|
لقد أمر الله عز وجل عباده المؤمنين بالثبات على هذا الدين القويم ، والاستقامة
عليه حتى الممات ، وكان على رأس الخلق إمام الموحدين ، وقائد الغر المحجلين سيد
المرسلين المعصوم صلى الله عليه وسلم حيث قال الله له " فاستقم كما أمرت ومن تاب
معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير " [ هود :112 ] وقال أيضا
" فلذلك فادع واستقم كما أمرت ومن تاب معك
" [ الشورى :15] كيف لا ؟ وقد جعل الله
لمن آمن بدينه حقا ، واستقام على طريقه صدقا ، الفضائل العظيمة ، والمنازل
الرفيعة ، والدرجات العلا في يوم تزل فيه الأقدام ، وتخف فيه الموازين ، ولا شك
أن الاستقامة من أعظم المسؤوليات ، وأوجب الواجبات ، التي كلفنا الله عز وجل بها
، وأن على المرء أن يبذل جهده ويسأل ربه العفو والغفران إذا ما قصّر أو أخل في
حياته بشيء منها ، قال الله عز وجل على لسان رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم
" قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما
إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه "
[ فصلت :6 ] وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن الناس لن يعطوا الاستقامة حقها فقال
" استقيموا ولن تحصوا ، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ، ولن يحافظ على الوضوء
إلا مؤمن " [ رواه ابن ماجة ،ح277 ] وقد تنوعت أقوال سلف هذه الأمة في تعريفها ،
وما المراد منها ؟ فها هو أعظم الخلق استقامة بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
، أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول عنها : الاستقامة أن لا تشرك بالله شيئا ،
ويقول الفاروق أمير المؤمنين أبو حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، الاستقامة أن
تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعلب ، ويقول ترجمان القرآن وحبر هذه
الأمة ابن عباس رضي الله عنهما : استقاموا أي أدوا الفرائض ، وحقيقة الاستقامة :
السداد في جميع الأقوال والأعمال والمقاصد والحق أخي المستقيم : أن الاستقامة
تعني التمسك بهذا الدين كله ، صغيره وكبيره ، قليله وكثيره ، جليه وخفيه والثبات
عليه حتى الممات ، ورحم الله شيخ الإسلام بن تيمية يوم قال " أعظم الكرامة لزوم
الاستقامة " [ تهذيب المدارج ص529 ] نعم .. الاستقامة طريق إلى الجنة ونعيمها ،
والفوز بالنجاة من النار وجيحيمها .. الاستقامة تعني طاعة الكريم الرحمن ،
ومتابعة أشرف الرسل من ولد عدنان .. الاستقامة طريق إلى محبة الله والانقياد له
وعبوديته وحب التلذذ بذكره .. الاستقامة ثبات على الدين ، ولزوم لصراط الله
المستقيم .. ومما يعينك أخي المسلم على سلوك سبيلها ونيلها والتشرف بأن تكون من
أهلها ما يلي :
* الإخلاص لله تعالى .
فإن من أعظم الأصول المهمة في دين الله
تعالى ، تحقيق الإخلاص لله تعالى ، إذ إنه حقيقة الدين ، ومفتاح دعوة الرسل عليهم
الصلاة والسلام " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين " [ البينة:5 ] وهو
مما ينبغي للعبد المجاهدة فيه حتى يُرزق تمامه ، سئل سهل بن عبد الله التستري
رحمه الله تعالى ، أي شيء أشد على النفس ؟ قال : الإخلاص ، لأنه ليس لها فيه نصيب
.
* متابعة المعصوم صلى الله عليه وسلم .
قولا وفعلا في كل ما يأتي الإنسان ويذر في
حياته ، فلا يكمن حب المسلم لرسوله صلى الله عليه وسلم إلا بمتابعته عليه الصلاة
والسلام " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم " [ آل عمران:31
] ولا شك أن اتباع هدي المعصوم صلى الله عليه وسلم واقتفاء أثره في الأقوال
والأعمال والأحوال عظيم ، وطريق جليل لنيل الاستقامة والثبات عليها ، وحق لمن
فارق السنة أن يفارق الدليل ، ومن فارق الدليل ضل عن سواء السبيل .
* فعل الطاعات واجتناب المحرمات .
فإن مما يعين العبد المسلم إلى الوصول إلى
الاستقامة وتحقيقها محافظته على الطاعات فرائض كانت أو نوافل ، وهي مما أهمّ
الوسائل التي تجلب للعبد محبة سيده ومولاه " ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل
حتى أحبه " [ رواه البخاري ح6137 ] فإذا أحب الله عبدا أعانه وسدده ووفقه
للاستقامة على دينه ، كما أن اجتناب المعاصي والذنوب صغيرها وكبيرها جليِّها
وخفيِّها له الأثر الكبير في تحقيق معنى الاستقامة ، إذْ يقول النبي الكريم صلى
الله عليه وسلم " لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى
يستقيم لسانه "[رواه أحمد ح13071 ]
* العلم .
وأفضله بلا شك : علم الوحيين الكتاب
والسنة ، الذي هو أفضل القربات إلى الباري جلّ وعلا ، وهو تركة الأنبياء وتراثهم
، وبه تحيا القلوب ، وتُعرف الشرائع والأحكام ، ويتميز الحلال والحرام ، وهو
الدليل على السراء والضراء ، والسلاح على الأعداء ، وهو الصاحب في الغربة ،
والحديث في الخلوة ، والأنيس في الوحشة ، وبه يعرف العبد ربه ، ويوحده ولا يعبد
غيره ويأنس به ولا يلتجأ إلى سواه ، ورحم الله عمرو بن عثمان المكي يوم قال "
العلم قائد ، والخوف سائق ، والنفس حرون بين ذلك جنوح خداعة ، رواغة ، فاحذرها
وراعها بسياسة العلم ، وسقها بتهديد الخوف يتمّ لك ما تريد " [تهذيب مدارج
الساكين ص484 ]
* مصاحبة الصالحين .
إن اختيار الصاحب مرحلة خطيرة تشبه مرحلة
اختيار الزوجة من حيث إنها تشكل منعطفا في حياة المرء له ما بعده ، ورحم الله وهب
بن منبه يوم قال " استكثر من الإخوان ما استطعت ، فإن استغنيت عنهم لم يضروك ،
وإن احتجت إليهم نفعوك " [ السير 4/550 ] ويأتي في مقدمة هؤلاء : الصالحون
الأخيار الذين هم الساعد الأيمن بعد توفيق الله في سلوك العبد طريق الاستقامة ،
والثبات عليها ، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم يوم قال " المرء على دين خليله
فلينظر أحدكم من يخالل " [ رواه أبو داود ح4833 ] .
* الدعاء .
وهو السلاح الخفي للمؤمن ، وحقيقته :
إظهار العبد افتقاره إلى سيده ومولاه ، وهو سمة من سمات المحسنين المستقيمين "
وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت على الله قريب من المحسنين "[الأعراف :56] وليس شيء
أكرم على الله من الدعاء ، فهو من أجلّ وأهمّ الأسباب الجالبة للاستقامة بإذن
الله تعالى ، كيف لا ؟ والعبد يقرأ في كل ركعة من صلاته " اهدنا الصراط المستقيم
" ورحم الله إمام أهل البصرة الحسن البصري ، كان إذا قرأ هذه الآية ( فاستقم كما
أمرت ) كان يقول : اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة [الجامع لأحكام القرآن
ج15ص358 ] .