|
الحمد لله على كل حال ، ونسأله تعالى حسن المآل .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه والتابعين ، أما بعد :
فقد فجعت الأمة صباح الاثنين 26/6/1426هـ 1/8/2005م بخبر وفاة خادم الحرمين
الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود ، وأمام هذا الحادث الجلل فقد تزاحم
في الخاطر عدد من المشاعر والانطباعات ومنها :
أولاً : رحيل مؤسف ومحزن :
لا ريب أن وفاة والد الجميع خادم الحرمين الملك فهد بن عبدالعزيز حدثٌ يحزن
النفوس ويعتصر القلوب ويُدمع العيون ، بالنظر لكونه قائداً عزيزاً ، وإماماً
فذَّاً أجرى الله على يديه من النفع للإسلام والمسلمين ما يسجله التاريخ بمداد
الفخر الجليل والثناء العظيم ، فكتب الله له من المحبة والاحترام ما تختزنه
القلوب وتحفل به النفوس ، فانطلقت النفوس لتعبر عن هذا الحب على سجيتها .
ومع كل ذلك لا نملك إلا أن نقول كما أرشدنا الله : ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ
وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم
مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ )[البقرة :
155 ـ 156] .
ثانياً : توقف العمر واستمر العمل :
إن مما يخفف الحزن ويصبر النفس أن فقيدنا قد ترك من بعده أعمالاً صالحة مستمرةً
غير منقطعه ، داخلة بإذن الله في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا
مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد
صالح يدعو له " رواه مسلم .
فالصدقات وأعمال البر التي تبنَّاها الملك فهد لا تغيب عنها الشمس ، من أقصا
الدنيا إلى أقصاها ، حيث إطعام الطعام ، وتقديم الكساء ، ومنح الدواء ، وتيسير
الإيواء ، وغيرها من الأيادي البيضاء لكل محتاج وصريخ .
وما لسان حاله رحمه الله إلا كما قال الإمام الشافعيَّ :
يا لـهفَ قلبي على مالٍ أجود به *** على
المُقِلِّـين من أهـل المُروءات
إنَّ اعتذاري إلى من جاء يسألني *** ما ليس عندي لَمِن إحدى المُصيبات
فصنع المعروف من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز
وجل ؛ ودليل ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً : « وإن أحب الأعمال إلى
الله سرور تدخله على مؤمن ، تكشف عنه كرباً ، أو تقضي عنه ديناً ، أو تطرد عنه
جوعاً » ، وحديث : « من أفضل العمل : إدخال السرور على المؤمن : يقضي عنه ديناً
، يقضي له حاجة ، ينفس له كربة » . ويقول صلى الله عليه وسلم : « أهل المعروف في الدنيا هم أهل
المعروف في الآخرة » .
قال بعض أهل العلم عقب إيراده له : « وإذا كان الله سبحانه قد غفر لمن سقى
كلباً على شدة ظمئه فكيف بمن سقى العطاش ، وأشبع الجياع ، وكسا العراة من
المسلمين ؟ ».
وفي أبواب الأعمال الجاري ثوابها نلحظ أن لمليكنا الفقيد القدح المعلَّى في
أعمال جاء النص عليها في أحاديث نبوية ، فكان سابقاً إليها ، بل وكان متفرداً
في كثيرٍ منها ، لا ينافسه أحد ، كما في عمارة الحرمين وطباعة المصحف الشريف .
وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم : « إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته ـ فذكر
أعمالاً ومن ذلك ـ : ومصحفاً ورَّثَه ، أو مسجداً بناه ، أو بيتاً لابن السبيل
بناه ، أو نهراً أجراه ، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه بعد موته
» رواه ابن ماجة ، وحسنه الألباني ، وقوله صلى الله عليه وسلم : « سبعة يجري للعبد أجرهن بعد
موته وهو في قبره ـ وذكر منها ـ : أو كرى نهراً ، أوحفر بئراً ، أو غرس نخلاً ،
أو بنى مسجداً ، أو ورَّث مصحفاً » رواه البزار وحسنه الألباني.
وما أحسن ما قال بعض السلف : أفضل الأعمال : سلامة الصدور ، وسخاوة النفوس
والنصيحة للأمة ، وبهذه الخصال بلغ من بلغ ، لا بكثرة الاجتهاد في الصوم
والصلاة .
