَ كما هي متناسبة
مع الزمان ، و الذي ينبغي لمن ملك قلماً أن يُسيلَ حبرَه لكشف أسرار السيرة
النبوية البانيةِ لحضارة الإنسانِ اليوم ، فإنَّ السيرة معطاءة ولودٌ ، و
تتجددُ و لا تَخلق ، ثم جاءَ ذكرُ كتابه " و أظلمت المدينة " ، فأرسلَه
إليَّ قبل أن يُطبَع طبعته الأخيرة في " دار المنهاج " ، و قال : هي لك
خاصةٌ من بين الناس ، فلا تُخرجه لأحد حتى يُطبَع ، و بعد زمنٍ أرسلَ غلافَ
الكتابِ . أخبرتُه بأنَّ الكتابَ موطنُ دمعِ مُحبٍّ ليس إلا ، و إنك
لممنوحٌ مقاماً به .
قال : كتبته معتمداً على ما صحَّ من خبرٍ ، جامعاً وعظاً و علماً ، سارداً
قصةً عظيمة ، أتمنى أن أكون مجوِّداً عملي .
طريقته في الجمع هذي مفيدة في التنويع الطرْحي للعلومِ ، و لعله أدرك ذلك
ففعل ، فالكتاب سيُقرأ من عدة أطيافٍ و عدةِ أصنافٍ ، فبالتنويعِ توفيرٌ
لكلٍّ ما يريدُ ، و إيجادٌ للبُغية ، و هذه من فطائن اللبيب .
ذكرتُ له قِصةَ ما كتبت من مقامةٍ في السيرة ، و لا أدري أأرسلتها له أم لا
، فكلانا كان ذاهباً على أن للسيرة حضورٌ مهمٌّ اليومَ في صورٍ لا تحصيها
الأعداد ، و لكن لا يعرفُ صورها إلا من عرفَ أبعادها .
" رضي الله عنكم "
هذه الكلمة قد تكون شعاراً له في حديثه ، فما بين الكلماتِ يسوقها ، و
شبيهاتٌ لها ، تنبئك عن رأفته و رقته ، لم أكد أسمعها من أحد ، لذلك كان
متميزاً ، و لعلَّها طبعه العام مع الناس كلهم ، فكمال أدبه لا يرضى
بالتخصيص إلا بموجبٍ .
كتب إليَّ بقصةٍ ظريفة جميلة بينه و بين الشهيد عبد الله عزام ، قبلهما
الله ، قال :
في ساقي جرح قديم جدا، كنت جالسا مع أستاذي عبد الله عزام رحمه الله، فرأيت
في نفس الساق منه جرحا كأنه هو ، قلت له: ما هذا ؟
ونظر إلى جرحي، فقال: الأرواح جنود مجنده .
***
"
كتبت في الأيام الماضية مقدمة كتاب الأنساب ضمنتها " الأنساب أصولها
وقواعدها وفوائدها " نزار الريان
كتب ذلك لي في 10/11/1429
ولا أعلم شيئاً ، رجلٌ معطاءٌ ، لا ينتهي عطاؤه ، و عطاؤه شهيدُ مقاصدِ و
غاياتٍ نبيلة ، و الشهيد حيٌّ .
في ذاك التاريخ ذكر أمنية الحجِّ ، و أخبرَ بشوقِ اللقاءِ ، و لعلَّه
قيَّدَه ، بعد قيدِ التيسير ، كما قال ، نصاً : هذا إن خرجت غزة .
***
"نويت
في رباطي القادم بعد ليال، أن يكون أجره لك إن شاء الله تعالى، فتكون نيتي
من أول تلك الليلة: رباط هذه الليلة هبة لأخي في الله ثم أذكرك إن شاء الله
تعالى "
نزار الريان
الاثنين ، 12/11/1429
هذا تاريخ آخرِ محادثةٍ كانت بيننا ، كانت محادثة ممتعة ملأها بتميُّزٍ في
الفوائد العلمية ، كعادتها و أمْيَز ، افتتحها بكل أدبٍ وخُلُقٍ فذٍّ بتلك
النية أعلاه .
هذا شيءٌ مما كان بيني و بين هذا الراحل الكبير ، و أعرف تقصيري ، و لكن
الذاكرة لم تُسْعف تعبيراً أكثر من ذا ، و إنه لفي الذكر باقٍ ، و إنَّ ما
أذكره مما جرى معه من حديثٍ ممتعٍ ، و رؤية لوجهه المنير ، ليجعلني في شكٍّ
من كونه رحلَ ، و إنني لأحتسب بقاءَه ، و أرجو في الآخرة لقاءَه.
نشر في : صحيفة سبق / http://sabq.org/?action=showAuthorMaqal&id=105