|
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد فإن أعظم مصيبة تقع على المرء ، مصيبته في دينه ، لأن عاقبتها لا
تزول بزواله ، بخلاف مصيبات الحياة والمعاش ، فإنها مهما عظمت فمصيرها حتما
إلى زوال ، إما بموت وإما بتغير حال .
وأما مصيبة الدين فإن ضررها باق ، وأثرها دائم ، إلا أن يشاء الله بعفو منه
ومغفرة ، تمحو أثرها ، وتقيل عثرتها.
وقد تواتر ذكر الفتنة في نصوص القرآن والسنة ، تحذيراً وتخويفاً من الوقوع
فيها ، وبياناً لعظيم خطرها ، وتبكيتاً لدعاتها من أهل الكفر والنفاق
والبدعة.
ومن الفتن ما يكون عاماً ، وهو أخطرها وأنكاها.
ومن الفتن ما هو خاص ، ويقتصر شره على صاحبه ، كفتنة الرجل في أهله وولده
وماله وجاره.
ولأن الكلام على الفتنة وأقسامها يطول جداً ، فسأختصر الكلام على ذكر بعض
الفتن العامة.
1/ فتنة الكفر والشرك:
قال تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن
سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة
أكبر من القتل}.
فالفتنة الموصوفة هنا بأنها أكبر من القتل ، هي فتنة الكفر وما يتبعها ، من
الصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام..الخ .
وقال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب
أليم}.
أي أن يصيبهم : كفر أو نفاق أو بدعة.
وقد شاع الكفر البواح والشرك الصراح في كل بلاد الإسلام ، وأمن أصحابه حتى
من مجرد المساءلة ، وربما عوقب من ينكر الكفر والشرك ، وأوذي في نفسه وماله
ورزقه.
2/ فتنة النفاق:
وهي أعظم الفتن على الإطلاق ، قال تعالى: {لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا
لك الأمور}.
أي : أعملوا فكرهم في كيدك وكيد أصحابك وخذلان دينك وإخماده.
قلت : ولا أضر على الإسلام وأهله من المنافقين في كل زمان ، فلهم في كل
فتنة يد ولسان.
وهم أشكال وألوان :
أ _ فمنهم أمراء ورؤساء متنفذون ، وهؤلاء قد
ورد التحذير منهم في الآثار.
فجاء وصفهم في الصحيح بأنهم (دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه
فيها).
ووصفوا كذلك بـ (الأئمة المضلين).
وهؤلاء قد ظهروا في القرون السالفة ، وكثروا في زماننا ، حيث ابتليت بلاد
الإسلام برؤساء لا يقيمون للدين وزناً ، ولا يرفعون بالإسلام رأساً ، ثم
زادوا على ذلك النفاق بظلمهم للعباد ، مقلدين في ذلك الأمر سلفهم سيئ الذكر
فرعون الملعون.
ب _ ومنهم منتسبون إلى العلم والدين ، ممن
اتخذوا الدين مطية للظفر بحظوظ الدنيا: من رئاسات ومناصب وجاه ومال ، حتى
إنهم ليتنافسون فيها ، ويحصل منهم من الحسد والبغي مالا تكاد تجد مثله عند
جهال العوام.
وتجد منهم من يسارع في التزلف للأمراء ، على حساب دينه ، ليبلغ عندهم منزلة
، ويصيب عرضا من الدنيا.
وفتنة مداهنة العلماء للسلطان من أظهر الفتن في هذا الزمان ، وقد صح في
الحديث (من أتى أبواب السلطان افتتن).
وربما تذرع بعض أولئك بنصوص السمع والطاعة للسلطان في المنشط والمكره
واليسر والعسر.
وهي حق ، ولا ينبغي أن تقابل بالطعن فيها ، ولا بتأويلها بحسب الأهواء ،
كما يصنع بعض الخطباء اليوم.
لكن تلك النصوص قد قيدت بقيد متين : وهو الطاعة في المعروف ، وعدم المتابعة
في الظلم والمعصية.
وقد صرح في بعض النصوص بأن: (من أنكر فقد برئ ، ومن كره فقد سلم ، ولكن من
رضي وتابع). رواه مسلم.
وقال تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا
تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون}.
وقد جاء ذكر الفتنة من قبل هذين الصنفين : الأمراء والعلماء ، في حديث عمر
مرفوعا (أتاني جبريل فقال : إن أمتك مفتتنة من بعدك.