وأما العلم : فقد كان فقيد الأمة رحمه الله رائده في الوطن الغالي ، وفي غيره
من بقاع الدنيا ، فهو مطور التعليم العام والعالي في أرجاء المملكة ، وهو ممن
تبنى المبادرة الحكيمة في إقرار تعليم البنات في إطار من الحشمة ووفق أسس شرعية
ثابتة ، تميزت بها المملكة وباتت موضع الثناء.
وفي أرجاء الدنيا ثمة صروح علمية من أقصى أستراليا والصين إلى أقصى القارة
الأمريكية ، تبنى الفقيد رحمه الله إقامتها ، لتكون منارات هدى لنشر العلم
والثقافة الإسلامية ، المؤصلة على البر والإحسان فلم تملك حكومات تلك البلدان
إلا القبول والترحيب بأن تحتضن بلدانهم تلك المراكز ، لما لمسوا فيها من سماحة
مؤسسها وراعيها وحكته ، وسعيه للتواصل الإنساني الراقي .
وأما الخصلة الثالثة : فقد علم الناس ما في ذريته وما لهم من نصيب وافر في
أعمال البر والإحسان ، وأياديهم البيضاء ومساعيهم النبيلة مما سارت بالحديث عنه
الألسن ، مسير الشمس في فلكها ، فنرجو الله أن يجعل في ذريته الصلاح والفلاح .
ثالثاً : مشروعية إشاعة مآثر الموتى وخاصةً أئمتهم :
إن من حق أي ميت من أموات المسلمين أن تذاع فضائله وتنشر محاسنه ، ولا ريب أن
المسلم إذا كان ذا هيئة ومكانة فإن هذا الحق يكون أجدر ، ومن حق فقيدنا الملك
فهد ـ رحمه الله ـ أن يفصح كل صاحب بيان عن مآثره وخصاله الكريمة .
أحرر هذه الأسطر وأنا أستحضر البشارة النبوية العظيمة التي أرجو الله الكريم أن
يهبها لفقيدنا الغالي ، ذلكم ما رواه البخاري رحمه الله عن أبي الأسود قال :
قدمتُ المدينة وقد وقع بها مرض، فجلست إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فمرَّت
بهم جنازة فأُثنِيَ على صاحبها خيراً، فقال عمر : وَجَبَت ، ثم مُرَّ بأخرى
فأُثنِيَ على صاحبها خيراً ، فقال عمر : وجبت ، ثم مُرَّ بالثالثة فأُثنِيَ على
صاحبها شراً ، فقال : وجبت ، فقال أبو الأسود : فقلت : وما وجبت يا أمير
المؤمنين ؟ قال : قلت : كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أيما مسلم شهد له
أربعة بخير أدخله الله الجنة " فقلنا : وثلاثة ؟ قال : " وثلاثة " فقلنا :
واثنان ؟ قال : " واثنان " ثم لم نسأله عن الواحد .
أقول : فدلَّ هذا على ما ينبغي من إشاعة مآثر الموتى وذكر محاسنهم .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : وهذا الحديث على عمومه ، وأن من مات من
المسلمين فأَلْهَمَ الله تعالى الناس الثناء عليه بخير كان دليلاً على أنه من
أهل الجنة ، سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا ، فإن الأعمال داخلة تحت المشيئة
، وهذا إلهامٌ يُستدل به على تعيينها ، وبهذا تظهر فائدة الثناء ، ويؤيده ما
رواه أحمد وابن حبان والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس مرفوعا : "
ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من جيرانه الأدنين أنهم لا يعلمون منه إلا
خيراً إلا قال الله تعالى : قد قَبِلْتُ قولكم ، وغفرت له ما لا تعلمون " .
وفي ضوء ذلك : فإن من المهم أيضاً أن يعتنى بتدوين مآثر مليكنا الفقيد ، حتى
تستفيد منها الأجيال ، ولذا فإني أدعو أقسام الدراسات العليا في الجامعات
السعودية وأقترح عليها أن تسجل للباحثين دراسات متخصصة في مرحلتي الماجستير
والدكتوراة ، يتم فيها رصد مجالات التميز في شخصية الملك فهد وسيرته ، في
المجالات الشرعية كخدمة الإسلام والعناية بالمسلمين ، وفي المجالات السياسية
والاقتصادية وغيرها .
رابعاً : الأسرة المالكة والمجد الأثيل :
المتأمل في تأريخ أسرة آل سعود يلحظ ما وهبها الله من مجد أثيل وفضل كبير ارتبط
بخدمة الإسلام ، فتوالى الأئمة من آل سعود على رفع راية التوحيد وإعلاء شأن
الدين ، فنالوا من السؤدد والتمكين ما بقي ثابتاً إلى عصرنا هذا ، حيث جاء دور
الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن وأبناؤه من بعده رحمهم الله ، وكان للفهد
مزيد تفرد بما يسر الله له من العناية بأعظم مقدسات المسلمين ، ونشر الخير بين
العالمين .
