خرج عبد الله بن المبارك ـ رحمه الله مرةً ـ إلى الحج ، فاجتاز ببعض البلاد ،
فمات طائرٌ معهم ، فأمر بإلقائه على مزبلة هناك ، وسار أصحابُه أمامه ، وتخلَّف
هو وراءهم .
فلما مرَّ بالمزبلة إذا جاريةٌ قد خَرَجَت من دار قريبة منها ، فأخذت ذلك
الطائر الميت ، ثم لَفَّتْهُ ، ثم أسرعت به إلى الدار ، فَتَبِعَها ، وجاء
إليها فسألها عن أمرِها ، وأخذِها الميتة ؟!.
فقالت : أنا ، وأخي هنا ، ليس لنا شيءٌ إلا هذا الإزار ، وليس لنا قُوتٌ إلا ما
يُلقى على هذه المزبلة ، وقد حلَّت لنا المَيْتَةُ منذ أيام ، وكان أبونا له
مال ، فظُلِم ، وأُخِذَ مالُه وقُتِل !!.
وأمام هذه الحال المؤثرة ، كيف صنع ابن المبارك ؟!.
لقد أمر بِرَدِّ أحمال القافلة ، وقال لوكيله الذي معه المال : كم معك من
النفقة ؟.
قال : ألف دينار .
فقال ابن المبارك : عُدَّ منها عشرين ديناراً تكفينا للرجوع إلى مَرْو ( بلدته
) ، وأعطها الباقي ، فهذا أفضل من حجنا هذا العام ، ثم رجع .
أيها الفضلاء : إن هذه الفتاة لها نظائر كُثيراتٌ وكثيراتٌ اليوم في بلاد
المسلمين ، ممن يعيشون البؤس والجوع والتشرد . فالعالم الإسلامي يئن من وطأة
مشكلات متراكمة جراء سوء الإدارة لما أودعه الله في بلدانهم من الكنوز والخيرات
، وما يتبع ذلك من الفساد الذي يبغي به القوي على الضعيف ، في ظل غياب الوازع
الإيماني وانهيار الذمم إلا من رحم الله.
إن ثمة من الثروات الهائلة بأيدي المسلمين والتي تقدر ( زكواتها ) بالمليارات!!
ما لا يزال بعيداً عن نفع الناس ، حتى إن مجموع ما أُحصي مما يجب إخراجه من
زكاة أموال تُجَّار العرب في عام واحدٍ : يزيد على ستةٍ وخمسين مليار دولار .
ولكن المشكلة الكبرى : أن هذا المال يحتاج لنَفْسٍ كريمة نبيلة ، وروح أبيَّة
نزيهة ، كنفس عبد الله بن المبارك ، نفس يعمرها الإيمان ، ويرفعها التقوى .
نفسٍ تدرك أن التعبد لله لا يقتصر على الفرائض الجليلة كالصلاة والصيام والحج ،
وإنما يتعدى إلى آفاق رحبة يتجه الإنسان في رحابها إلى إدخال السرور على النفوس
المكلومة وإسعاد المهج المحرومة .
( عبد الله بن المبارك : الإمام شيخ الإسلام ، عالم زمانه وأمير الأتقياء في
وقته ، الحافظ الغازي أحد الأعلام ، أكثر من الترحال والتطواف في طلب العلم ،
وفي الغزو وفي التجارة ، وأغدق الإنفاق على الإخوان في الله وتجهيزهم معه إلى
الحج ، توفي في رمضان عام 181هـ رحمه الله ورضي عنه ) .
نسأل الله تعالى أن يَهَبَ لنا من لَدُنه رحمةَ ، إنه هو الوهاب ، وصلى الله
وسلم على نبينا محمد.