|
إن واقعنا اليوم ، لهو واقعٌ موحش ، تتلاطمُ فيه ظلماتُ الفتن ، كتلاطُمِ موجِ
بحرٍ لُجِّي ، يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ، ظلماتٌ بعضها فوق بعض ،
وإن غواسقَ هذه الفتن قد أحاطت بنا من كلِ جانب ، وأخذت بأفئدتنا كلَّ مأخذ ،
بل وتخطفتْنا على غِرةٍ ، كما تتخطفُ الزوابع نِثار الأرض ، إنها لفتنٌ عمياء ،
صماءٌ بكماء تدع الحليمَ حيرانا ، واللبيبَ مذهولا ، ذلكم الحليم الذي رُزق
خصلةً يحبها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، الحليم الذي إذا شُتم صبر ، وإذا
ضُرب غفر ، إنه ليُرى إبانَ هذه الفتن ، حيرانا من هولِ الوقع وعِظمِ الخطب ،
وصدق المعصوم صلى الله عليه وسلم يوم قال " يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم
يتبع به شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن " [ رواه البخاري ] وفي
مدلهمات هذه الفتن ، ولجج هذه الأحداث التي تمر بالعالم الإسلامي أهدي هذه
الوقفات سائلا ذي الطول والإنعام أن يرفع بها الدرجات وأن يحط بها السيئات :
الوقفة الأولى :
لقد خلق الله عباده على الفطرةِ السويةِ السليمة ، وبعثَ الرسلَ لتقريرها
وتكميلها ، والناشئةِ في بكورِ حياتِها ديوانٌ مفتوحٌ وسِجِلٌ ناصع ، تتلقى ما
يردُ عليها من حقٍّ أو باطل ، أرض تُنبتُ أيَّ غرات من صحيحِ العقائدِ وفاسدِها
، ومن مكارمِ الأخلاقِ ومساوئِها " كلُ مولودٍ لولد على الفطرة فأبواه
يُهوِّدانه أو ينصرانه أو يمجِّسانه "
الوقفة الثانية :
عقولُ الشباب هدفٌ لأعداءِ المسلمين الذين تنوَّعت وسائِلُهم ليوقِعوا الشباب
في شرَكِهم ، وليزُجُّوا بهم في وحلِ الفتن تارة ، ويُلقوا عليهم الشُبُهاتِ
تارة أخرى ، ليُردُوهم ويوردوهم مسْتنقعَ الهوى والشهوات ويغرقوهم في الملهياتِ
والمحرمات ، ولا أنفعَ للشبابِ بإذن الله من التحصُّنِ إلا بعلم الشريعة
ليزيدوا الإيمانَ وينيروا البصيرةَ ويهذبوا النفس ، ويرفعوا عن دنيءِ الأفعال .
الوقفة الثالثة :
إن من تعظيمِ الشريعة والدينِ تعظيمُ العلماء ، فهم خلفُ أنبياءِ الله في
دعوتهم ، قال عليه الصلاة والسلام " وإن العلماءَ ورثةُ الأنبياء " [رواه أحمد]
فحقٌّ علينا تبجيلهم وتوقيرهم ، وعلى هذا سار أسلاف هذا الدين يقول الربيع بنُ
سليمان : ما اجترأت أن أشربَ الماءَ والشافعي ينظر إليَّ هيبةً له ، فسؤالهم
علم ومجالستُهم سعادة ومخالطتُهم تقويمٌ للسلوك وملازمتهم حفظٌ للشباب بإذن
الله من الزلل ، يقول ميمونُ بنُ مهران : وجدتُ صلاحَ قلبي في مجالسة العلماء
وثمرة مجالسةِ العلماء ليست بالتزوُدِ من العلوم والمعارف فحسب ، بل بالاقتداءِ
بهم في الهدي والسمت وعلوِّ الهمة ونفعَ الآخرين .
الوقفة الرابعة :
الإسلامُ الحنيفُ جاء بالتزامِ النورين الكتابِ والسنة ، ونهى عن ضدِّهما مما
يورثُ القلب الفساد والشبهةُ إذا وردت على القلب ثقُل استئْصالها ، يقول شيخ
الإسلام بن تيمية رحمه الله " وإذا تعرض العبد بنفسه إلى البلاء وكله الله إلى
نفسه " اهـ والتقصيرُ في أداء الوجبات والوقوعِ في المحرمات وتشبُثُ الناس
بالفضائيات ولهثهم وراء المنكرات بوابةُ فسادٍ للأخلاقِ ودنَسِ السلوك ومرتعٍ
للأفكار المنحرفة ، والقلب إذا أظلم بكثرة المعاصي ثَقُلَ عليه أداء المعروف
وسَهُل عليه قبولُ المنكر .