وإن مما ينبغي أن يسجل في هذا المقام ، وهو مما يبعث الطمأنينة والارتياح
الكبير ، والولاء العظيم ، ما أثبتته الأحداث من تماسك الأسرة المالكة ، وما
يعلمه كل فرد منهم من الحقوق لكبار الأسرة ومقدميها ، وتقديمهم للمصالح العليا
للأمة ، ذلك أن هذه الأسرة لا تشبهها في العصر الحديث أي أسرة ، ولا تدانيها في
مجدها وعزها ، فالأسرة المالكة ذات ارتباط استراتيجي بدين الإسلام على مدى أكثر
من ثلاثمائة سنة ، وإن عز هذه الأسرة عزٌّ للإسلام والمسلمين .
وقد كان من اللغو العجيب ما تحدث به بعض الناس في الداخل والخارج حول ما يتعلق
بخلافة الملك رحمه الله ، وقد كان هذا اللغو ناشئاً عن عدم إدراك لتاريخ الأسرة
السعودية الملكية منذ عهد الإمام محمد بن سعود رحمه الله ، وحتى يومنا هذا ،
وخاصة أبناء الملك عبدالعزيز وأحفاده ، فإن من يطلع على طبيعة علاقتهم ببعضهم
وتعاملهم فيما بينهم ، يدرك أن الحديث عن خلافة الملك وتعيين معاونيه أمر محسوم
، وأن التأويلات المتشائمة ما هي إلا تخرصات دالة على جهل أصحابها أو نواياهم
السيئة .
خامساً : في خليفة الفقيد عزاء كبير :
إن من أكبر العزاء في نفوسنا أن هذا القائد الكبير وهو يغادر دنيانا مأسوفاً
عليه ، إلا أنه لم يدع موضع القيادة فارغة أو مهزوزة بقلة الخبرة وضعف الدراية
، بل إنه رحمه الله قد جعل له في حياته عضداً يشد أزره ويشركه في إدارة شئون
البلاد ، وهما النائبان عبدالله وسلطان. وذلك لدى سفره أو غيره من عوارض الحياة
.
فحين يغيب الملك فهد هاهو الملك عبدالله يتولى إدارة شئون البلاد وهو المؤهل
العارف الخبير ، فلا مجال لممارسة تجارب مشكوك فيها،أو قدرات تعاني الاهتزاز
والتردد،بل إن المتابع لسياسات البلاد الداخلية والخارجية لن يلاحظ تغييراً في
مسارها، حيث إن الثوابت والمنطلقات بينة واضحة ، اللهم ما يكون من سياسات
تقتضيها المرحلة وتفرضها المستجدات تحقيقاً للمصالح العليا .
وهاهو ولي العهد الأمير سلطان يتسنم منصباً آخر ، لن يكون فيه غريباً ولا
مجرباً ، وإنما هو الخبير العارف ، ليستكمل معاضدة القائد كما كان في موقعه
السابق .
إن إدراكنا لهذه الأسس لتبعث الطمأنينة الكبيرة في أن حاضر هذه البلاد
ومستقبلها هو محل العناية والرعاية من أولئك القادة الأعزة ، خاصة وأن موقع هذا
الوطن الغالي ومكانته لهما اعتبارات عدة ، أهمها كونه حاضن الحرمين الشريفين
ومهوى أفئدة المسلمين ، وحامل لواء الدعوة إلى الله تعالى .
والله المسئول أن يرحم فقيدنا الملك فهد ، وأن يجزيه على خدمة الحرمين ونشر
كتابه العزيز وخدمة المسلمين أفضل الجزاء وأعظمه ، وأن يسكنه جنات النعيم ، وأن
يفرغ الصبر على بنيه وبناته وأهله ، وأن يخلف على الأمة فيه خيراً ، وأن يوفق
خليفته الملك عبدالله لما فيه خير الأمة وسؤددها ، وأن يجعله وولي عهده الأمير
سلطان مفتاحاً لكل خير ، مغلاقاً لكل شر ، وأن يرزقهما البطانة الصالحة الناصحة
، وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وإنا لله وإنا إليه راجعون .
نشر في جريدة الرياض ـ العدد ـ الخميس 6 رجب
1426هـ - 11 أغسطس 2005م - العدد 13562