يعتقد بعض الناس أن تقصد المشقة يحصل به الأجر الكبير ، فترى بعض الجهلاء
يستحب أداء مناسك الحج حافياً تقرباً إلى الله ، حتى يتحقق فيه قول النبي - صلى
الله عليه وسلم - لعائشة : " أجرك على قدر نصبك "[1] ،
ولحديث جابر في صحيح مسلم قال :" خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن
ينتقلوا إلى قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم :
إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد قالوا: نعم يا رسول الله قد أردنا
ذلك فقال : يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم دياركم تكتب آثاركم وفي رواية -
فقالوا : ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا - "[2]
والذي يظهر لي أن تقصد المشقة ممنوع
لما يأتي :
أولاً :
لا يجوز للإنسان أن يتقصد المشقة عند أدائه لأي عبادة ، قال شيخ الإسلام ابن
تيمية – رحمه الله - : " قول بعض الناس : الثواب على قدر المشقة ليس بمستقيم
على الإطلاق ، كما يستدل به طوائف على أنواع من الرهبانيات والعبادات المبتدعة
، التي لم يشرعها الله ورسوله ، من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل الله من
الطيبات ، ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي – صلى الله عليه وسلم – حيث قال
: " هلك المتنطعون "[3] وقال : " لو مدّ لي الشهر لواصلت
وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم "[4] مثل الجوع أو العطش
المفرط الذي يضر العقل والجسم ، ويمنع أداء واجب أو مستحبات أنفع منه ، وكذلك
الاحتفاء والتعري والمشي الذي يضر الإنسان بلا فائدة ، مثل حديث أبي إسرائيل
الذي نذر أن يصوم وأن يقوم قائماً ولا يجلس ولا يستظل ولا يتكلم ، فقال النبي –
صلى الله عليه وسلم - : " مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه … "[5]
ثم قال – رحمه الله - : " فأما كونه مشقاً فليس سبباً لفضل العمل ورجحانه ،
ولكن قد يكون العمل الفاضل مشقّاً ففضله لمعنى غير مشقته ، والصبر عليه مع
المشقة يزيد ثوابه وأجره ، فيزداد الثواب بالمشقة … فكثيراً ما يكثر الثواب على
قدر المشقة والتعب ، لا لأن التعب والمشقة مقصود من العمل ، ولكن لأن العمل
مستلزم للمشقة والتعب ، هذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الآصار والأغلال ، ولم
يجعل علينا فيه حرج ، ولا أريد بنا فيه العسر ، وأما في شرع من قبلنا فقد تكون
المشقة مطلوبة ، وكثير من العباد يرى جنس المشقة والألم والتعب مطلوباً مقرباً
إلى الله ، لما فيه من نفرة النفس عن اللذات والركون إلى الدنيا ، وانقطاع
القلب عن علاقة الجسد ، وهذا من جنس زهد الصابئة والهند وغيرهم "
[6].
ثانياً :
النيات في العبادات معتبرة في الشرع ، فلا يصلح منها إلا ما وافق الشرع ، قال
الإمام الشاطبي – رحمه الله : " إذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد
الشارع من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة ، وكل قصد يخالف قصد
الشارع باطل ، فالقصد إلى المشقة باطل ، فهو إذاً من قبيل ما ينهى عنه ، وما
ينهى عنه لا ثواب فيه ، بل فيه الإثم إن ارتفع النهي إلى درجة التحريم ، فطلب
الأجر بقصد الدخول في المشقة قصد مناقض " [7] وقال أيضا : "
ونهيه عن التشديد – أي النبي عليه الصلاة والسلام – شهير في الشريعة ، بحيث صار
أصلاً قطعياً ، فإذا لم يكن من قصد الشارع التشديد على النفس ، كان قصد المكلف
إليه مضاداً لما قصد الشارع من التخفيف المعلوم المقطوع به ، فإذا خالف قصده
قصد الشارع بطل ولم يصح ، هذا واضح وبالله التوفيق " [8]
ثالثاً :
باستقراء الأدلة الشرعية فإن الشارع لم يقصد إلى التكاليف بالمشاق والإعنات ،
لقوله تعالى { ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } ، وقوله { ربنا ولا
تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا } ، وقوله { لا يكلف الله نفساً
إلا وسعها } وقوله { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } ، وقوله { وما
جعل عليكم في الدين من حرج } وقوله { يريد الله أن يخفف عنكم } وقوله – صلى
الله عليه وسلم - : " بعثت بالحنيفية السمحة "[9] " وما خير
بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً "[10]
رابعاً :
لو قصد الشارع التكاليف بالمشقة لما حصل الترخيص ، فالرخص الشرعية أمر مقطوع به
، ومعلوم من الدين بالضرورة ، وهي لرفع الحرج والمشقة الواقعة على المكلفين ،
كرخص القصر ، والفطر والجمع بين الصلاتين .
