|
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وبعد :
فقد كتب أحد محرري جريدة الرياض ( العدد 13375ـ 25/12/1425هـ ـ ملحق الإرهاب )
تقريراً كان مطلعه محل النقد والاستنكار الشديد ، نستغربه على المحرر ، وعلى
الجريدة التي تصدر من قلب المملكة العربية السعودية ، حاملة لواء السنة وحامية
الشريعة ، لما في مطلع التقرير من الاتهام والتهجم على أفضل الخلق بعد أنبياء
الله ورسله عليهم الصلاة والسلام.
كان ذلك من المحرر حين اعتبر الخليفة الراشد أبا بكر الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه
ـ أول من أوجد ( أيديولوجيا التكفير ) وزعم المحرر أن حروب الردة هي أول واقعة
تاريخية عبرت عن ميلاد ( فكرة التكفير في الإسلام ) وأنها ( أول بيان رسمي يعلن
ميلاد أيديولوجيا التكفير ، ويقرن التعبير عن حكم التكفير بقتال الجهة التي
يشملها الحكم إياه ) .
ومما ساءني وساء كل مسلم ومسلمة أن محرر جريدة الرياض نظم الصِّدِّيق أبا بكر
رضي الله عنه في قائمة الغلو والإرهاب ، واعتبر جهاد أبي بكر والصحابة رضي الله
عنهم للمرتدين من جملة أعمال الإرهاب التي يحمل عليها التكفير . إلى غير ذلك
مما جاء في التقرير ، والذي يغلب على ظني أن المحرر قد استقى بعض معلوماته من
مصادر غير أمينه ، إذ يبعد أن يكون معتقداً لهذه الإساءات في حق الصِّدِّيق رضي
الله عنه .
ومهما يكن ، فإنَّ من الواجب على كل مسلم أن يستنكر هذه الإدعاءات ، وأن
يُنَزِّه الصِّدِّيق عنها ، عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من رأى
منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك
أضعف الإيمان " رواه مسلم في صحيحه .
وموقفنا من تلك الادعاءات التي جاءت في
التقرير أجمله في المسائل التالية :
الأولى :
أن أبا بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه بمنزلة عالية كريمة ، بما يعتبر معها كل من
نال منه أو رماه بسوء مسيئاً لنفسه ، وظالماً لها ، ومرتكساً في ضلال كبير وذنب
عظيم ، ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه مقدم الأمة ، وسابقهم في جميع الأوصاف
الحميدة فإنه ، كان صدِّيقاً تقياً كريماً جواداً ، بذَّالاً لأمواله في طاعة
مولاه ، وصاحب فضل على المسلمين ، بما جعل الله له من الأسبقية في الإيمان
ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد حاز الصِّدِّيق تزكية رب العباد في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه
ولا من خلفه ، وزكاه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ، فماذا بعد الحق إلا
الضلال .
قال الله تعالى : ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين
إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) الآية ( التوبة : 40 )
.
وقد ذكر المفسر الفخر الرازي رحمه الله أن هذه الآية تدل على فضيلة أبي بكر من
اثني عشر وجهاً ، ثم شرع في بيانها .
وقد أجمع المفسرون على أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه هو المراد في قول الله
تعالى : (وسيجنبها الأتقى . الذي يؤتي ماله يتزكى ) ( الليل : 17 و 18 ) .
وقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كنا في زمن النبي صلى الله
عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً ، ثم عمر ثم عثمان ... إلخ.
زاد الطبراني في رواية : فيسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فلا ينكره .
وثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه
الذي مات فيه عاصباً رأسه بخرقة ، فقعد على المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم
قال : " إنه ليس من الناس أحدٌ أَمَنَّ عليَّ في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي
قحافة ، ولو كنت متخذاً من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ولكن خُلَّة
الإسلام أفضل ، سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد ، غير خوخة أبي بكر " لفظ
البخاري .
وروى أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان من طريق ربعي بن خراش عن حذيفة قال :
كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوساً فقال : " إني لا أدري ما قدر بقائي
فيكم ، فاقتدوا باللذين من بعدي " وأشار إلى أبي بكر وعمر . الحديث .
وثبت في المسند وجامع الترمذي وسنن ابن ماجة عن علي رضي الله عنه قال : كنت عند
النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، فقال : " يا
عليّ ، هذان سيدا كهول أهل الجنة وشبابها بعد النبيين والمرسلين " .
وثبت في صحيح البخاري من حديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس قال : صعد
رسول الله أحداً ومعه أبو بكر وعمر وعثمان ، فرجف بهم الجبل ، فضربه رسول الله
برجله ، وقال : " اثبت ، فإنما عليك نبيٌّ وصدِّيق وشهيدان " .
وثبت في المسند أن علياً قام على المنبر ، فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال : قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستخلف أبو بكر فعمل بعمله ، وسار
بسيرته ، حتى قبضه الله على ذلك ، ثم استخلف عمر فعمل بعملهما ، وسار بسيرتهما
، حتى قبضه الله على ذلك ".
