الحمد لله ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ،وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد
:
فلا يخفى أن رمضان مدرسة إسلاميةٌ إيمانية تربويةٌ أخلاقية اجتماعية عالمية
، ينهل منها كل واردٍ بحسب ما يكون عنده من الهمة والنشاط والإقبال .
وقد تخرَّج في هذه المدرسة أجيالٌ وأجيال ، حيث إنه تهيئ الفرصة ( للجادين
) لينتقلوا بأنفسهم من الخطأ إلى الصواب ، ومن الضلال إلى الهدى ، ومن
الفشل إلى النجاح ، ومن الهزيمة إلى الفوز ، ومن كل نقص إلى كل كمال ، ليس
في مجال واحدٍ فحسب ، ولكن في مجالات عديدة دينية واجتماعية واقتصادية
وجهادية وغير ذلك .
وحسبك من هذه المدرسة ذلك الانتصار على دعوات (النفس الأمَّارة بالسوء) حيث
استطاع المسلم بصيامه لربه أن تنتصر إرادته انتصاراً يجد لذته ويحس بنشوته
في مغرب كل يوم : " للصائم فرحتان : فرحةٌ عند فطرة وفرحةٌ عند لقاء ربه "
.
إنها مدرسة ترتقي بالناس إلى كل فاضل ، كما قال تعالى ( يا أيها الذين
آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) قال
الحافظ ابن كثير رحمه الله : يخاطب الله تعالى عباده المؤمنين من هذه الأمة
، آمراً لهم بالصيام ، وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة
لله عز وجل ، لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة
والأخلاق الرذيلة .
وهذه المدرسة تشرع أبوابها للتسجيل في كل عام مرة ، ولمدة شهر كامل ، وهذه
الفرصة قد لا تتهيأ لكل أحد في مرةٍ قادمة ، ولذلك وجب استثمارها
والاستفادة منها .
وفي جانب مهم من جوانب التربية الرمضانية يجدر أن نتوقف عند أحوال الأطفال
والمراهقين والمراهقات ، وكيفية تعاملهم مع شهر رمضان ، ومما يؤكد أهمية
هذا التوقف والتأمل والمراجعة أنَّ هؤلاء الأطفال والمراهقين من الجنسين
سيكونون في مستقبل الأيام هم عماد المجتمع ، من رجال أو نساء . وبحسب ما
تكون عليه تربيتهم اليوم يكونون غداً .
وموضوع كهذا ذو شجونٍ وله أبعاده الواسعة ، لكني أتلبَّث عند مسألتين
مهمتين على سبيل الإجمال والاختصار :
الأولى : كيف ينظر أطفالنا إلى رمضان ؟!
الواقع أن الأطفال يتفاوتون في نظرتهم لرمضان وما يحمله من معان بحسب ما
ينالونه من ( التعبئة ) قبل رمضان وأثناءه وما كان عوده عليه أهلوهم .
فثمةَ من الأطفال من يعتبر رمضان موسم ( تسمين ) واكتناز ( خبرات ) في
أنواع المأكولات ، وخاصةً إذا شاهد أن جلب المواد الغذائية إلى البيت في
رمضان يفوق أي شهر آخر في أنواعها وكمياتها .
وبات رمضان عند أطفال آخرين ذا مدلول مرتبط بما يعرض عبر الشاشة من أفلام
الأطفال ( المدبلجة ) أو بأفلام ومسلسلات مخصوصة برمضان برغم ما فيها من
تبرج النساء ومشاهد الفسق والمجون .
وعند آخرين أنه تحول في مواعيد النوم ، ليكون الليل نهاراً والنهار ليلاً ،
تبعاً لما يعيشه أهل البيت ، وفي خضم ما يشهده المجتمع من تغيير أوقات
العمل والدراسة وغيرها .
وثمة أطفال ينظرون لرمضان على أنه فرصةٌ لتدريب النفس على المشاق واختبار
مدى صبرها،ليثبتوا في نهاية كل يوم أنهم يدرجون في مراقي الفتوة والقوة ،
ليصبحوا في مصافّ الرجال الذين يُعتمد عليهم ، وليقرروا أنهم على استعداد
لحمل أمانة التكاليف الشرعية بكل قوة . وقد نال هذا الصنف حظه وافراً من
صلاة التراويح ومن قراءة القرآن وإتمامه مرةً وأكثر.