خامساً :
ثبت في شريعتنا ما يمنع من التكلف والتنطع في دين الله ، لقوله تعالى { وما أنا
من المتكلفين } وقوله – صلى الله عليه وسلم - : " اكلفوا من الأعمال ما تطيقون
فإن الله لا يملّ حتى تملوا " [11].
سادساً :
نقل الإمام الشاطبي الإجماع على عدم وجود التكليف بالمشاق غير المعتادة في
الشريعة [12].
سابعاً :
لو قصدت المشقة في كل مرة وداوم عليها المكلف ، لوجدت مشقة غير معتادة وحرج
كبير ، ممّا يفضي إلى ترك العبادة بالكلية والانقطاع عنها ، وهذا النوع لم تأت
به الشريعة الإسلامية ، فشرع الله جل وعلا لنا الرفق والأخذ من الأعمال بما لا
يحصِّل مللاً ، ونبّه النبي – صلى الله عليه وسلم – على ذلك فقال : " القصد
القصد تبلغوا "[13] لذلك نهى النبي – صلى الله عليه وسلم –
عن التنطع وقال : " هلك المتنطعون "
أما استدلالهم بحديث : " بني سلمة
دياركم تكتب آثاركم " فالجواب عليه من وجهين :
الوجه الأول :
قال الإمام الشاطبي : " إن هذه أخبار
آحاد في قضية واحدة لا ينتظم منها استقراء قطعي ، والظنيات لا تعارض القطعيات ،
فإن ما نحن فيه من قبيل القطعيات "[14]
الوجه الثاني :
الحديث لا دليل فيه على قصد نفس المشقة ، فقد جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري
ما يفسره فإنه – صلى الله عليه وسلم – : " كره أن تُعرّى المدينة قِبَل ذلك ،
لئلا تخلو ناحيتهم من حراستها "
قلت : فلا حجة لمن تعلق ببعض النصوص واستدل بها على تقصد المشقة في العبادات ،
وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم – فمن زاغ عن هذا المنهج يخشى عليه
في دينه ، قال الله تعالى { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو
يصيبهم عذاب أليم } ، والفتنة كما قال العلماء هي الشرك ، نسأل الله أن يحيينا
على سنة نبيه وأن يميتنا عليها إنه ولي ذلك والقادر عليه .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ،،
------------------------------------------ [1] رواه الحاكم في المستدرك 1/472 وقال: " صحيح على شرطهما
" وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/13:" صحيح " [2] صحيح مسلم 665 . [3] صحيح مسلم 2670 . [4] صحيح البخاري 7241 . [5] البخاري 6704 . [6] مجموع الفتاوى 10/622-623. [7] الموافقات 2/.222 [8] الموافقات 2/.229 [9] أخرجه أحمد 6/116 وسنده حسن . [10] البخاري 3560 [11] صحيح الجامع 1228 [12] الموافقات 2/212 [13] البخاري في الصحيح 6463 [14] الموافقات 2/225