فهذا جانب من فضل الصِّدِّيق وثناء الله عليه ، وثناء رسوله ، وثناء خيار
المؤمنين ، أوردته تشريفاً لهذا المقال ، وما تركته مما يبين فضله أضعاف هذا ،
وهو معلوم لدى عامة أهل الإسلام ، فكيف تسمح نفس أي مسلم بعد هذا أن يأتي بمثل
ما جاءت الإشارة إليه مما قاله المحرر.
المسألة الثانية :
لقد كانت حروب الردة التي قادها ورفع لواءها الصِّدِّيق رضي الله عنه واحدةً من
نعم الله على الأمة المحمدية ، والتي حفظ الله بها دين الإسلام من الاضمحلال ،
ولذا كانت من أعظم محامد أبي بكر وأجل مناقبه .
وقد جاءت تزكية حروب الردة وتزكية من رفع لواءها وشارك فيها في قول الله تعالى
: ( ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم
ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) الآية . ( المائدة : 54 ) .
قال الإمام أبو جعفر الطبري : قال بعضهم : هو أبو بكر الصِّدِّيق وأصحابه الذين
قاتلوا أهل الردة ، حتى أدخلوهم من الباب الذي خرجوا منه . اختار ذلك علي
والحسن والضحاك وقتادة وابن جريج .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " منهاج السنة النبوية " : وهذا من
كماله الذي صار به خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا اشتد في قتال
أهل الردة شدةً برز بها على عمر وغيره ، حتى روي أن عمر قال له : يا خليفة رسول
الله صلى الله عليه وسلم تألف الناس. فقال: علام أتألفهم ! أعلى حديث مفترى ؟
أم على شعر مفتعل ؟.انتهى .
وقد كان حكم أبي بكر بردة الذي منعوا الزكاة ، بعد أن كانوا يأدونها إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم هو الحق الذي سبق لإصابته قبل غيره من الصحابة ، فكان
مقدماً عليهم ، كما كان مقدماً في غيره من المواقف ، حتى رجعوا إلى قوله ،
وأجمعوا على سداد رأيه وصحة فعله .
وفي مثل هذه المسألة يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله : واستقر الإجماع عليه في
حق من جحد شيئاً من الفرائض بشبهة ، فيطالب بالرجوع ، فإن نصب القتال قوتل
وأقيمت عليه الحجة ، فإن رجع وإلا عومل معاملة الكافر حينئذ .
الثالثة :
أن التقرير قد اشتمل على مغالطة كبرى تناقض ما جاءت به شرائع الأنبياء قاطبة من
الحكم على كل من كفَّره الله بالكفر والضلال .
إن مما فات من حرر التقرير أن يعلم أن التكفير حكم شرعي ، لا ولن يستطيع أحدٌ
إبطاله ما بقيت السموات والأرض ، أليس الله يقول : ( لقد كفر الذين قالوا إن
الله ثالث ثلاثة ) ( المائدة : 73 ) ويقول : ( إن الذين كفروا من أهل الكتاب
والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية ) ( البينة : 6 ) ونحوها
من الآيات .
وروى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من بدل دينه
فاقتلوه" .
نعم قد وقع إخلال كبير في تطبيق هذا الحكم ، حتى أطلق على من ليس له بأهل ،
وسبب ذلك أن الذين اجترءوا عليه هم غير العلماء ، ولذا فلا يجوز أن يتكلم فيه
إلا هم ، ولا ريب أن أعلم الخلق بعد النبيين هو أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله
عنه ، بشهادة الصحابة رضي الله عنهم ، حتى قال أبو سعيد رضي الله عنه في بعض
المناسبات : كان أبو بكر أعلمنا . متفق عليه .
الرابعة :
أن التقرير قد اعتبر أبا بكر الصِّدِّيق قدوة المكفرين الباغين الظالمين ،
حينما جعل جهاد أبي بكر والصحابة معه ضد المرتدين في رأس قائمة الإرهاب
والأفكار الشاذة ، أفكار الخوارج وأصحاب العنف والتطرف ، وهذه الفرية مما يفرح
به المبطلون من فئات الضلال ، ويكون التقرير الصحفي بذلك خادماً لمسلكهم
المنحرف ، وأنى لهم ذلك ، فأبو بكر على هدى وسنة ، وأما هم فعلى ضلال وعدوان .
وأذكر أخيراً بما رواه البخاري عن أبي الدرداء
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله بعثني إليكم ، فقلتم
: كذبتَ ، وقال أبو بكر : صدق ، وواساني بنفسه وماله ، فهل أنتم تاركو لي صاحبي
؟! " مرتين ، فما أوذي بعدها .
فكيف يستسيغ أهل الإسلام مثل هذا التطاول على صديق الأمة ومقدمها ، اللهم عفواً
وغفراً .
وبما تقدم يعلم أن المسائل الشرعية يجب أن تؤخذ من مصادر أمينة ، بعيدة عن
الغلو وعن الجفاء ، وعن الإفراط والتفريط ، وهذه المصادر متوافرة بحمد الله لمن
طلبها ، فهي منهج أئمة الدعوة في المملكة ، السائرين على درب السلف من الصحابة
والتابعين ، اتباعاً لسنة سيد الخلق محمد عليه الصلاة والسلام .
وفق الله الجميع لما فيه الخير ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
تحريراً في 1/1/1426هـ
khalidshaya@hotmail.com