|
أولا .. لماذا الهجرة ..؟
إني لما نظرتُ إلى تأريخِ الهجرةِ ، ونظرتُ إلى الإعِدادِ الذي أعدّهُ الرسولُ
صلى الله عليه وسلم ونظرتُ إلى الأسبابِ والأساليبِ التي اتخذَها ، ابتداءً من
إذْنِه بالهجرةِ للصحابةِ ، وانتهاءً بوُصُولِه إلى المدينة ، وما بينهما من
أسبابٍ بشريةٍ كثيرةٍ ، فيها الاختفاءُ والسِّريةُ ، فيها كثيرا من الأسبابِ
البشرية ، تساءلتُ : ألم يُسْرَ بالرسولِ صلى الله عليه وسلم قبلَ عامٍ فقطٍ
إلى بيتِ المقدسِ ، ويُعرَج به إلى السماءِ ؟ ألم يأتِ إليه جبريلُ على الصلاةُ
والسلامُ وهو مُسْنِدٌ ظهره الشريف للكعبة بالبراقِ ليرحلَ هو وإياهُ من مكةَ
المكرمة إلى بيتِ المقدس ومن هناك إلى السموات ..؟ سبحان الله ! يُسْرى به إلى
بيتِ المقدس ، ويُعرج به إلى السماءِ ، ويرْجِع في ليلةٍ واحدةٍ ، ويجلس عدَّةَ
شهورٍ صلى الله عليه وسلم ويتَّخِذَ كثيرا من الأسبابِ والوسائلِ لهذه الهجرةِ
! لماذا ..؟ ما السبب ..؟ لِمَ لمْ تكن تلك الهجرةِ كذاكَ الإسراء ..؟ يُمْسي
في مكةَ ويصبحُ في المدينةِ النبوية بأمرِ الله سبحانه وتعالى وبقدرته ؟ أليس
الله قادرٌ على ذلك ..؟ أيُعْجِزُه سبحانَه وتعالى شيءٌ في الأرضِ والسماء ..؟
كيف لا.. والمعجزاتُ تتنزلُ عليه عليه الصلاة والسلام ، لكنني بعدَ التأمُلِّ
وجدتُ أن الله سبحانه وتعالى أراد منا ومن أمةِ النبي صلى الله عليه وسلم أن
نفقه هذا الدين فِقْهًا دقيقاً ، أرادنا أن نفقهَ هذه الدعوة المحمدية فقها
سديدا ، فهذه الدعوةُ أيها الأحبابُ هي وربي منهجٌ للبشر ، ربنا جل وعلا قادرٌ
أن يأخذَ رسوله صلى الله عليه وسلم في لحظةٍ واحدة ، وينقُلُه من مكةَ إلى
المدينة ، لا يحتاجُ إلى إعداد ، لا يحتاج إلى اختفاء ، لا يحتاج إلى مئونة ،
لا يحتاج إلى مطاردةٍ ، لا يحتاج إلى مصاحبةٍ ، لكن الأمرَ أعمقَ من ذلكَ وربي
وأبعدَ بكثير ، إنه الدينُ ..! أراده الله ليكونَ منهجاً للبشريةِ ، لماذا .. ؟
لأنه لو فُعل ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءَ بعدَه من الدعاةِ ممن
تواجهُهُم مثلُ هذه المشاكلِ ، مشاكلِ الاضطهاد ، ومعاناةِ العذاب في سبيلِ
تبيينِ الدعوةِ وإخراجِ الناسِ من عبادةِ العباد إلى عبادةِ ربِ العبادِ فأين
حينَها يجدُونَ الحلَّ ؟ كيف يجدونَ المخرج ؟ إلى من يلتجئون ..؟ أولئك الذين
يُضطهدونَ في دينهم ، أولئكَ الذينَ يحارَبونَ في عقيدتهم ، أولئك الذين
تُمتَهَنُ كرامتُهم عليهم أن يأخذوا الدروسَ العظيمَةَ من هذه الهجرةِ .
إذًا ..