والفرق بين هؤلاء وأولئك:هو ما قام في نفوس ذويهم من هم التربية
والتوجيه،أو التساهل بذلك.
وهذا الذي كان سلفنا الصالح يدركونه وكانوا تعظم عنايتهم به في تربية
أطفالهم ، ألا وهو التوجيه العملي والتدريب المتدرج ، وهذا ما أخبرت عنه
الرُّبَيِّعُ بنت معوِّذ رضي الله عنها من أنَّ الصحابة كانوا يصومون ـ
تعني عاشوراء ـ ويُصَوِّمون صبيانهم الصغار ، وأنهم كانوا يجعلون للأطفال
اللعبة من العِهْن ( الصوف ) فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطوه إياه عند
الإفطار . رواه البخاري ومسلم .
وكم نحن بحاجة إلى الالتفات للجوانب الوجدانية والتربوية نحو الصغار حتى
يسلكوا مسالك العز والفضيلة .
المسألة الثانية : غلطة الأمهات قبل البنات !!
في كل عام يتكرر سؤال شرعي يوجه إلى أصحاب الفضيلة العلماء وهذه فحواه :
تقول السائلة : إني عندما كنت صغيرة وبلغت سن التكليف وأتتني الدورة في
رمضان تظاهرت بالصيام حتى في تلك الأيام ، كما كنت متعودة في رمضان ، ولم
أقضِ ما أفطرته من أيام ، وتوالت السنين حتى بلغت الثلاثين أو الأربعين ولم
أقض ، فماذا يجب علي ؟.
إن هذا السؤال وأمثاله ليدل على التباعد الحاصل بين الفتيات وبين أمهاتهن ،
حيث تتردد الفتاة في مصارحة أمها في كثير من الأمور التي تعرض لها حياءً
وخجلاً ، ولهذا فإنَّ الفتيات وخصوصاً في فترة المراهقة ربما صرَّحن
بأسرارهن ومكنونات أنفسهن إلى صديقاتهن المراهقات مثلهن ، ممن يفتقدن
الحكمة والتجربة ، ولهذا ربما جاء تلك الاستشارة بالكوارث .
إن المطلوب من الأمِّ أن تكون بمنزلة الصديقة لبنتها : تحادثها وتلاطفها
وتروِّح عنها ، لتكون قريبةً من نفسها وخاصة في مرحلة المراهقة .
ومن تأمل في النصوص الشرعية فإنه يدرك أن الأنثى قد جُبِلَت على رِقَّة
المشاعر ورَهَف العواطف ، ولهذا فقد كان جاءت الشريعة حاضَّةً على أن يكون
التعامل مع المرأة في عدد من القضايا ملاحَظاً فيه هذه الجِبِلَّة التي
جُبِلَ عليها بنات آدم .
وعندما يجاوز الناس هذا الاعتبار فإنه يصيبهم من الشطط والخطل بقدر
مجاوزتهم لهذا الاعتبار الجليل . وهم اليوم على طرفي نقيض : فهناك الأنماط
الأسرية التي تجعل للفتاة كامل الحرية في الذهاب والإياب والغيبة عن البيت
متى شاءت ، وأين شاءت (!!) وهناك ما هو على النقيض وهو التشديد الشديد على
الفتاة في حديثها ولبسها وتحركاتها ، بما يكون معه حرمانها مما أحل الله
وأباحه ، فينشأ حينئذ هاجس البحث عن ملاذٍ آخر ومأوى بديل !!
والصواب ما بين ذلك ، وهو ما جاء به الهدي النبوي الكريم ، وخاصة في تعامله
عليه الصلاة والسلام مع بناته .
روى أبو داود والترمذي عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت : ما رأيت أحداً كان
أشبه سَـمْتاً وهدياً ودَلاً ، وحديثاً وكلاماً برسول الله من فاطمة رضي
الله عنها ، كانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذها بيدها وقبَّلها وأجلسها
في مجلسه ، وكان إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبلته وأجلسته في
مجلسها " .
إن هذا التعامل الراقي الذي يفيض رحمة ويتوهج عطفاً لتحتاج إليه الفتيات
اليوم أكثر من أي يوم مضى ، ليشعرن بقرب أهليهن منهن وحرصهن عليهن ، فبذلك
يسلمن من مسالك الخطأ ويتدرج في معارج الفضل والكرم والنُّبل .
وفق الله الجميع لما فيه الخير ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .