ولست أدعي بأن هذا حال جميع شباب الدعوة الصحوة المباركة ، فحاشا لله أن أقول
مثل هذا القول ، فإن هناك الكثير من الشباب الناضج الذي تقلب في الدعوة إلى
الله آناء الليل وأطراف النهار ، ونهل من العلم وتوجه إلى حلقاته ، وترك لذة
النوم وهجر الفراش ، في وقت يهجع فيه الكثيرون ، وزاحم العلماء وطلبة العلم
بالركب ، فهو كالغيث أينما حل نفع : في منزله ، في مسجده ، في سوقه في مجتمعه .
فأحببت في هذه الكلمات أن أضع النقاط على الحروف ، وأبين الداء وأصف الدواء لعل
الله جل وعلا أن ينفعنا بما نقول إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ومن المظاهر السيئة التي التصقت ببعض
شباب الصحوة ما يلي :
1 . الزهد في طلب العلم :
من المعلوم أنه لن يعود للمسلمين عزتهم إلا بالانطلاق من الكتاب والسنة الصحيحة
وما كان عليه سلف هذه الأمة ، وقد أرشدنا الله إلى تقديم العلم على العمل قال
تعالى { فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك }، ومن ثم يكون العمل به
والدعوة إليه ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : " عليكم بالعلم فإن
تعليمه حسنة ، وطلبه عبادة ، ومذاكرته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه لمن
لا يعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربة "[1] ، وفي هذا الزمان عزف الكثير من الشباب
عن طلب العلم ، وزهد فيه ، فقصرت هممهم وركنوا إلى الحماسة وإثارة العواطف ،
دون تأصيل وتأسيس ، واقتصر الكثير منهم على مراجعة مسألة أو مسألتين ، فإذا كان
في مجلس تكبر على الحاضرين وأثار مسألة البحث ، ليظهر علمه ، وقد قيل : " العلم
ثلاثة أشبار ، من دخل الشبر الأول : تكبر ، ومن دخل الشبر الثاني : تواضع ، ومن
دخل في الشبر الثالث : علم أنه ما يعلم " .[2]
قال الحافظ الذهبي – رحمه الله - : " فالذي يحتاج إليه الحافظ أن يكون تقياً
ذكياً ، نحوياً لغوياً ، زكياً حيياً سلفياً ، يكفيه أن يكتب بيديه مئتي مجلد ،
ويحصل من الدواوين المعتبرة خمس مئة مجلد ، وأن لا يفتر من طلب العلم إلى
الممات بنية خالصة وتواضع ، وإلا فلا يَتَعَنَّ "[3]
قلت : رحمك الله يا إمام ، كيف لو نظرت إلى حال المسلمين اليوم ، ورأيت الجهل
عند الكثير من المنتسبين إلى الدعوة ، الذين أصبح شغلهم الشاغل تتبع عورات
العلماء ، والتفتيش عن زلاتهم ، والتطاول عليهم ، والاتكاء على الأرائك وتصنيف
الناس بظلم وعدوان ، فلست أشك أيها الإمام في أنك سوف تكبر أربع تكبيرات بلا
ركوع وبلا سجود وتسليمة عن يمينك على هؤلاء !!
ولا يمكن للإنسان المسلم أن يفهم دينه ويعمل به ، إلا إذا عرف أحكامه ، وأولاها
اهتمامه وعنايته ، وبذل جهده وطاقته للإلمام بها ، فكيف يعرف المسلم أن هذا
الماء طاهر أو نجس ، وأن هذا الماء يجوز التوضؤ فيه أو لا ، وأن هذا الطعام أو
الإناء أو الصيد أو اللباس مباح أو حرام أو مكروه أو مستحب ، وكيف نعرف أن
اقتناء هذا المال أو إنفاقه حرام أم حلال ، وكيف نهتدي إلى العبادات ونعرف
أوقات الصلوات ومستحباتها و مكروهاتها ومبطلاتها ، وكيف نقيم الحدود و
المعاملات فيما بيننا ، وكيف نبني الحياة الزوجية على منهج الله وسنة رسوله –
صلى الله عليه وسلم - .