فقلت : من أين ؟ قال : من قبل أمرائهم وقرائهم ، يمنع الأمراء الناس الحقوق
فيطلبون حقوقهم فيفتنون ، ويتبع القراء هؤلاء الأمراء فيفتنون.
قلت : فكيف يسلم من سلم منهم ؟
قال : بالكف والصبر ، إن أعطوا الذي لهم أخذوه ، وإن منعوه تركوه).
ذكره الحافظ في الفتح [ 13 / 9 ] ، وعزاه إلى الإسماعيلي.
قال سمير : فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن النجاة من فتنتهم
تكون بأمرين:
بالكف عن منابذتهم ، والصبر على جورهم.
وكل فتنة صغيرة أو كبيرة ، عامة أو خاصة ، إنما تدفع بالصبر ، فإنه مفتاح
كل خير ، وهو أوسع عطاء للمسلم.
3/ فتنة الشبهات:
وأصحاب هذه الفتنة هم دعاة الفرق والملل المنحرفة عن صراط الإسلام والسنة.
وأكثر بلاء هذه الأمة كان بسببهم ، وقد حذرت منهم النصوص والآثار أشد
تحذير.
وأول فتنة هؤلاء كانت من قبل الخوارج ، والأحاديث فيهم مشهورة.
وكل من خرج على الأمة بالسيف ، أو خرج عن مذهبها بالرأي ، فله حظ من ذلك
الوصف (الخوارج).
وقد افترقت الأمة إلى أهواء وفرق ، ثم افترقت كل فرقة إلى فرق ، ثم تنوعت ،
وكثرت وانتشرت ، وفتنت الأمة بسببها أعظم الفتن ، حتى غدا الحق غريبا ، لا
يكاد يعرف ، إلا من هداه الله إليه ، ووفقه للثبات عليه.
وفتنة الشبهات في الدين لا حصر لها ، فهي تعرض على الأمة صباح مساء.
وقد تعرض على المرء فتنة ، فينكرها قلبه ، ثم تعرض عليه أخرى فيرضاها.
وكم رأينا من انتكس بعد استقامة ، وتنكب بعد إمامة ، نسأل الله الهداية
والثبات حتى الممات.
وقد صح في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تعرض الفتن على
القلوب كالحصير عوداً عوداً ، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء ، وأي قلب
أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء ، حتى تصير على قلبين : على أبيض مثل الصفا ،
فلا تضره فتنة مادامت السموات والأرض ، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا ،
لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه). رواه مسلم .
فبين أن تتابع الفتن على القلوب يصيرها على قلبين : قلب أبيض ، وهو ما خلص
فيه اليقين والإيمان ، فلا تضره الفتن الحادثة ، على مر الزمان ، لأنه قد
اجتاز قنطرة الامتحان.
وأما الآخر فهو أسود ، مرباد _ أي صار بلون الرماد _ كالكوز المنكوس.
والحديث لا يختص بفتنة الشبهات ، بل يدخل فيه غيرها ، كالفتن العامة في
الأمة ، والخاصة في الأفراد: كفتنة المال والأهل والأولاد.
وفتنة الشبهات تدفع باليقين ، وفتنة الشهوات تدفع بالصبر ، وبهذين تنال
الإمامة في الدين.
قال تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا
يوقنون}.
4/ فتنة الشهوات:
وهذه أيضا من أعظم الفتن ، وهي من مصائد إبليس ، التي ينصبها لبني آدم ،
وهي أنواع كثيرة ، ولا يكاد ينجو من الوقوع فيها أحد ، لأن النفس البشرية _
لضعفها _ تميل إليها بطبعها.
قال الله تعالى: {والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن
تميلوا ميلا عظيما * يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا}.
وبسبب هذا النوع من الفتن يقع الظلم والبغي واستحلال المحرمات ، بل ويقع
الكفر والشرك أيضا.
5/ فتنة الهرج:
وقد تواترت النصوص على التحذير من فتنة الخروج بالسيف وقتال المسلمين ،
والذي كثيراً ما يكون بسبب النزاع على الولاية والإمارة ، أو بسبب عدم
الصبر على جور الولاة ، فينقسم الناس فيها ، ويقع الهرج الذي سماه النبي
صلى الله عليه وسلم : القتل.
