في هذه الأيامِ القليلةِ القادمة يقضى الحجاج عبادةً من أعظم العبادات ، وقربةً
من أعظم القربات ، يتجردون لله من المخيطِ عند الميقات ، وتسيل دموع التوبةِ في
صعيد عرفاتٍ على الوجنات ، ويضجون بالافتقار إلى الله رب الأرض والسموات ،
وتزدلف أرواحُهم إلى مزدلفةَ للبَيَات ، وتزحف جموعهم بعد ذلك إلى رمي الجمرات
والطوافِ بالكعبة المشرفة ، والسعيِ بين الصفا والمروة في رحلةٍ من أروع
الرَحلات وسياحةٍ من أجمل السياحات يتقلبون في هذه المشاعر فرحين بما آتاهم
الله من فضله { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ
فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ } فيا من حججت البيت الحرام ،
ووقفت على تلك المشاعر العظام ، أهدي إليك هذه الوقفات عل الله أن يرفع بها
الحسنات ، ويحط بها السئيات ، وإلى أولى الوقفات ...
الوقفة الأولى :
يا من حججت البيت العتيق ، وجئت من كلِ
فج عميق ، ولبيت من كل طرفٍ سحيق ، ها أنت وقد كَمُلَت نيتك وتمَّ مقصدك بعد أن
وقفت على هاتيك المشاعر ، وأديت تلك الشعائر ، ها أنت تتهيأ للوقوف بعرفة
والمبيت بمنى احذر كل الحذر من التلوثِ بالمحرمات ، والتلفُّع بالمَعَرَّات ،
والْتِحَافِ المسبَّات ، إياك إياك أن تهدم ما بنيت ، وتُبدد ما جمعت ، وتنقض
ما أحكمت ، لقد فتحت في حياتك صفحةً بيضاء نقية ، ولبست في حجك ألبسة طاهرة
نقية ، فحذار حذار من الأفعال المخزية والمسالكِ المردية ، والأعمال المشينة .
الوقفة الثانية :
يا من حججت بيت الله الحرام ، اشكر الله على ما أولاك ، واحمده على ما حباك
وأعطاك ، تتابع عليك بِرُّه ، واتصل خيرُه ، وعمَّ عطاؤه ، وكمُلت فواضله ،
وتمت نوافله { وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَإِن تَعُدُّواْ
نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } فظُن بربك
كلَ جميل ، وأمِّل كلَ خيرٍ جزيل ، وقوّي رجاءك بربك في قبولِ حجِك ، ومحْوِ ما
سلف من ذنوبك ، فقد جاء في الحديث القدسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
" قال الله تعالى : أنا عند ظنِ عبدي بي " [ أخرجه الشيخان ] فهنيئًا لك حجُك
وعبادتُك واجتهادُك .
الوقفة الثالثة :
إن للحج المبرور أمارة ، ولقبوله منارة ، سُئل الحسن البصري رحمه الله تعالى :
ما الحجُ المبرور ؟ قال : أن تعودَ زاهدًا في الدنيا ، راغبًا في الآخرة ،
فليكن حجُك حاجزًا لك عن مواقعِ الهلكة ، مانعًا لك من المزالقِ المُتلفة ،
باعثًا لك إلى المزيد من الخيرات وفعلِ الصالحات ، واعلم أن المؤمن ليس له
منتهى من صالحِ العمل إلا حلولُ الأجل ، فما أجملَ أن تعود بعد الحج إلى أهلك
ووطنك بالخُلُقِ الأكمل ، والعقلِ الأرزن ، والوقارِ الأرْصَن ، والعِرض الأصون
، والشِيَمِ المرْضية ، والسجايا الكريمة ، ما أجملَ أن تعود بعد حجك حَسَنَ
المعاملة لقِعادك ، كريمَ المعاشرةِ لأولادك ، طاهرَ الفؤاد ، ناهجًا منهج الحق
والعدل والسداد ، المُضْمَرُ منه خيرٌ من المظهر ، والخافي أجملُ من البادي ،
فإن من يعودُ بعد الحج بهذه الصفات الجميلة والسمات الجليلة فهو حقًا من استفاد
من الحجِ وأسراره ودروسه وآثاره .
الوقفة الرابعة:
الحج بكل مناسكِه وأنساكه يعرفك بالله ، يذكرك بحقوقه وخصائصِ ألوهيته جل في
علاه ، وأنه لا يستحقُ العبادةَ سواه ، يعرفك ويذكرك بأن الله هو الأحدُ الذي
تُسلَم النفس إليه ، ويوجَّه الوجه إليه ، وأنه الصمدُ الذي له وحده تَصْمُد
الخلائق في طلب الحاجات ، فكيف يهون عليك بعد ذلك أن تصرف حقًا من حقوق الله من
الدعاء والاستعانةِ والذبح والنذر إلى غيره ؟ أي حجٍّ لمن عاد يريد الحج وهو
يفعل شيئًا من ذلك الشركِ الصريح والعمل القبيح ، أي حج لم حج وهو يأتي
المشعوذين والسحرة ، ويُصَدِّقُ أصحابَ الأبراج والتنجيمِ وأهلَ الطِيرة ويتبرك
بالأشجار ، ويتمسح بالأحجار ، ويعلق التمائمَ والحروز ؟ أين أثرُ الحج فيمن عاد
بعد حجه مضيعًا للصلاة ، مانعًا للزكاة ، آكلاً للربا والرِشا ، متعاطيًا
للمخدرات والمسكرات ، قاطعًا للأرحام ، والغًا في الموبقات والآثام ؟ فيا من
امتنعتَ عن محظورات الإحرامِ أثناء حج بيت الله الحرام ، إن هناكَ محظوراتٌ على
الدوام وطولَ الدهر والأعوام ، فاحذر إتيانها وقربانها { تِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَـئِكَ
هُمُ الظَّـالِمُونَ } .