فالعلم الشرعي ليس مقتصراً على النواحي التعبدية كما يزعم بعض الناس ، بل إنه
علم يربط المخلوق بخالقه برباط متين ، ويقيم أفضل العلاقات بين الإنسان وأهله
وأقاربه ، وبين الإنسان وأخيه ، بل أرشدنا هذا الدين كيف نعامل الحيوان الأعجم
بالرفق والرحمة والإحسان ، قبل أن يتظاهر الغرب بالرفق بالحيوان ، وهي لم ترفق
بعد بالإنسان ولم ترع حقوقه ، وما المجازر التي ارتكبت في الشيشان منا ببعيد .
كما أن العالم بأحكام الشريعة له من الفضيلة والمنـزلة ما ليس للجاهل ، قال
الإمام القرطبي – رحمه الله – في تفسير قوله تعالى { يسألونك ماذا أحل لهم قل
أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله } [4]: "
وفي هذه الآية دليل على أن العلم له من الفضيلة ما ليس للجاهل ، لأن الكلب إذا
علِّم يكون له فضيلة على سائر الكلاب ، فالإنسان إذا كان له علم أولى أن يكون
له فضل على سائر الناس ، لا سيما إذا عمل بما علم " .
قال ابن القيم – رحمه الله - : " العلماء هم الذين يسوسون العباد والبلاد
والممالك ، فموتهم فساد لنظام العالم ولهذا لا يزال الله يغرس في هذا الدين
منهم خالفاً عن سالف يحفظ بهم دينه وكتابه وعباده ، وتأمل إذا كان في الوجود
رجل قد فاق العالم في الغنى والكرم ، وحاجتهم إلى ما عنده شديدة وهو محسن إليهم
بكل ممكن ثم مات وانقطعت عنهم تلك المادة ، فموت العالم أعظم مصيبة من موت مثل
هذا بكثير ، ومثل هذا يموت بموته أمم وخلائق كما قيل :
تعلــم ما الرزيــة فقــد مـــال ولا شاة تمـوت ولا بعيــر
ولكن الرزيـــة فقــد حــر يمـوت بموتـه بشـر كثيـر "
ا.هـ[5]
ولا ينبغي على المسلم أن يستنكف من حفظ آية أو حديث واحد ، فإن للعلم الشرعي
بركة تعصم الإنسان من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، فهذا الصحابي الجليل أبو
بكرة قد عصمه من القتال في الفتنة بفضل حديث واحد سمعه بأذنه ووعاه بقلبه
وجوارحه من رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وذلك حينما خرجت الصديقة عائشة
– رضي الله عنها – للإصلاح بين الناس فتسارعت الأحداث ونشب القتال فيما بينهم ،
فلما أراد أبو بكرة – رضي الله عنه – اللحاق بركب عائشة تذكر حديث النبي – صلى
الله عليه وسلم – وذلك كما أخرجه البخاري في صحيحه (7099 ) عن أبي بكرة – رضي
الله عنه – أنه قال : " لقد نفعني الله بكلمة أيام الجمل لما بلغ النبي – صلى
الله عليه وسلم – أن فارساً ملّكوا ابنة كسرى قال : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم
امرأة " فامتنع عن القتال ببركة حديث واحد سمعه من النبي – صلى الله عليه وسلم
- .
