|
من سنن الله عز وجل في الكون سنة التدافع بين الخير و الشر و الإصلاح و الإفساد
ودعاة الحق ودعاة الباطل فإذا قام داعية الحق بما أوجب الله عليه من الدعوة و
الإصلاح و نشر الخير و تعليم العلم دفع الله به الشر عن الأمة و حُجم ذلك الشر
و كلما قوي الخير و اتسعت رقعته أزهق الله الباطل و كان أشبه ما يكون بالزبد
الذي يذهب جفاءً قال تعالى : { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا
مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ
الأمْثَالَ }الرعد: 17
قال الإمام الشوكاني رحمه الله : وهذان مثلان ضربهما الله سبحانه للحق والباطل
... إن الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلاه ، فإن الله سبحانه سيمحقه
ويبطله ويجعل العاقبة للحق وأهله كالزبد الذي يعلو الماء فيلقيه الماء ويضمحلّ
وكخبث هذه الأجسام فإنه وإن علا عليها فإن الكير يقذفه ويدفعه ، فهذا مثل
الباطل؛ وأما الماء الذي ينفع الناس وينبت المراعي فيمكث في الأرض ، كذلك الصفو
من هذه الأجسام فإنه يبقى خالصاً لا شوب فيه ، وهو مثل الحق .
قال سيد رحمه الله : إن الماء لينزل من السماء فتسيل به الأودية ، وهو يلم في
طريقه غثاء ، فيطفو على وجهه في صورة الزبد حتى ليحجب الزبد الماء في بعض
الأحيان . هذا الزبد نافش راب منتفخ . . ولكنه بعدُ غثاء . والماء من تحته سارب
ساكن هادئ . . ولكنه هو الماء الذي يحمل الخير والحياة . . كذلك يقع في المعادن
التي تذاب لتصاغ منها حلية كالذهب والفضة ، أو آنية أو آلة نافعة للحياة
كالحديد والرصاص ، فإن الخبث يطفو وقد يحجب المعدن الأصيل . ولكنه بعدُ خبثٌ
يذهب ويبقى المعدن في نقاء . .
ذلك مثل الحق والباطل في هذه الحياة . فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابياً
طافياً ولكنه بعدُ زبد أو خبث ، ما يلبث أن يذهب جفاء مطروحاً لا حقيقة له ولا
تماسك فيه .
والحق يظل هادئاً ساكناً . وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار أو ضاع أو مات .
ولكنه هو الباقي في الأرض كالماء المحيي والمعدن الصريح ، ينفع الناس .
ورغم هذه الحقيقة التي كلما تذكرها أهل الخير و دعاة الحق و تجلت لهم غمرهم
التفاؤل بنصر قريب للحق إلا أن هناك حقيقة أخرى ينبغي أن لا تغيب عن أذهانهم
ألا و هي أن الصراع بين الحق و الباطل باقٍ إلى قيام الساعة فالزبد لا يكون
جفاءً إلا إذا قذفه السيل بقوة تبدد تراكمه و تمحق وجوده والذهب لا يلمع بريقه
و يظهر جماله و تزال الأوساخ العالقة به حتى يصلى بالنار المحرقة و كذلك الحق
لا يزال في صراع مرير مع الباطل و أهله ، يصطلي أهل الحق بناره ولكن الدولة
والغلبة في نهاية المطاف للحق و أهله قال تعالى : { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو
فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } البقرة 251
قال ابن عطية رحمه الله : [أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لولا دفعه
بالمؤمنين في صدور الكفرة على مر الدهر { لفسدت الأرض } ، لأن الكفر كان يطبقها
ويتمادى في جميع أقطارها ، ولكنه تعالى لا يخلي الزمان من قائم بحق ، وداع إلى
الله ومقاتل عليه ، إلى أن جعل ذلك في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام
الساعة ، فله الحمد كثيراً .
