رابعا :
الثبات على المبدأ .
إن الله تعالى خلقَ الخلق ليعرفوه ويعبُدُوهُ ، ونصبَ لهم الأدلةَ الدالةَ على
كبريائهِ وعظمته ليهابُوه ، وقد اقتضت حكمتُه سبحانه وتعالى أن جعلَ الابتلاءَ
سنةً من سننِ اللهِ الكونيةِ ، وأن المرءَ بحاجةٍ إلى تمحيصٍ ومراجعةٍ حتى
يتميَّزَ الخبيثُ من الطيبِ ، والمؤمنُ من غيره ؛ فالسعيدُ من اعتصم بالله ،
وأناب ورجعَ إلى الله ، والمؤمنُ الصادقُ ثابتٌ في السراءِ والضراءِ " الم *
أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ
* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ
الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ " " أَمْ حَسِبْتُمْ أَن
تَدْخُلُوا الْـجَنَّةَ وَلَـمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن
قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى
يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ
نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ "
إن هجرةَ النبيِ صلى الله عليه وسلمَ إلى المدينةِ كشفتْ لنا معالمَ في الشدةِ
والرخاءِ ، والعسرِ واليسر ، وأبانت لنا عن معادنِ النفوسِ ، وطبائعِ القلوب ؛
ومن عَلِمَ حكمةَ الله في تصريفِ الأمور ، وجريانِ الأقدارِ فلن يجدَ اليأسُ
إلى قلبه سبيلاً ، ومهما أظلمتِ المسالكُ وتتابعتِ الخطوبُ وتكاثرتِ النكباتُ ؛
فلن يزدادَ إلا ثباتاً ؛ فالإنسانُ إلى ربه راجع ، والمؤمنُ بإيمانه مستمسكٌ
وبأقدار الله مسلِّم ، وإن من معالمِ هذه الهجرةِ النبويةِ المباركة : الثباتُ
على المبدأ ، الثباتُ على الدينِ والاستقامةُ عليه ، ذلك أن الثباتَ على دينِ
اللهِ والاعتصامَ به يدلُ دلالةً قاطعةً على سلامةِ الإيمانِ ، وحسنِ الإسلامِ
وصحةِ اليقين .
إن الثباتَ على دينِ الله خُلُقٌ عظيمٌ ، ومعنى جميل ، له في نفسِ الإنسانِ
الثابتِ وفيمن حولَه من الناسِ مؤثراتٌ مهمةٌ تفعل فِعْلَها ، وتؤثرُ أَثَرَهَا
، وفيه جوانبُ من الأهميةِ الفائقةِ في تربيةِ الفردِ والمجتمع .
إن صفةَ الثباتِ على الإسلامِ والاستمرارِ على منهجِ الحق نعمةٌ عظيمةٌ حبا
الله بها أولياءَه وصفوةَ خلقه ، وامتنَّ عليهم بها ، فقال مخاطباً عبدَه
ورسولَه محمداً صلى الله عليه وسلم " وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ
تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً "
إن الثباتَ على دينِ الله دليلٌ على سلامةِ المنهجِ ، وداعيةٌ إلى الثقةِ به ،
وهو ضريبةُ النصرِ والتمكينِ والطريقِ الموصلةِ إلى المجدِ والرفعةِ ، ألم تروا
كيف ثبتَ صلى الله عليه وسلم في دعوتِه قبلَ الهجرة وبعدَها ؟ ألم تروا كيف
مُكِّن وأُعزَّ ونُصِرَ بسبب ثباته على مبدأه صلوات ربي وسلامه عليه ..؟
إن الثباتَ طريقٌ لتحقيقِ الأهدافِ العظيمةِ ، والغاياتِ النبيلةِ ؛ فالإنسانُ
الراغبُ في تعبيدِ الناسِ لربِ العالمين والعاملُ على رفعةِ دينه وإعلاءِ
رايتِه لا غِنَى له عن الثبات .
إن الثباتَ يعني الاستقامةَ على الهدى ، والتمسكَ بالتقى ، وقَسْرَ النفسِ على
سلوكِ طريقِ الحقِ والخير ، والبُعْدِ عن الذنوبِ والمعاصي وصوارفِ الهوى
والشيطان .
إنَّ مما يُعينُ على الثباتِ أمامَ الفتنِ والابتلاءاتِ صحةُ الإيمانِ وصلابةُ
الدينِ ؛ فكلَّمَا كانَ الإنسانُ قوياً في إيمانه ، صلْباً في دينه ، صادقاً مع
ربه ، كلما ازدادَ ثباتُه ، وقَوِيَتْ عزيمتُه وثبتَتْ حُجتُه ، وحَسْبُكَ أن
صاحبَ الهجرةِ محمداً صلى الله عليه وسلم كان يدعو ربه ويسألُه الثبات " اللهم
إني أسألك الثباتَ في الأمرِ، والعزيمةَ على الرشد"
إن الثباتَ على الدينِ مطلبٌ عظيمٌ ورئيسٌ لكلِ مسلمٍ صادقٍ يحبُ الله ورسولَه
صلى الله عليه وسلم ، ويريدُ سلوكَ طريقِ الحقِ والاستقامةِ بعزيمةٍ ورشد ،
والأمةُ الإسلاميةُ اليومَ أحوجُ ما تكونُ إلى الثباتِ خاصةً وهي تموجُ بأنواعِ
الفتنِ والمغريات وأصنافِ الشهوات والشبهات ، فضلاً عن تداعي الأممِ عليها ،
وطَمَعِ الأعداءِ فيها ومما لا شك فيه أن حاجةَ المسلمِ اليومَ لعواملِ الثباتِ
أعظمُ من حاجةِ أخيه المسلمِ إلى ذلك في القرونِ السالفة وذلك لكثرةِ الفسادِ
ونُدْرَةِ الإخوان ، وضَعْفِ المُعين ، وقِلةِ الناصح والناصر ، والله المستعان
.