فينبغي على المسلم أن يتزود من العلم وأن يتدارسه مع نفسه وغيره ، وأن يطرد كل
فتور وكسل ، وأن يستغل وقته في طلب العلم ، قبل أن يبتلي بكثرة المشاغل ، وأن
يضع في معتقده أن طريق العلم طويل جدا ، وقد صح عن النبي – صلى الله عليه وسلم
– أنه قال : " منهومان لا يشبعان : طالب علم وطالب دنيا " [6]وقد قيل لعبد الله
بن المبارك – رحمه الله - : " لو بعثت بعد موتك ماذا تفعل ؟ قال : أطلب العلم
حتى يأتيني ملك الموت مرة ثانية "
2 . وقوعهم في التقليد وسقوطهم فيما
عابوا عليه أهل المذاهب الفقهية :
ويلاحظ وقوع بعض الشباب في شَرَك
التقليد ، والتعصب لأقوال بعض أوعية أهل العلم المعاصرين ، والأخذ بها دون
معرفة للأدلة الشرعية وكيفية الاستدلال بها ، وتعظيم أقوالهم بحيث تقدم على
النصوص الشرعية أحياناً ، والتزام أقوالهم ونبذ ما سواها ، مدعين بأن هؤلاء
العلماء المعاصرين أعلم بالنصوص وربما اطلعوا على شئ لم يطلع عليه السابقون ،
وربما كان هذا الدليل منسوخاً ، بل وصل الأمر إلى تسفيه آراء العلماء المتقدمين
، أو عدم الاهتمام بها ، وغمط أصحاب العلم حقهم ، وإلى تخطئتهم مع أنهم من
أكابر العلماء ، بل قد يكونون من الصحابة ، وقد يكون قولهم أرجح دليلاً ، فلو
تعارض قول للإمام أحمد مع أحد العلماء المعاصرين على سبيل المثال ، لأخذوا برأي
العالم المعاصر لا لشيء سوى التعصب لهؤلاء الأئمة ، ويزعمون بأنهم لم يأخذوا
بأقوالهم إلا بسبب ثقتهم في هؤلاء العلماء ، وتعظيمهم لأهل العلم ، ولا شك أن
هذا التعظيم والتوقير ليس من النوع الذي شرعه الله عز ، وإلا لكان الجميع فيه
سواء ، ونسى هؤلاء الشباب أن الحق لا يعرف بالرجال وإنما الرجال يعرفون به ،
وانه لا يجوز التعصب لزيد أو عمرو ، ولا لرأي فلان أو علان ، ولا لحزب أو طريقة
أو جماعة ، بل يجب اتباع كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – في جميع
الأحوال ، في الشدة والرخاء ، في العسر واليسر ، في السفر والإقامة ، وعند
اختلاف العلماء ينظر في أقوالهم ، ويؤيد منها ما وافق الدليل من دون تعصب لأحد
من الناس ، ولا يجوز أبداً التعصب لواحد مطلقاً .
ولا يفهم من هذا الكلام بأن التقليد لا يجوز بشكل عام ، فالحق أن التقليد جائز
في الجملة والاجتهاد جائز في الجملة ، فالتقليد جائز للعامة الذين لا قدرة لهم
على النظر في الأدلة واستنباط الأحكام منها ، قال ابن عبد البر – رحمه الله - :
" ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها ، وأنهم المرادون بقول الله
عز وجل { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } وأجمعوا أن الأعمى لا بد له من
تقليد غيره ممّن يثق بميزه القبلة إذا أشكلت عليه ، فكذلك من لا علم له ولا بصر
بمعنى ما يدين به لا بد له من تقليد عالمه " [7]
قلت : فتوى العالم تكون بمحل الأدلة الشرعية بالنسبة للجاهل ، فيجوز تقليد من
عُرف بالعلم والاجتهاد من أهل الدين والصلاح ، والله أعلم .
أما من فهم الدليل وعرف الحق فلا يجوز له التقليد ، بل الواجب عليه اتباع ما
تبيَّنَتْ له صحته ، خاصة إذا كان في التقليد مخالفة واضحة للنصوص الشرعية أو
لإجماع الأمة .
فمن أراد الالتزام بقول عالم من
العلماء فعليه أن يراعي الضوابط التالية:
الضابط الأول :
أن لا يكون هذا الالتزام سبيلا لاتخاذ هذا المذهب دعوة يُدعى إليها ، ويوالي
ويعادي عليها ، مما يؤدي إلى الخروج عن جماعة المسلمين ، وتفريق وحدة صفهم ،
فإن أهل البدع هم الذين ينصِّبون لهم شخصاً أو كلاماً يدعون إليه ويوالون به
ويعادون عليه .
أما أهل السنة والجماعة فإنهم لا يدعون إلا اتباع كتاب الله وسنة رسوله – صلى
الله عليه وسلم – وما اتفقت عليه الأمة ، فهذه أصول معصومة دون ما سواها .
