مما استقر لدى أهل الإسلام : أن رمضان مجالٌ رحب للإكثار من أنواع الطاعات
اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم ، حيث كان يَخُصُّ رمضان بعبادة لا يخص بها
غيره من الشهور .
كما أن أهل الإسلام يحرصون في رمضان على مزيد التقاصر عن أنواع المآثم ، ويبلغ
بهم هذا الحرص أن يجتنبوا أشياء من قبيل المكروهات لا المحرمات .
وهذا منهم بالنظر إلى أصل الإيمان الذي في قلوبهم ، والفطرة التي يحملونها بين
جوانحهم ، ويُعِينُهم في ذلك ما يهيئه الله من منع مَرَدَةِ الشيطان من
التسلُّط عليهم بمثل ما يتسلَّطون به في غير رمضان .
ويوضح هذا ما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " إذا دخل رمضان
فُتِّحت أبواب السماء ، و غُلِّقت أبواب جهنم ، و سُلْسِلَت الشياطين " ولمسلم
: " وصُفِّدت الشياطين " وللترمذي وابن ماجه: " صُفِّدت الشياطين و مَرَدَةُ
الجن ".
غير أن ما يدعو للاستغراب أن في مجتمعاتنا الإسلامية فئةً أَبَتْ أن تشارك
الجماهير الإسلامية تلك الروحانية الإيمانية الكبيرة ، فراحت تُجدِّف ضد التيار
، بل وتحاول الإخلال بالمشاعر الإيمانية التي يعيشها الناس ، فلم يقتصروا على
تأثيم أنفسهم ، بل راحوا يُغْرُونَ الناس بأعمال يجرحون بها حرمة الشهر الكريم
، فجعلوه موسماً لتسويق أخلاقياتهم المخالفة واتجاهاتهم المنحرفة .
وإن أبرز ما يذكر من أمثلةٍ لهذا الاتجاه : ما تبنَّاه عددٌ من المنتسبين لما
يسمى ( الوسط الفني ) من برامج وتمثيليات خَصُّوا بها شهر رمضان ، وتعاطوا فيها
طروحات مثيرة ، من جهة مساسها واستخفافها بمسلَّمات دينية وأحكام شرعية ،
إضافةً للمسلسلات التي لا يتورَّع الممثلون والممثلات فيها عن أنواع العري
والتفسخ الأخلاقي .
وقريبٌ من هؤلاء عددٌ من مالكي الفضائيات الخاصة ، وكذلك القائمين على
التلفزيونات الحكومية الذين يسوِّقون تلك الأعمال ، ويرتبون لها قبل شهر رمضان
بأشهر عديدة ، ويختارون لها أوقات الذروة في المشاهدة ، حيث ينتصب الملايين من
عامة الناس أمام الشاشات ، وخاصة الأطفال والنساء والمراهقين والمراهقات ،
والذين أوشكوا أن يفقدوا روحانية الشهر ، وترتسم في أذهانهم علاقته بتلك
الأعمال المؤسفة .
وقد أردتُ مرةً أن أقف بنفسي على طبيعة ما يعرض على الشاشات في نهار رمضان
ولياليه ، فوجدت ما أحزن نفسي وكدَّر خاطري ، وساءلتُ نفسي : هل هذه هي
تلفزيونات المسلمين حقاً ؟! إن أعداء المسلمين لو أرادوا الإضرار بالمسلمين
بعرض ما يسيء للإسلام لما استطاعوا أن يأتوا بأشد مما صنعه هؤلاء المسلمين
والمسلمات .
حتى إن بعض قنوات الرقص والغناء (الفيديو كليب) تعرض الرقص الماجن والكلام
الفاحش والقبلات المحرمة ، مع ما يصاحبها من الشريط المتحرك الذي يظهر رسائل
(SMS ) واتصالات الشباب والفتيات المراهقين ، وما فيها من الكلمات الداعية
للفاحشة ، التي تغريهم بها المشاهد المخلَّة أمامهم ، حتى باتت تلك الشاشات
أشبه بمواخير دعارة ومجون ، ولمزيد الاستخفاف تموج الشاشة طيلة ذلك في زاويتها
بـ (رمضان كريم ) .
لقد كنت أتساءل في نفسي : إن مَرَدَة شياطين الجن قد صُفِّدت ، فما بال هؤلاء (
الإنس ) لا يزالون على أعمالهم ( المغوية ) والتي بَعُدُوا بها عن الهدى والخير
، وأبعدوا بها غيرهم ، وتأملت ما قاله بعض النبلاء : بأن من الإنس من تألف
أنفسهم السوء والفُحش حتى يكون من جملة تكوينهم في كل الأحوال : (وَاللّهُ
يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ
أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً ) [النساء : 27] .
نعم إن الشياطين قد صُفِّدوا ، فمن يُصَفِّدُ هؤلاء ؟. أليس في دول عالمنا
الإسلامي من أهل الرشد والغيرة من يأخذ على أيدي هؤلاء ، حتى تحفظ للشهر حرمته
، ويحفظ للناس تعبدهم وإيمانهم . إنها مسئولية مؤسسات المجتمع ، مسئولية
المربين والمربيات وقادة الفكر وصُنَّاع الثقافة ، كما أنها مسئولية العقلاء
والعاقلات ليحموا أنفسهم وذويهم من أن يكونوا صيداً غِراً لهؤلاء الذين لم
يصفَّدوا .
والله المسئول أن يهدينا جميعاً ، ونعوذ به سبحانه أن يزيغ قلوبنا .