الوقفة الخامسة :
الإعلام نافذةٌ واسعة على المجتمع ، والشباب بحاجةٍ إلى نصيبٍ وافر منه في
التوجيه والإرشاد وفي النصح والفتوى ، والتعرضُ للدين المتين باللمز أو لأهله
بالسخريةِ والغمز يوغر الصدورَ ويؤجج المكامن ، والثناء على الناس واحتواءُهم
وتوجيهُهم طريقٌ قويم يُسلك حمايةً للشباب ، لألاَّ يتلقَّفَهم الأعداء بحلاوة
اللسان وحسنِ البيان الوقفة السادسة : القرآن العظيمُ كلام رب العالمين بتلاوته
تتنزل السكينة ، وبتدبُره يزيدُ الإيمان ، نورٌ يُبدِّدُ الظلمات " قد جاءكم من
الله نور وكتاب مبين " وانتشارُ حلقاتِ القرآنِ الكريم في بيوتِ الله صون
للناشئةِ عن الانحراف ، حفظَ الله بها الدين ، وانتفع بها خلق كثير ؟ كم أسدت
للناس من معروف ؟ وكم أَوْصَدت من أبوابِ الشرور ؟ وكم وسَّعت من مدارك ؟ وكم
فتحت من آفاق ؟ وتوجيهُ الأباء أبناءهم لحفظِ كتاب الله حفظ لهم من الشرورِ
والفتن ، وحصنٌ من توغُّلِ الأفكار المنحرفة إلى عقولهم ، والفراغ عاملٌ من
عوامل الانحراف الفكري والسلوكي والأخلاقي .
الوقفة السابعة:
الملهياتِ الحضاريةِ المحذورة والمحطات الفضائيةِ الممقوتة لها خُفٌ مُظلمٌ في
انحرافِ الأفكار وتلويثِ المعتقدات وتسميمِ العقول من المتربصين بالشباب ،
والأبُ الحاذقُ من يمنعُ دخولَ تلك المحطات والملهياتِ إلى داره قبل أن تذرفَ
منه دمعةُ الحزنِ والأسى ، وقبل أن يُفجع بخبر فاجع .
الوقفة الثامنة :
الفجوةُ بين الوالدِ والولد عاملٌ من عواملِ حجب الابنِ عن إظهارِ مكنونِ صدره
لوالده ، فيبوحُ بما في سريرته إلى غيرِ والده ممن لا يُحسنُ التربيةَ والتوجيه
ولا يحملُ لهم المودةَ والشفقة ، وقربُ الأبِ من أبنائه والتبسُّطُ معهم
بالحديثِ ومبادلةُ الرأي من غيرِ إخلال باحترامِ الوالدين سلامةٌ للأبناء
وطُمأنينةٌُ للأباء وقاعدةٌ في تأسيسِ برِّ الوالدين .
الوقفة التاسعة :
الجليسُ سببٌ في الإصلاحِ أو الإفساد ، ورُسُل الله عليهم الصلاةُ والسلام
عظموا شأنه ، فنبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام يقولُ " من أنصاري إلى الله "
ونبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم اتخذ له صاحبا مُعينا يُعينه على طريقِ الدعوة
،يقول عليه الصلاة والسلام " لو كنتُ متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا
ولكن أخي وصاحبي " وعائشةَ رضي الله تعالى عنها تقول " لم أعقل إلا وأبوَيَّ
يَدينان الدين وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتينا وهو بمكة أولَّ النهار
وآخره ، والجليسُ الصالحُ يهديك للخير ، يذكرك إذا نسيت ، ويحُثُّك إذا غفلت
يُظهر وُدَّك إذا حضرت ، ويحفظك إذا غبت ، ورفيقُ السوءِ يجري خلف ملذاته
وأهوائه ، وإذا انقضت حاجته منك نبذك ، من كلِ شرٍ يُدنيك ، وعن كلِ خير ينأى
بك على أمورِ الدنيا لا يُؤمن ، وفي الآخرة تندم على مصاحبته " ويوم يعَظُّ
الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتا ليتني لم أتخذ
فلانا خليلا * لقد أظلني عن الذكر بعد إذْ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا "
فجالِسْ الصالحين واشْرُف بصحبتهم ، وابتعد عن مصاحبةِ من يسؤكَ في دينك ودنياك
الوقفة العاشرة :
الأسرةُ مرتكَزٌ قويمٌ في الإسلام ، في ظلها تلتقي النفوسُ على المودة والرحمة
والعطف والمحبة ، وقد أقسم الله في كتابه بالأباء والأبناء فقال جل وعلا "
ووالدٍ وما ولد " والعنايةُ بهم مسلك الأخيار ، وباستقامتهم بهجةُ الأباء
والأمهات " ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما "
وأولُ لبِنةٍ في بناء الأبناء غرسُ مراقبةِ الله تعالى في نفوسهم ، يقول النبي
صلى الله عليه وسلم لابن عباس وهو غلام يا غلام : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله
تجده تُجاهك " والأبناء بحاجة ماسة للتربيةِ على المعرفةِ بالعلوم واغتنام
الأوقات ، يقول عليه الصلاة والسلام " احرص على ما ينفعُك " وعلى الوالدِ أن
يسعى لجلبِ ما ينفع أبناءه ، وإبعادِ ما يضرهم ، واختيارِ الرِفقة الصالحة لهم
، وإنّ حُسنَ تنشئتهم مرتبطٌ باستمساك والدَيهم بدينهم وكلَّما استقام
الوالدانِ اهتدى بهم الأبناء ، وكانوا بمنجاةٍ من عواملِ الضياع وأسبابِ الضلال
.