الضابط الثاني :
ألا يعتقد أنه يجب على جميع الناس اتباع واحد بعينه من الأئمة دون الآخر ، قال
شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : " فمن تعصب لمالك أو الشافعي أو أحمد أو
أبي حنيفة ، ويرى أن قول هذا المعين هو الصواب الذي ينبغي اتباعه دون قول
الإمام الذي خالفه ، فمن فعل هذا كان جاهلاً ضالاَ : بل قد يكون كافراً ، فإنه
متى اعتقد أنه يجب على الناس اتباع واحد بعينه من هؤلاء الأئمة دون الإمام
الآخر فإنه يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل ، بل غاية ما يقال : إنه يسوغ أو ينبغي
أو يجب على العامي أن يقلد واحداً لا بعينه ، من غير تعيين زيد ولا عمرو" [8]
الضابط الثالث :
أن يعتقد أن هذا الإمام الذي التزم مذهبه ليس له من الطاعة إلا لأنه مبلغ عن
الله دينه وشرعه ، وإنما تجب الطاعة المطلقة العامة لله ولرسوله – صلى الله
عليه وسلم – .
الضابط الرابع :
أن يحترز من الوقوع في شيء من المحاذير الآتية :
المحذور الأول : التعصب والتفرق .
المحذور الثاني : الاعراض عن الكتاب والسنة .
المحذور الثالث : الانتصار للأقوال بالأحاديث الضعيفة والموضوعة .
المحذور الرابع : تنزيل الإمام المتبوع منزلة النبي – صلى الله عليه وسلم - قال
شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : " أما وجوب اتباع القائل في كل ما يقوله
، من غير ذكر دليل يدل على صحة ما يقول فليس بصحيح ، بل هذه المرتبة هي مرتبة
الرسول التي لا تصلح إلا له "[9]
3. عدم تقديم الأولويات في طلب العلم
:
هناك قاعدة قعّدها أهل العلم تنص على أنه : " من استعجل الشيء قبل أوانه فإنه
قد يعاقب بحرمانه " ، وهذه القاعدة نستطيع أن ننزّلها على واقع الكثير من
الشباب الذي لم يتدرج في طلب العلم الشرعي ، فترى الكثير منهم يزاحم طلاب العلم
في حلقات العلم ، وما هي إلا مدة قصيرة حتى ينقطع بالكلية عن الطلب ، بسبب أنه
لم يسلك الطريق القويم ، ولم يتدرج في طلب العلم ، والتدرج سنة من سنن الله في
الكون وهو موافق للشرع والعقل ، فترى الكثير منهم يوغل في أمور ومسائل فرضية قد
تكون نادرة الوقوع ، ويترك ما هو أهم وأولى .
دخل ابن جريج إلى مجلس عطاء بن السائب في أول طلبه للعلم ، وكان في المجلس أبو
عمير ، أحد الأئمة ، فقال عطاء لابن جريج : هل قرأتَ القرآن ؟ قال ابن جريج :
لا ، قال : فاذهب فاقرأه ثم اطلب العلم ، فذهب ابن جريج فغاب زمانا حتى قرأ
القرآن ، ثم جاء عطاء ، فقال عطاء :هل قرأت الفريضة ؟ قال ابن جريج : لا . قال
: فتعلم الفريضة ثم اطلب العلم ، فطلب الفريضة ، ثم جاءه ، فقال : الآن فاطلب
العلم . فلزم ابن جريج عطاء سبع عشرة سنة .
قلت : أرشده هذا الإمام ودله على تقديم الأولويات ، والتدرج في طلب العلم
الشرعي .
ويتصل بما سبق ما يلاحظ من قيام بعض الشباب بطلب العلم الشرعي ممّن لم ترسخ
قدمه فيه ، ومن صغار السن أحياناً ، مع وجود من هو أكبر منهم سناً وأرسخ علماً
، والتماس العلم عند الأصاغر ، وهذا الأمر قبل أخبر عنه المصطفى – صلى الله
عليه وسلم – بوقوعه في آخر الزمان وهو من علامات الساعة الصغرى كما في الحديث
الذي أخرجه ابن المبارك في " الزهد " " إن من أشراط الساعة ثلاثاً : إحداهن :
أن يُلتمس العلم عن الأصاغر ... " والحديث في صحيح الجامع للألباني – رحمه الله
- ، وقد قال ابن عمر – رضي الله عنهما - : " إنكم لن تزالوا بخير ما دام العلم
في كبراكم ، فإذا العلم في صغاركم سفّه الصغير الكبير " ، وهذا الأمر ليس على
إطلاقه ، فقد أفتى ودرّس جمع من الصحابة والتابعين في صغرهم بحضرة الأكابر ،
فإذا وُجِد الصغير وظهرت رصانته في العلم فليؤخذ منه ، ومن أراد العلم من
منابعه الأصلية فيبادر في أخذه من العلماء الكبار وليلزمهم قبل أن يفقدهم ،
وليس كل من وعظ موعظة بليغة أو ألقى محاضرة هادفة أصبح مجتهداً من المجتهدين ،
والحق أن ينزّل هؤلاء منزلتهم ، والشريعة جاءت بالعدل والتوسط في جميع الأمور .