وقال سيد رحمه الله :[ لقد كانت الحياة كلها تأسن وتتعفن لولا دفع الله الناس
بعضهم ببعض . ولولا أن في طبيعة الناس التي فطرهم الله عليها أن تتعارض مصالحهم
واتجاهاتهم الظاهرية القريبة ، لتنطلق الطاقات كلها تتزاحم وتتغالب وتتدافع ،
فتنفض عنها الكسل والخمول ، وتستجيش ما فيها من مكنونات مذخورة ، وتظل أبداً
يقظة عاملة ، مستنبطة لذخائر الأرض مستخدمة قواها وأسرارها الدفينة . . وفي
النهاية يكون الصلاح والخير والنماء . . يكون بقيام الجماعة الخيرة المهتدية
المتجردة . تعرف الحق الذي بينه الله لها . وتعرف طريقها إليه واضحاً . وتعرف
أنها مكلفة بدفع الباطل وإقرار الحق في الأرض . وتعرف أن لا نجاة لها من عذاب
الله إلا أن تنهض بهذا الدور النبيل ، وإلا أن تحتمل في سبيله ما تحتمل في
الأرض طاعة لله وابتغاء لرضاه . .
وهنا يمضي الله أمره ، وينفذ قدره ، ويجعل كلمة الحق والخير والصلاح هي العليا
، ويجعل حصيلة الصراع والتنافس والتدافع في يد القوة الخيرة البانية ، التي
استجاش الصراع أنبل ما فيها وأكرمه . وأبلغها أقصى درجات الكمال المقدر لها في
الحياة .
ومن هنا كانت الفئة القليلة المؤمنة الواثقة بالله تغلب في النهاية وتنتصر .
ذلك أنها تمثل إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض ، وتمكين الصلاح في
الحياة . إنها تنتصر لأنها تمثل غاية عليا تستحق الانتصار
أخي الداعية المبارك بالتأمل في الآيتين السابقتين لعلنا نخلص إلى الحقائق
التالية :
1/
اليقين بأن الباطل مهما ارتفع فهو إلى انخفاض و مهما انتفش فهو إلى زوال و أن
النصر و التمكين للحق و الخير و أن دولة الباطل ساعة و دولة الحق إلى قيام
الساعة .
2/
أن ارتفاع الباطل و علوه وزهو أهله بذلك إنما هو ابتلاء من الله لأهل الخير و
الإيمان و في ذلك الابتلاء فوائد جليلة منها :
أ/ اختبار إيمانهم و صبرهم و ثباتهم على الحق و صدعهم به و مجالدتهم لأهل
الباطل .
ب/ ليعلي الله بذلك ذكرهم في الدنيا و يرفع درجاتهم في الآخرة .
ج/ ليتداعى أهل الحق لنصرته والذود عن حياضه فيحدث لهم ذلك نشاطاً و يودعوا
حياة الدعة و السكون و ينتشلهم ذلك من الكسل و التواني إلى حياة البذل و العطاء
و ذلك و الله من أعظم المنافع و كم من بلية أحدثت في الأمة حياة .
د/ أن صراع الباطل للحق يكسب الحق و أهلة قوة ومناعة في مواجهة الباطل في
جولاته القادمة .
3/
ينبغي للحق أن يكون هو الذي يدير الصراع مع الباطل فالسيل يحمل الزبد و يدفعه
بقوة فيبدده و النار التي توقد لتستخلص الذهب أول ما تحرق الأوساخ التي تغطيه و
إن أرهق السيل كثرة الزبد لكنه يملك من القوة و النشاط ما يحيله هباءً وإن آلم
الذهب حر النار فإنه يملك من القوة و الصلابة ما يجعله ثابت يبصر فتات الأوساخ
تتطاير عنه و هكذا ينبغي أن يكون دعاة الحق يصبرون و يتحملون ويجالدون و في
داخلهم من القوة و الثبات ما يجعل الباطل يتساقط أشبه ما يكون بأوساخ الذهب و
زبد السيل .
4/
أن صراع الحق للباطل دليل على قوة الحق فالسيل الضعيف لا يحمل زبداً إنما يحمله
السيل القوي الجارف المتدفق و كذلك الحق يتصارع مع الباطل و لكنه ما يلبث أن
يصرعه قال تعالى : { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ
فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } الأنبياء: 18 يقول
سيد رحمه الله : فكأنما الحق قذيفة . يقذف بها على الباطل ، فيشق دماغه! فإذا
هو زاهق هالك ذاهب ... هذه هي السنة المقررة ، فالحق أصيل في طبيعة الكون .
