النقطة الثالثة : نماذج من حفظ العلماء
لأوقاتهم .
يحدِّث أبو حاتم عن نفسه وجهاده في طلب العلم فيقول : بقيت في البصرة ثمانيةَ
أشهر وكان في نفسي أن أقيم بها سنةً كاملة ، لكن انقطعت نفقتي فجعلت أبيع ثيابي
حتى نفدت وبقيت بلا نفقة ، ومضيتُ أطوف مع صديقٍ لي إلى المشْيخة ، وأسمع إلى
المساء ، فانصرف رفيقي فجعلت أطوف معه لسماع الحديث على جوع شديد ، وانصرفت
جائعا ، فلما كان من الغد ، غدا عليّ فقال : مُرّ بنا إلى المشايخ ، قلت أنا
ضعيف لا يمكنني ، قال ما ضعفك ؟ قلت : لا أكتمك أمري ، قد مضى يومان ما طعمت
فيهما شيئا ، قال : قد بقي معي دينار ، فنصفه لك ، ونجعل النصفَ الآخر في
الكِرى ، فخرجنا من البصرة ، فأخذت منه نصفَ الدينار " هكذا كان حرص العلماء
على أوقاتهم على الرغم من الشدة التي تقابلهم ، وهذا الإمام الذهبي يذكر نموذجا
آخر في كتابه تذكرة الحفاظ وفي سير أعلام النبلاء لابن أبي حاتم صاحب الجرح
والتعديل يقول : كنا في مصر سبعةَ أشهر لم نأكل فيها مرَقة ، كلُ نهارنا مقسَّم
لمجالسِ الشيوخ ، وبالليل النسخ والمقابلة ، قال : فأتينا يوما أنا ورفيق لي
شيخا ، فقالوا : هو عليل [ أي مريض ] فرأنا في طريقنا سمكة ، أعجبتنا
فاشتريناها ، فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس ، فلم يُمْكِّنا إصلاح هذه
السمكة ، ومضينا إلى السمكة ، ولم نزل حتى أتى على السمكةِ ثلاثةُ أيام ، وكاد
أن يتغير ، فأكلناه نَيْئا ، لم يكن لنا فراغ أن نشويها ، ثم قال : إن العلم لا
يُستطاع براحة الجسد ، وهذا عبد الغني المقدسي المتوفى في القرن السابع ، حكى
عنه الإمام الذهبي فقال " كان لا يضيع شيئا من أوقاته بلا فائدة ، فكان يصلي
الفجر ويُلقِّنُ القرآن وربما قرأ شيئا من الحديث تلقينا ثم يقوم فيتوضأ فيصلي
ثلاثَمائةِ ركعةٍ بالفاتحةِ والمعوذتين ، إلى قبل الظهر ، فينام نومة ويصلي
الظهر ، ويشتغل إما بالتسميع أو بالنسخ إلى المغرب ، فإن كان صائما أفطر ، وإلا
صلى من المغرب إلى العشاء ، ثم يصلي العشاء وينام إلى نصفِ الليل أو بعده ، ثم
قام كأن إنسانا يوقظه ، فيصلي لحظة ثم يتوضأ ويصلي إلى قرب الفجر ، وربما توضأ
سبعَ مراتٍ أو ثماناً مرات في الليل ، وقال " ما تطيب ليَ الصلاة إلا مادمت
أعضائي رطبة ، ثم ينام نومة يسيرة إلى الفجر وهذا دأَبه " وحفظُ الأوقات أيها
الأخوة والأخوات ليس قصرا على الرجال وحدهم ، بل كانت هناك نماذج من النساء
حافظات لأوقاتهن ، وفي مقدمةِ هذه النساء أمِ المؤمنين عائشة رضي الله تعالى
عنها ، الذي كانت محّلُ استشهاد الصحابة ، وحينما يُشكل عليهم أمرا من أمور
الدين في الفقه أو الفرائض أو الشعر أو غيرها تكون هي مرجعُهم ، ويقال : لو
وُزن علمها بعلم النساء مجتمعة لوزَنَ علم عائشة علمَ النساءِ كلَهن ، بل لم
تحصل عائشة هذه المزية من هذا العلم والتي أصبحت من رواة الحديث المشهورين إلا
بحرصها وحفظها على وقتها ، وهذه أيضا عمْرة بنت عبد الرحمن بن سعد بنُ زرارة
الأنصارية قال عنها بن سعد في الطبقات : إنها كانت عالمة ، وربيبةُ رسول الله
صلى الله عليه وسلم زينب بنتُ أبي سلمة بنت أمِ سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها
يقال : إنها كانت أفقه امرأة بالمدينةِ في وقتها ، وأمُ الدرداء رضي الله عنها
كانت من العالمات ومن الحافظاتِ لأوقاتها ، ولذلك كانت تحرص على حِلَق العلم
والدروس مع أبي الدرداء زوجها ، ومن النساء أيضا جليلة بنتُ علي بنُ الحسن بنُ
الحسين يقول عنها العلماء كانت محدثةٌ قارئة للقرآن ، وطلبت الحديث بالعراق
وخُراسان ، وكتب عنها السمعاني : وكانت تعلم الصبيان القرآن الكريم ، وخيرة أمُ
الحسن البصري وهي مولاة أمِ سلمة نموذج آخر من نماذج النساء الحافظاتُ لأوقاتهن
الذي أنتج هذا الحفظ علما غزيرا وفقها كثيرا وعبادة جليلة ، وكانت خيِّرة تقُص
على النساء وتعلمهن أمورَ دينَهن ، بل يصل الأمر أيها الأخوة بحفظِ الوقت لدى