ووصل الأمر إلى قيام بعض المبتدئين بالعلم أو ممّن لم ترسخ أقدامهم فيه إلى خوض
غمار التأليف فيما وصل إليه الأكابر ، وللعلامة الشيخ بكر أبو زيد كلاماً
نفيساً عن هؤلاء قال – حفظه الله - : " ومنه شغف المبتدئين بالتأليف ، والبداية
مَزِلة ، وهذا عين تشيّخ الصحفيّة ، إذ تعلمه حقيقة " مجذوباً " ، فتراه يخوض
غمار التأليف فيما وصل إليه الأكابر ، بعد قطع السنين ، في مُثافَنَةِ الأشياخ
، ومسك الدفاتر ، ثم يأتي هذا " المجذوب الطري " ، ويثافِنُ مؤلفاتهم ...
والمطابع تفرز كل يوم لنا قراطيس ورزماً ، إن لم يكن هذا هو الاحتراق في الغرور
، فما أدري له سبباً سواه ، فنعوذ بالله من هذه الفتنة الصماء ، وأنصح نفسي
وإخواني في الطلب ، وتحرير المسائل ، وضبط الأصول ، وجرد المطولات ، وكثرة
التلقي ، والدأب في التحصيل ، وأن لا يشغل المرء نفسه بالتأليف في مثاني الطلب
قبل التأهيل له ، فإن التأليف في هذه المرحلة يقطع سبيل العلم والتعلم ، ويعرض
المرء فيه نفسه قبل نضوجها ، والتأليف المقبول لا بد أن يكون بقلم من اتسعت
مداركه ، وطال جده وطلبه ، والصنعة بصانعها الحاذق ، ومعلمها البارع "
[10]انتهى.
4. أخطاء الشباب في اللباس :
لبس الثياب تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة ، الواجب والمندوب والمباح
والمكروه والمحرم ، فالواجب منه ما يستر به العورة ويدفع به الحر والبرد .
والمندوب إليه أو المباح ما يحصل به أصل الزينة وإظهار النعمة لا سيما في
الجُمع والأعياد ومجامع الناس إذا لم يكن للتكبر ، فقد أخرج الإمام أحمد في
مسنده عن أبي الأحوص عن أبيه قال : " دخلت على النبي – صلى الله عليه وسلم –
فرآني سيئ الهيئة فقال : ألك شيء ؟ قلت : نعم . مِن كل المال قد أتاني الله
تعالى فقال : إذا كان لك مال فَلْيُرَ عليك " [11]
والمكروه ما يكون مظنة للتكبر والخيلاء ، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن
النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : " كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير
إسراف ولا مخيلة " [12]
والمحرم ما يقصد به الكبر والخيلاء أو لبس الحرير والذهب أو الإسبال لقوله –
صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه ( 5787) من حديث
أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : " ما أسفل
من الكعبين من الإزار في النار "
وقد وقع المنتسبون إلى الدعوة إلى الله في محاذير شرعية بين إفراط وتفريط ،
وجنحوا عن الاعتدال والوسطية بسبب قلة فقههم وشطط فهمهم بدعوى الاتباع
والالتزام بتعاليم هذا الدين .
