أنبياء الله جل وعلا هم أصدق الناس طوية ، تجردوا عن حظوظ أنفسهم وعاشوا من أجل
بلاغ دينهم فكانت الآخرة همهم ، فهذا نوح عليه السلام يمكث في دعوة قومه قرابة
الألف عام ، وهو يدعوهم إلى طاعة الله وعبادته ، وليس له من هم إلا ذاك " قال
رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً" " ثم إني دعوتهم جهاراً ثم إني أعلنت لهم
وأسررت لهم إسراراً" وهكذا نبينا عليه الصلاة والسلام فقد عاش يحمل هم أمته
عليه الصلاة والسلام ، ولذلك عاتبه ربه على ما يجده من هم وحزن في قلبه لعدم
إيمان الكفار بدعوته قال الله " لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين " وقال "
فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً " وقال " ولا تحزن
عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون" وقال " قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم
لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون" وقال " ولا تحزن عليهم ولا تكن في
ضيق مما يمكرون" وقال " فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون"
كيف لا ؟ وقد وصفه الله عز وجل بقوله " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما
عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم " ولو تأملت حق التأمل في سيرته وحياته
صلى الله عليه وسلم لرأيت هم الدعوة وهو من هموم الآخرة جلياً واضحاً ، ومن ذلك
أنه لما ذهب إلى الطائف يدعوا أهلها إلى الإسلام كذبوه وأغروا به السفهاء
فضربوه وأدموه ، حتى أنه عليه الصلاة والسلام شغله هم الدعوة عن جراحه التي وقع
فيها ، وسنعرج على القصة بتمامها بعد قليل إن شاء الله تعالى ، وقد ورث هموم
الآخرة الصالحون من أمته صلى الله عليه وسلم، ويظهر ذلك في أمانيهم وأحلامهم
وتتبع أحوالهم، ومن ذلك، فهاهو عمر رضي الله عنه يقول لأصحابه يوماً " تمنوا ،
فقال رجل منهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهباً أنفقه في سبيل الله عز وجل
، فقال: تمنوا ، فقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجوهراً أنفقه
في سبيل الله عز وجل وأتصدق به،ثم قال: تمنوا، قالوا: ما ندري ما نقول يا أمير
المؤمنين. قال عمر: لكني أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن
الجراح" [صفوة الصفوة1/367] وعندما يحلمون فإنما يحلمون بهموم الدين ، لذا
تتوافق أحلامهم ، ومن ذلك ما رواه أبو داود بإسناده إلى بعض الأنصار قال: اهتم
النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها فقيل له: انصب راية عند
حضور الصلاة، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضاً فلم يعجبه ذلك، قال: فذكر له القنع
يعني الشبور، وقال زياد شبور اليهود فلم يعجبه ذلك، وقال: هو من أمر اليهود،
قال: فذكر له الناقوس فقال: هو من أمر النصارى، فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد
ربه وهو مهتم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأري الأذان في منامه، قال:
فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال له: يا رسول الله إني لبين
نائم ويقظان إذ أتاني آت، فأراني الأذان، قال وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يوماً، قال: ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال
له " ما منعك أن تخبرني؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت" [أبو داود
ح498] وقال عمر رضي الله عنه" إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة " [رواه البخاري
في باب يفكر الرجل الشيء في الصلاة] وهم الإسلام والآخرة في صدورهم حتى الرمق
الأخير من حياتهم، ولما كان يوم أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" من
يأتيني بخبر سعد بن الربيع الأنصاري " فقال رجل: أنا يا رسول الله فذهب الرجل
يطوف بين القتلى فقال له سعد بن الربيع: ما شأنك فقال له الرجل: بعثني إليك
رسول الله صلى الله عليه وسلم لآتيه بخبرك قال "فاذهب إليه فاقرأه مني السلام،
وأخبره أني قد طعنت اثنتي عشرة طعنة وأني قد أنفذت مقاتلي ، وأخبر قومك أنه لا
عذر لهم عند الله إن قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وواحد منهم حي" [الموطأ
1013] وهذا عمر بن عبد العزيز لما مرض جيء له بطبيب فقال: به داء ليس له دواء،
غلب الخوف على قلبه [ سير أعلام النبلاء 5/137] ويقول ابن مهدي عن سفيان
الثوري: كنت أرمق سفيان في الليلة بعد الليلة ، ينهض مرعوباً ينادي : النار
النار ، شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات ، ولما حضرته الوفاة ذهبوا ببوله
إلى الطبيب فقال : هذا بول راهب ، هذا رجل قد فتت الحزن كبده ، ما له دواء [سير
أعلام النبلاء 7/270، 274] وهذا الإمام البخاري أرقه العلم وتدوينه فحرمه لذة
الرقاد ، قال محمد الوراق: كنت أراه يقوم في ليلة واحدة خمس عشرة مرة إلى عشرين
مرة، في كل ذلك يأخذ القداحة فيوري ناراً ويسرج، ثم يخرج أحاديث، فيعلِّم
عليها. [سير أعلام النبلاء 12/404]