والباطل منفي عن خلقة هذا الكون أصلاً ، طارئ لا أصالة فيه ، ولا سلطان له ،
يطارده الله ، ويقذف عليه بالحق فيدمغه . ولا بقاء لشيء يطارده الله؛ ... ولقد
يخيل للناس أحياناً أن واقع الحياة يخالف هذه الحقيقة التي يقررها العليم
الخبير . وذلك في الفترات التي يبدو فيها الباطل منتفشاً كأنه غالب ، ويبدو
فيها الحق منزوياً كأنه مغلوب . وإن هي إلا فترة من الزمان ، يمد الله فيها ما
يشاء ، للفتنة والابتلاء . ثم تجري السنة الأزلية الباقية ... : { بل نقذف
بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق } والله يفعل ما يريد
5/
أن الحق محبوب تأنس به النفوس و تميل إليه القلوب و تنجذب نحوه الأفئدة و تبحث
عنه أشبه ما يكون بالسيل الذي تفرح به كل المخلوقات و الذهب الذي زين للناس حبه
أما الباطل فمبغوضٌ مكروهٌ تنفر منه النفوس أشبه ما يكون بالزبد و أوساخ الذهب
فمن يفرح بها و هذا رصيد قوي لدعاة الخير و أرباب الصلاح فالنفوس قد فُطرت على
حب الخير و بغض الباطل فعليهم أن يجتهدوا في بيان الحق و تجلية الباطل .
6/
أن الحق قوته و جاذبيته في ذاته فتجليته للناس و بيانه على حقيقته يجعل النفوس
تنجذب إليه فهو لا يحتاج إلى كبير تزيين كيف و هو زينة أشبه ما يكون بالذهب . و
الباطل ضعفه في ذاته فهو لا يروج على الناس إلا بالتلبيس و التزيين و تزييف
المسميات فينخدع به الناس و لو ظهر للناس بصورته الحقيقية لانجفل عنه الناس و
فروا منه فرارهم من المجذوم فمن يشتري الزبد أو يرغب في الأوساخ و من هنا
فالتبعة على دعاة الخير عظيمة جداً في تجلية الحق و بيانه للناس و تجلية الباطل
و إظهاره للناس بقبحه الذاتي و عندها ستكون الدولة للحق فأما الزبد فيذهب جفاء
و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض .
7/
اليقين التام بأن النصر و الغلبة لأهل الحق و دين الإسلام مهما طال ليل الباطل
فنور الحق قادم يقشع ظلمته فعلى الدعاة أن يكونوا على ثقة تامة بذلك و لكون
مطيتهم في كل أحوالهم التفاؤل بالغلبة و التمكين و سلاحهم الصبر و التقوى {
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ
اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } آل عمران : 120
أخي الداعية هاهو الزبد يعلو و الشر يرفع عقيرته و الأعداء بجميع فئاتهم يرمون
الإسلام عن قوس واحدة ينوعون الأساليب و الخطط لحرب الإسلام واجتثاثه من الأرض
مصداقاً لقول الله تعالى : { يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ
بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ
الْكَافِرُونَ }التوبة 32
و العجيب في ذلك كله هو جلد الفاجر وعجز التقي وصدق أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب -رضي الله عنه- فيما روي عنه أنه قال : اللهم إني أشكو إليك جلَدَ
الفاجر وضعف التقي .
أخي الداعية المبارك أمتك و دينك في أمس الحاجة إلى جلدك و جهدك و كدحك ليدحر
الله بك الباطل و يتم الله بك نور الهدى فكن سيل حق يبدد زبد الباطل و كن مشعل
نورٍ يقشع سواد ليل ٍ دامس يزهق الله به الباطل و يطمس بنوره الظلمات .
محبكم : شائع محمد الغبيشي
مشرف تربوي بإدارة التربية و التعليم بمحافظة القنفذة
جوال : 0555599624
البريد الإلكتروني :
shaei1416@hotmail.com