ومن مظاهر هذه المحاذير الشرعية في
اللباس ما يلي :
أولا : إسبال الثياب :
لجأت بعض الجماعات الإسلامية إلى تمييع قضايا الدين وتهميش تعاليمه ، فشحذوا
الهمم لإنشاء جيل مترف من الشباب بدون تصفية ولا تربية إسلامية ، حتى يكثروا
بهم السواد ، ولاستخدامهم لأغراضهم الحزبية ، فأجازوا لهم إسبال الثياب ،
هاجرين بذلك سنة نبيهم محمد – صلى الله عليه وسلم – المحذر من الإسبال في
أحاديث عديدة ، بلغت مبلغ التواتر المعنوي ، في الصحاح والسنن والمسانيد ،
والتي تفيد النهي الصريح الدالة على التحريم ،فالإسبال محرم مذموم شرعاً في حق
الرجال إن كان لغير الخيلاء ، وكبيرة من الكبائر إن كان للخيلاء ، لقوله – صلى
الله عليه وسلم – في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه " ما أسفل من الكعبين
من الإزار فهو في النار " وهذا الحديث يعمّ من أسبل ثيابه تكبراً أو لغير ذلك
من الأسباب .
وقد دلت النصوص الشرعية بأن مجرد الإسبال " خيلاء " ، فعن جابر بن سليم – رضي
الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : " وإياك والإسبال فإنه من
المخيلة " ، فمجرد الإسبال يستلزم الخيلاء ، حتى لو لم يقصد المسبل ذلك ،
فالمسلم ممنوع منه لكونه مظنة للخيلاء ، فمن لم يسبل للخيلاء فعمله وسيلة لذلك
، والوسائل لها حكم الغايات .
أما من جر ثوبه خيلاء صار الإثم و كبيرة من الكبائر لقوله – صلى الله عليه وسلم
- : " من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " .
لذا أنصح أخواني الشباب المنتسبين إلى هذه الجماعات تقديم قول الله ورسوله –
صلى الله عليه وسلم – على قول سأداهم وكبرائهم ،وأن ينتهوا عما نهى الله ورسوله
– صلى الله عليه وسلم – عنه ، وأن يرفعوا ثيابهم إلى الكعبين ، فإنه أنظف وأطهر
واتقى لربهم ، وأسأل الله التوفيق والرشاد لجميع المسلمين .
ثانياً : الإفراط في تقصير الثوب :
أفرط بعض الشباب في تقصير الثوب تديناً ، مخالفين بذلك بما عليه المجتمع المسلم
الذي يسير وفق السنة ، وهو كون اللباس إلى الكعبين ، وذلك لأنهم حملوا بعض
الأحاديث على غير محلها ونزلوها على غير منزلتها ، فلم يفهموها كما فهمها
الراسخون في العلم ، فتنطعوا في دين الله ، ظناً منهم أن هذا هو أقرب للسنة ،
وقد نص علماء الحنابلة – رحمهم الله – على كراهية تقصير الثوب إلى نصف الساق ،
لأن به إشهارا للنفس ، ومظنة لانكشاف العورة في الصلاة ، قال البهوتي – رحمه
الله - : " ويكره كون ثيابه فوق نصف ساقه " قال ابن قاسم – رحمه الله – في
حاشيته : " ولأن ما فوقه مجبلة لانكشاف العورة غالبا ، وإشهار لنفسه ، ويتأذى
الساقان بحر أو برد ، فينبغي كونه من نصفه إلى الكعب ، لبعده عن النجاسة ،
والزهو والإعجاب "[13] ا.هـ .
قال ابن مفلح الحنبلي – رحمه الله - : " ويكره فوق نصف ساقيه ، نُصّ عليه ،
وقال أيضاً : يشهر نفسه " [14]
قلت : من الأسباب التي أدت لإفراط الشباب في تقصير الثوب إلى نصف عضلة الساقين
ما يلي :
1 : عدم تفريقهم بين الثوب والإزار :
الثوب ليس كالإزار معنى ولا وصفاً ولا حكماً ، فالثوب هو القميص وهو ما يلبس
على الجلد من قطن وكتان ، وله جيب وكمان ، لذا لا يجوز للمحرم أن يحرم بقميص أو
ثوب ، بينما يشرع له أن يحرم بإزار ، والإزار هو ما يتزر به ، ويكون ثابتا على
النصف الأسفل من البدن من السرة فما دون ، فالروايات التي جاءت بالسنة المطهرة
التي تحكي بأن يكون اللباس في حق الرجال إلى عضلة الساقين أو إلى أنصافهما ،
وفي بعض الروايات إلى الكعبين ، إنما جاءت كلها بلفظ " الإزار " ، قال العلامة
بكر أبو زيد – حفظه الله - : " إن ألفاظ الروايات بجعل الإزار إلى عضلة الساقين
أو إلى أنصاف الساقين كلها جاءت بلفظ " الإزار " ولم أقف على شيء منها بلفظ "
الثوب " فلنقف بالنص على لفظه ومورده ... وقال أيضاً : الإزار ثابت على النصف
الأسفل من البدن من السرة فما دون ، فلا يرتفع عند الركوع والسجود ، أما الثوب
فإذا كان طوله وطرفه إلى عضلة الساقين ، أو إلى أنصاف الساقين ، فإنه مع الركوع
والسجود تحمله الكتفان والظهر ، فينجر إلى أعلى ، ويكون كشف مؤخرة الفخذ مئنة ،
أو مظنة قوية لانكشاف العورة ، ولو انكشفت عورته وهو يصلي لبطلت صلاته "[15]
ا.هـ.