الوقفة الخامسة:
من لبى لله في الحج مستجيبًا لندائه كيف يلّبي بعد ذلك لدعوةٍ أو مبدأ أو مذهب
أو نداء يُنَاهِض دين الله الذي لا يَقبل من أحدٍ دين سواه ؟ من لبّى لله في
الحج كيف يَتحاكم بعد ذلك إلى غير شريعته ، أو ينقادَ لغير حكمه ، أو يرضى بغير
رسالته ؟ من لبى لله في الحج فليلبِّ له في كل مكان وزمان بالاستجابةِ لأمره
أنى توجهت رِكائبُه ، وحيثُ استقلَّت مضاربه ، لا يتردد في ذلك ولا يتخير ، ولا
يتمَنَّعُ ولا يضجر ، وإنما يَذِّلُ ويخضع ، ويطيع ويسمع .
الوقفة السادسة :
يا من تتقلب في مواسمُ الخيرات والرحمات ، يا من يرى قوافلَ الحجاج والمعتمرين
والعابدين ؟ يا من تجرد من لباسه ورفع أكف الرغبة إلى مولاه وسالت بالدموع
عيناه ؟ يا من سمع صوت الملبين المكبرين المهللين ؟ احذر أن تمر عليك خيرُ أيام
الدنيا على الإطلاق وأنت في الهوى قد شُدَّ عليك الوَثاق ؟ يا من راح في
المعاصي وغدا ، يقول : سأتوب اليوم أو غدًا ، يا من أصبح قلبه في الهوى مُبددًا
، وأمسى بالجهل مُجنَّدًا وبالشهواتِ محبوسًا مقيدًا ، تذكر ليلةً تبيتُ في
القبر مفردًا ، وبادرِ بالمتاب ما دمت في زمن الإنظار ، واستدرك فائتًا قبل أن
لا تُقال العِثار وأقلع عن الذنوب والأوزار ، واعلم أن الله يبسط يده بالنهار
ليتوبَ مُسيء الليل ويبسط يده بالليل ليتوبَ مسيء النهار .
الوقفة السابعة:
وأنت أنت يا من تقلبتَ في أنواع العبادة ، الزم طريقَ الاستقامة ، وداوم العمل
فلستَ بدار إقامة واحذر الإِدْلاَءَ والرياء فربّ عملٍ صغير تعظمه النية ، ورب
عمل كبير تصغره النية ، يقول بعض السلف : من سره أن يَكْمُلَ له عمله فليُحسن
نيته ، وكن على خوف ووجل من عدمِ قبول العمل ، فعن عائشة رضي الله عنها زوجُ
النبي قالت: سألت رسول الله عن هذه الآية { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ
وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } فقلت : أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون ؟ فقال " لا
يا بنت الصديق ، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا تُقبل
منهم { أُوْلَـئِكَ يُسَـارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَهُمْ لَهَا سَـابِقُونَ }
" [ أخرجه الترمذي ] .
وأخيرا :
يا من قصدت البيت الحرام ، ليكن حجك أولَ فتوحك ، وتباشيرَ فجرك ، وإشراقَ صبحك
، وبدايةَ مولدك ، وعنوانَ صدق إرادتك ، تقبل الله حجك وسعيك ، وأعاد الله
علينا وعليك هذه الأيام المباركة أعوامًا عديدة ، وأزمنة مديدة ، والأمة
الإسلامية في عزة وكرامة ، ونصر وتمكين ، ورفعة وسؤدد ، اللهم تقبل من الحجاج
حجهم ، اللهم تقبل من الحجاج حجهم وسعيهم ، اللهم اجعل حجهم مبرورًا ، وسعيهم
مشكورًا ، وذنبهم مغفورًا ، اللهم تقبل مساعيهم وزكها ، وارفع درجاتهم وأعلها ،
وبلّغهم من الآمال منتهاها ، ومن الخيرات أقصاها اللهم اجعل مجيئِهم إلى هذه
الأرض سعيدًا ، وعودتهم إلى بلادهم حميدًا ، اللهم هون عليهم الأسفار ، وأمنهم
من جميع الأخطار ، اللهم احفظهم من كل ما يؤذيهم ، وأبعد عنهم كل ما يضنيهم ،
اللهم واجعل دربهم درب السلامة والأمان ، والراحة والاطمئنان ، اللهم وأعدهم
إلى أوطانهم وأهليهم وذويهم ومحبيهم سالمين غانمين برحتمك يا أرحم الراحمين ...
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين