وأخذوا يتوسعون في هذه القاعدة ، حتى أصبح الكذب دينهم والنفاق سمنهم
واستغفال الناس غايتهم ، فنعوذ بالله من الخذلان ، مستدلين بقوله تعالى { من
كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر
صدرا } – النحل (106) ، وبحديث النبي – صلى الله عليه وسلم – في الصحيحين " ليس
الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيراً وينمي خيراً " ولسان حالهم يقول مبرراً
لمنهجهم الكاذب بأن الشريعة تبيح أو توجب فعل المحرم إذا قارن التحريم بمفسدة
أعظم ، كما في قوله تعالى { إلا أن تتقوا منهم تقاة }
إذ جاء بالآية جواز مساعدة الكفار ، والقول بما يصرف عن المؤمنين شر الكفار
وأذاهم بظاهر من المؤمنين لا باعتقاد ، وللرد على هذه المزاعم نقول بأن هذه
الشبه لا يجوز الاستدلال بها على هذا المنهج الباطل للأمور الآتية :
- أولاً :
ليس في الشريعة المبدأ القائل بأن الغاية تبرر الوسيلة ، إلا بالنسبة للوسائل
المسكوت عنها في الشرع ، أي التي لم يرد المنع منها دليل من الكتاب والسنة ،
أما الوسائل التي حرمها الشرع فلا يجوز أن نسلكها لأنها غير شرعية .
- ثانياً :
الأحكام الشرعية وضعها الشارع لتحقيق المصالح والمقاصد الكلية للشريعة ، ولا
مجال فيها لأهواء العوام أو أنصاف المتعلمين من المفكرين و المثقفين الإسلاميين
، فالشارع الحكيم رسم الطرق التي توصل إلى هذه الغايات لكي تتحقق هذه المقاصد ،
ومن ثم لزم أن يكون المقصد مشروعاً والوسيلة التي تؤدي مشروعة .
- ثالثاً :
الأدلة التي قد يستدلون بها على جواز الكذب لمصلحة الدعوة ، بدليل الحديث أو
الآية على جواز الكذب ، حجة عليهم لا لهم، فالوسيلة التي في هذه الأدلة هي
وسيلة شرعية ورد الدليل على جوازها وتخصيصها في هذه الحالات فقط ، فهذه الوسائل
مشروعة والغاية مشروعة ، فأين وجه الاستدلال بهذه النصوص .
- رابعاً :
لا يجوز الاستدلال على شرعية الغاية في جواز كل ما يوصل إليها من وسائل مع
إهمال الأدلة الشرعية المانعة من بعض هذه الوسائل ، وجعل الاستثناءات والأحكام
العارضة هي الأصل ويتم تجاهل الأحكام الراتبة والأدلة الشرعية ، وإلا لفتح باب
كبير للزنادقة ، إذ لا يجوز نقض الأصول الاستقرائية القطعية من الكتاب والسنة
والإجماع ، وإبطال للكليات القرآنية وإسقاط الاستدلال بها وتوهين الأدلة
الشرعية من أجل التلاعب بهذا الدين لأغراض حزبية بغيضة .
- خامساً :
الشريعة أتت بسد الذرائع المفضية إلى المحرمات وذلك عكس باب الغاية تبرر
الوسيلة ، فهذه القاعدة وسيلة وباب واسع لانتهاك الكبائر والمحرمات ، وسد
الذرائع عكس ذلك ، فالشارع حرم الذرائع وإن لم يقصد بها المحرم لإفضائها إليه ،
فكيف إذا قصد المحرم نفسه ؟ فالشارع حرم القطرة من الخمر وإن لم تحصل بها مفسدة
الكثير لكون قليلها ذريعة إلى شرب كثيرها ، وحرم الخلوة بالمرأة الأجنبية
والسفر بها والنظر إليها من غير حاجة سداً للذريعة .
- سادساً :
قال ابن القيم – رحمه الله - : " المحرم : أن يقصد بالعقود الشرعية غير ما
شرعها الله تعالى ورسوله له ، فيصير مخادعاً لله تعالى ورسوله – صلى الله عليه
وسلم – كائداً لدينه ، ماكراً بشرعه ، فإن مقصوده حصول الشيء الذي حرمه الله
تعالى ورسوله بتلك الحيلة ، وإسقاط الذي أوجبه بتلك الحيلة "[1]
.
- سابعاً :
من قصد الوسائل المحرمة واستخدام الحيل للوصول إلى الغاية فإن الشارع الحكيم قد
أبطل عليه مقصده ، وقابله بنقيضها ، وسد عليه الطرق التي فتحها بالحيلة الباطلة
، فالمحتال بالباطل معامل بنقيض قصده شرعاً وقدراً ، فالشارع منع الميراث على
المتحيل على الميراث بقتل مورثه ، ونقله إلى غيره ، وعاقب من احتال على الصيد
من اليهود بأن مسحهم قردة وخنازير ، وعاقب كل من حرص على الولاية والإمارة
والقضاء بأن منعه وحرمه ما حرص عليه ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " إنا لا
نولي عملنا هذا من سأله "[2] قال ابن القيم – رحمه الله _ :
" وهذا باب واسع جداً عظيم النفع ، فمن تدبره يجده متضمناً لمعاقبة الرب سبحانه
من خرج عن طاعته ، بأن يعكس عليه مقصوده شرعاً وقدراً ، دنيا وآخرة ، وقد اطردت
سنته الكونية سبحانه في عباده ، بأن من مكر بالباطل مكر به ، ومن احتال احتيل
عليه ، ومن خادع غيره خدع "[3]
- ثامناً :
لو كانت الغاية تبرر الوسيلة لاستخدمها النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى مع
المشركين ، فيكون عدم استخدامها مع المسلمين من باب أولى ، والدليل على ذلك أن
النبي – صلى الله عليه وسلم – أوفى بالعهد الذي أخذته قريش من حذيفة بن اليمان
وأبيه –رضي الله عنهما – كما أخرجه مسلم في صحيحة[4] من
حديث حذيفة قال : " ما منعني أن أشهد بدراً إلا أني خرجت أنا وأبي – حسيل –
فأخذنا كفار قريش ، قالوا : إنكم تريدون محمداً ، فقلنا : ما نريده ، ما نريد
إلا المدينة ، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه
، فأتينا رسول الله –صلى الله عليه وسلم – فأخبرناه الخبر ، فقال : انصرفا نفي
بعهدهم ونستعين الله عليهم " فتأمل معي شدة اهتمامه – صلوات ربي وسلامه عليه –
بالمبادئ واحترامه للعهد ، فما أصعبه في زمن عزّ فيه الوفاء حتى مع الذين حملوا
راية الدعوة في سبيل الله ، فأصبحت المصالح الدنيوية هي الميزان لجميع
تعاملاتنا ، فلا حول ولا قوة إلى بالله العلي العظيم .
----------------------------------------- [1] إغاثة اللهفان 2/ 380. [2] أخرجه أحمد 4/417 بإسناد صحيح . [3] إغاثة اللهفان 2/ 380. [4] مسلم 1787