2 : عدم مراعاة المعتاد في لباس عرف البلاد مما لا يخالف الشرع :
عدم مراعاة بعض الشباب المعتاد في لباس عرف بلادهم مما لا يخالف الشرع ، يفضي
إلى مفسدة عظيمة، وهو العجب الذي يأخذ صفة التدين، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن
تيمية – رحمه الله - : " يحرم لبس الشهرة، وهو ما قصد به الارتفاع ، وإظهار
الترفع ، أو إظهار التواضع والزهد ، لكراهة السلف ذلك " ا.هـ.
وقال ابن النجار الحنبلي – رحمه الله - : " ويكره أن يلبس خلاف زي بلده بلا عذر
، وثوب الشهرة ما يشتهر به عند الناس ويشار إليه بالأصابع ، لئلا يكون ذلك
سبباً إلى حمله على غيبة فيشاركهم في إثم الغيبة ، ويروى عن أبي هريرة مرفوعاً
: " أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نهى عن الشهرتين فقيل : يا رسول الله
وما الشهرتان ؟ قال : رقة الثياب وغلظها ، ولينها وخشونتها ، وطولها وقصرها ،
ولكن سداداً بين ذلك واقتصاداً "[16]... وكان الحسن يقول : إن قوما جعلوا
خشوعهم في لباسهم ، وشهروا أنفسهم بلباس الصوف ، حتى أن أحدهم بما يلبس من
الصوف أعظم كبراً من صاحب المطرف بمطرفه .
وقال في الرعاية : ليس التواضع في اللباس ولبس البياض والنظافة في بدنه وثوبه ،
مجلسه ، والتطيب في ثوبه وبدنه ، والتحنك والذؤابة وإرسالها خلفه " [17] ا.هـ
وأسوق كلاما لفضيلة الشيخ العلامة بكر أبو زيد – حفظه الله – بنصه وبحروفه
كاملاً لقوة حججه وبيانه فقد قال أثابه الله : " ونقل القاضي عياض عن العلماء
:" أن الإسبال كل ما زاد عن المعتاد في اللباس في الطول والسعة "[18]وقال ابن
عقيل : لا ينبغي الخروج من عادات الناس إلا في الحرام " وقال السفاريني : "
شهرة لابس : له بمخالفة زي بلده ونحو ذلك ... ولأن لباس الشهرة ربما يزري
بصاحبه وينقص مروءته ، ثم ذكر عن صاحب " الغنية " للجيلاني قوله : " ومن اللباس
المنزه عنه كل لبسه يكون بها مشتهراً بين الناس ، كالخروج من عادة بلده وعشيرته
، فينبغي أن يلبس ما يلبسون ، لئلا يشار إليه بالأصبع ، ويكون ذلك سبباً إلى
حملهم على غيبته ، فيشركهم في إثم الغيبة "
وذكر أن الإمام أحمد – رحمه الله – رأى رجلاً لابساً بُرْداً مخططا ، : بياضا
وسوادا ، فقال ضع هذا والبس لباس أهل بلدك ، وقال : ليس هو بحرام ، ولو كنت
بمكة أو المدينة لم أعب عليك ، قال الناظم لأنه لباسهم هناك"
ثالثاً : الاسترسال والترفه والمبالغة
في لبس الغالي من الثياب :
أفرط بعض الشباب في الأخذ بالمباحات والاسترسال في التنعم الزائد والرفاهية
،والمبالغة في لبس الغالي والنفيس من الثياب ، فتأنثت طباعهم وتبلدت أحاسيسهم
ولان دينهم ، وانشغل بالتأنق في ملبسه ، ونسىقول النبي – صلى الله عليه وسلم –
" البذاذة من الإيمان " [19]، أي التقشف والتواضع في اللباس وترك الافتخار به ،
ولم يأخذوا بوصية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - : " وإياكم