نحن في هذه الهجرةِ بجميعِ مراحلِها ، نتبينُّ من خلالِها الدروسَ العظيمةَ
للدعاةِ وللمسلمينَ ، فلو تمَّتْ هذه الهجرةُ بين عشيةٍ وضحاها ؛ لخسرنا تلكَ
الدروسَ ، ولخسرنا تلكَ المواقفَ ، وهذا أمرٌ لا ينتبه له كثيرٌ من الناس ،
ويكفي التأريخَ شرفاً أن سطَّرَ بأحرفهِ الذهبيةِ هذه السيرةِ العطرةِ ، وهذه
الهجرة المباركة ، لنلجأ إليها كمخرجٍ من كُرباتِنا ، وحلٍ لأزماتِنا ، وشِفاءٍ
لأمراضَنا ، بعد الله جل وعلا .
في هذه الهجرةِ يعرفُ الداعيةُ كيف يأخذُ بالأسبابِ ، كيف يفرقُ بين التوكلِ
والتواكُلِ ، يأخذ الحذرَ والحِيطةَ ، يعرفُ المسلمُ من هذه الهجرةِ النبويةِ
أنه لا يستكينُ ولا يستهينُ ولا يقْبَلُ الذلةَ في دينه ، ولا في عقيدته أبدا ،
نعم .. إن هذه الهجرةَ العظيمةَ منهجٌ للبشر ، ولو خرجْتُ عن الموضوعِ من جهةٍ
أخرى في درسٍ عظيمٍ أربِطُهُ بهذا الموضوعِ ، وهو " قضيةُ المنافقين " فلقد
وقفتُ كثيراً وتأمّلتُ بتمعُّنٍ قصةَ علاجِ الإسلامِ لقضيةِ المنافقين ، وكيف
عالج الرسولُ صلى الله عليه وسلم قضيتهم حتى انتهت ، ابتداءً من الهجرةِ وحتى
وفاتِه صلى الله عليه وسلم مروراً بالأطوارِ التي مرت بها قضيةُ المنافقينَ
وأثرُهم في المدينة ، وتساءَلْتُ وقلتُ : الله جلا وعلا قادرٌ على أن يُعْلِمَ
نبيهَ صلى الله عليه وسلمَ بعض أسماء المنافقينَ لِيَسْتَتِيَبهم ؛ فإن تابوا ،
وإلا قُتلوا ، أو طُردوا " وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة
مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم " نعم .. لا تعلمهم كلهم نحن نعلمهم ،
لأن الله لم يُردْ إبلاغَه إياهم ؛ لأن الله تعالى لو أخبرَ رسولَه صلى الله
عليه وسلم بهذهِ الأسماء ، نحنُ الذينَ نأتي من بعدِه من سيخبِرُنا بالمنافقينَ
الذين يعيشونَ بيننا ؟ كيف نعالجُ مُشْكِلَتِنَا معهم وهم من بني جلدتِنا ؟ إذا
لا بدَّ من اللجوءِ بعد الله تعالى إلى سيرةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم ، إلى
هجرةِ الرسول صلى الله عليه وسلم ، فَمِثْلَمَا عالجَ الرسولُ صلى الله عليه
وسلم تلكَ المشكلةَ وتلكَ الفتنةَ داخلَ الصفِّ المسلمِ ، ووقفَ على تلكَ
الخياناتِ التي ارتُكبتْ في داخلِ هذا الصفِّ ؛ سنجدُ حينها علاجا لمشكلاتِنا
في زماننا هذا .
إن درسَ الهجرةِ أيها الأحبة درسٌ عظيم ، أراد الله سبحانه وتعالى لنا أن
نتعلمَ منه الشيءَ الكثيرَ ، ولكن أين القلوبُ الحيةُ ؟ أين القلوبُ الصادقةُ
اليقظةُ ؟ أين القلوبُ الباحثةُ عن الحق ؟ فالعودة العودة الصادقة الحميمة إلى
هجرةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم لنستلهمَ الدروسَ والعبرَ ,,, وإلى ثاني
الدروس الجنية من الهجرة النبوية .
الفوائد الجنية من
الهجرة النبوية (4)