النساء في بعضهن ، أن أصبح منهن امرأة تُعتبر من شيوخ الإمام الشافعي رحمه الله
تعالى ، ومن هو الشافعي مع علمه وقوة حفظه وغزارة حديثه والذي من شيوخه امرأة
تُدعى نفيسة بنتُ الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، بل
إن العجب كل العجب حينما تعلمون أنها كانت أمية ومع ذلك كانت تحفظ القرآن
الكريم والكثير الكثير من الحديث النبوي الشريف الأمر الذي جعلها واحدةً من
مشايخ الإمام الشافعي ، قال عنها بن كثير : كانت عابدة زاهدةً كثيرةَ الخير ،
وكانت ذاتُ مال فأحسنت إلى الناس وأنفقت على الزمنى والمرضى وعمومِ الناس ،
وكانت من النساء أيضا على وقت النبي صلى الله عليه وسلم ما كانت مثالا في حفظ
الوقت ، وتغزوا معه إذا غزا هي نسيِبة بنتُ كعبٍ الأنصارية رضي الله عنها وهي
مرأة مجاهدة عالمة ، وقد كان جماعة من الصحابة وعلماء من كبار التابعين في
البصرة يأخذون عنها غسل الميت كما ساق ذلك بن حجر في تهذيب التهذيب وكانت في
المغازي تمرضُ المرضى وتداوي الجرحى ، وشهدت غسل بنت النبي صلى الله عليه وسلم
، ولو سرتم معي قليلا إلى القرن السادس الهجري نجد عالمة من العالمات هي نعمة
بنتُ علي بنت يحي الفرّاح المتوفاة سنة 604 وهي شيخةٌ من أهل دمشق ، وكانت من
أهل الحديث ، روته وأُخذ عنها ، سمعت من أبيها وأختٍ له اسمها عزيزة وابنة
لأخيها كتابَ الكفاية في معرفة الرواية للخطيب البغدادي ، على جدها يحي سنةَ
خمسمائةٍ وثلاثين ، وكان مولدها سنة خمسمائةَ وثمانيةَ عشر وسمعت عام خمسمائة
وثلاثين ، فكان عمرها قرابةَ اثنتي عشرةَ عاما ، وهذا دليل على شغفها بالعلم
وحرصها على الوقت منذ طفولتها ، وأردت من هذه الأمثلة أن أبين أن حفظ الوقت ليس
قصرا على الصحابيات فحسب ، وإنما هي في قرون متأخرة إلى وقتنا هذا والحمد الله
، وعودا على بدء في عصر الرسالة والنبوة ، فهذه حواء بنتُ يزيد بن سِنان
الأنصارية والذي كان خالها الصحابي الجليل سعدُ بن معاذ وزوجها هو قيس بن
الحطيم ، وأردت من هذا النموذج أن أوضح أن المرأة تستطيع أن تستثمر وقتها مهما
كان مجهوداتها وشغلها والضغوط عليها ، وقد أُخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن
إسلام هذه المرأة ليلة العقبة ، وكانت تكتم إسلامها عن زوجها لأنه كان يصدها عن
دينها ، بل كان يعبث بها ويأتيها أحيانا وهي ساجدة فيقلبها على رأسها ، وربما
كان يأخذ ثيابها ويضعها على رأسها وهي تصلي وهو يقول : إنكِ لتعتقدين دينا لا
يُدرى ما هو ، ومع ذلك كانت هذه المرأة مصرة ببقائها على دينها حتى كانت
العاقبة لها ، فحينما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم خبرها وخبرَ زوجها ، عرض
عليها النبي صلى الله عليه وسلم حين قدومه مكة مع جمع من قومه من الأنصار كانوا
يطلبون حلفا من قريش ، فقال هذا الرجل أنظرني حتى أقدُم المدينة ، فطلب منه
النبي صلى الله عليه وسلم أن يجتنب إيذاء زوجته حواء ، وأوصاه بها خيرا وقال
إنها قد أسلمت ، ففعل قيس ، ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم أنه تخلا عن
إيذائها قال " وفى لنا قيس " وهذه أسماء بنتِ عمير وهي من الصابرات الصائمات
العالمات ، صحابية جليلة عظيمةَ القدر ، أسلمت قبل دخول النبي صلى الله عليه
وسلم دار الأرقم ، ثم هاجرت مع زوجها جعفر إلى الحبشة وولدت بعض أولادِه هناك ،
فلما قُتل زوجها جعفر رضي الله عنه زوجها النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر
الصديق فولدت له محمد ثم تزوجها علي بن أبي طالب ، وكان من صبرها لما بلغها
مقتل محمد بن أبي بكر في مصر قامت إلى مسجد بيتها وقيل إنها كظمت غيظها ، حتى
شخَبَ ثدياها دما ، وهذا دليل على صبرها وتحملها المصائب رضي الله عنها . [ هذه
بعض النماذج من هذه النساء المحافظات على أوقاتهن الداعيات إلى الله تعالى ،
وحقيقة تركت الكثير والكثير من هذه القصص مخافة الإطالة في هذه النقطة ]