والتنعم ، وزي العجم وتمعددوا واخشوشنوا "[20] ، فقد كان السلف الصالح من
الصحابة والتابعين والعلماء المتقين متورعين عن الإسراف في المباحات ، فتركوا
الترفه في المطعم والمشرب والمركب والمسكن ، والتوسع في المباحات قد يكون
مورثاً للأخلاق السيئة ، وترك الخصال الحميدة ، لذلك قال القاضي عياض – رحمه
الله - : " جُعل الشرُّ كله في بيت ، وجُعل مفتاحه حب الدنيا ، وجعل الخير كله
في بيت ، وجعل مفتاحه الزهد "[21]، وقال الكتاني الصوفي : " الشيء الذي لم
يخالف فيه كوفي ولا مدني ، ولا عراقي ولا شامي ، الزهد في الدنيا ، وسخاوة
النفس ، والنصيحة للخلق " [22]
ولا يفهم من ذلك أننا نحرم ما أحله الله ، ولقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم
– يحب الحلواء والعسل ، وكان يستعذب له الماء ، ويتطيب بالمسك ، ولكننا نقصد
المبالغة في الترفه ، والاهتمام الزائد بالمظهر ، و الاسترسال في الأخذ
بالمباحات والإفراط في التنعم ، إذ أن هذا ليس سمتاً للصالحين ، والحلية في
الظاهر تدل على ميل في الباطن ، لذلك فإن الإسراف والمبالغة في لبس الغالي من
الثياب فيه تشبه لأهل الأهواء وطالبي الدنيا ، فأصبح بعض الدعاة مشابهين في
الهدي الظاهر والمظهر والسلوك مع أهل الدنيا ، وهذا التشابه يورث شعوراً واضحاً
وقويا بالتقارب والتعاطف والتواد ، وهذا ما أكده الشرع ووافقه العقل ، لقوله –
صلى الله عليه وسلم - : " من تشبه بقوم فهو منهم " .
فينبغي على المنتسبين إلى الدعوة عدم الاسترسال في الترفه والمبالغة بحسن
المظهر ، وتقصد لباس التنعم والرفاهية ، وليأخذوا من اللباس ما يزينهم ولا
يشينهم ، وليس معنى هذا أن أن ندعوهم إلى لبس المشوه والممتهن من الثياب ، بل
المطلوب الاقتصاد في اللباس بما يوافق الشرع ، وهو اللبس الذي لا يجعل في لابسه
مقالاً لقائل ، ولا لمزاً للامز ، وأن يتوافق اللباس بما لديهم على شرف حمل
العلم الشرعي ، فهو أدعى لتعظيمهم لهذا العلم والانتفاع به ، والله أعلم .
رابعاً : تقصير الثوب وإطالة السراويل
:
أساء بعض الشباب هداهم الله إلى هذا الدين ، بسبب سوء مظهرهم ، فلم يراعوا حسن
الهيئة وتناسب اللباس ، وخرجوا بذلك عن الأعراف التي تخالف الشرع المطهر ،
فأعطوا المجال للمستهزئين واللامزين المخذِّلين للإنتقاص منهم والاستهزاء بهم ،
بسبب خطأ وشطط فهمهم لهذا الدين الحنيف ، فقصّروا ثيابهم وأطالوا سراويلهم ،
ولم يعلموا أن الإسبال يكون في كل ما يلبس من إزار أو ثوب أو حلة أو كساء أو
عباءة أو سراويل إلى غير ذلك مما يلبسه الرجال ، مخالفين بذلك قوله – صلى الله
عليه وسلم – في الحديث الذي أخرجه أبو داود في سننه أنه قال : " الإسبال في
الإزار والقميص والعمامة ، من جر منها شيئاً خيلاء لم ينظر الله إليه يوم
القيامة " ( صحيح أبي داود للألباني 3450)