وقد تواترت النصوص المحذرة من هذه الفتنة ، فمنها :
1 _ حديث (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم
رقاب بعض). متفق عليه .
2 _ وتكرر قوله صلى الله عليه وسلم في خطبه
في حجة الوداع (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام..). متفق عليه.
3 _ حديث (من حمل علينا السلاح فليس منا).
متفق عليه .
4 _ حديث (إذا التقى المسلمان بسيفيهما
فالقاتل والمقتول في النار). متفق عليه .
5 _ حديث ( .. ومن قاتل تحت راية عمية يغضب
لعصبة أو يدعو إلى عصبة ، أو ينصر عصبة ، فقتل ، فقتلة جاهلية). رواه مسلم.
6 _ حديث (ستكون فتنة ، القاعد فيها خير من
القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ، من
تشرف لها تستشرفه ، ومن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به). متفق عليه .
والمعنى : من تطلع لها وتعرض لها فإنها تهلكه.
7 _ حديث (.. تلك أيام الهرج حيث لا يأمن
الرجل جليسه.
قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك الزمان ؟
قال : تكف لسانك ويدك وتكون حلساً من أحلاس بيتك). أبو داود.
8 _ حديث (ويل للعرب من شر قد اقترب أفلح من
كف يده). أبوداود .
9 _ حديث (إنها ستكون فتنة تستنظف العرب
قتلاها في النار اللسان فيها أشد من وقع السيف).
رواه أبوداود والترمذي وقال: حسن غريب . وفيه اختلاف في رفعه ووقفه.
10 _ وذكر في حديث حذيفة المشهور في الفتن (
.. دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها ..
قال حذيفة : فما تأمرني إن أدركني ذلك؟
قال : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.
قلت : أرأيت إن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟
قال : تعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على
ذلك). متفق عليه.
وفي لفظ لمسلم قال: (يكون أئمة لا يهتدون بهداي ، ولا يستنون بسنتي ،
وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس . قلت : كيف أصنع يا
رسول الله إن أدركت ذلك ؟
قال: تسمع وتطيع للأمير ، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك ، فاسمع وأطع).
قال سمير: وهذه النصوص وغيرها ، قد صرحت بلزوم الجماعة ، والصبر على
جور الولاة ، وكف اليد واللسان في الفتنة التي تحصل عند قتال المسلمين
بعضهم بعضا.
وفي حديث حذيفة تصريح بوجوب لزوم الجماعة والإمام ، حتى إذا كان الإمام من
دعاة أبواب جهنم.
وقد ذكر النووي في شرحه أن هؤلاء هم الأمراء الذين يدعون إلى بدعة أو ضلال
كالخوارج والقرامطة.
وفي الحديث أيضا : أنه إن فرض خلو الزمان من الجماعة والإمام ، فإن الواجب
اعتزال الفرق كلها ، ولم يفصل في حال تلك الفرق ، وربما يكون بعضها أقرب
إلى الحق والهدى.
ثم إن الحديث صريح أيضاً في التحذير من متابعة الأئمة _ الدعاة على أبواب
جهنم _ لأنه قال: (من أجابهم إليها قذفوه فيها).
وقد دلت النصوص الأخرى على ذلك حيث ذكرت أنه لا يحل أن يُطاع الإمام في
معصية ، وأنه يلزم المسلم أن ينكرها ، أو يكرهها بقلبه ، وذلك أضعف
الإيمان.
وأما من تابع الإمام فيها فهو آثم.
وقد بوب النووي على بعض تلك الأحاديث بقوله " باب وجوب الإنكار على الأمراء
فيما يخالف الشرع ، وترك قتالهم ما صلوا " .
وقد اعترض على ذلك بعضهم وذكروا شبهات ، أكثرها من قبيل الرأي المحض ، في
إباحة الخروج والقتال لإقامة العدل ، واحتجوا بفعل من خرج من الصحابة
والسلف على ولاة الجور.
قلت: أكثر الصحابة وأئمة السلف على خلاف ذلك الرأي ، وقد احتجوا بالنصوص
الصريحة المتواترة ، التي مر ذكر بعضها.
وكل من خالفهم من الأئمة فإنما كانت له شبهة.
ومبدأ الفرقة ، ومنشأ الخروج في الأمة ، إنما حصل وقت الفتنة بعد مقتل
عثمان رضي الله عنه ، فتتابعت بعدها الفتن إلى يومنا هذا ، فأكثر من وقع
فيها ، له شبهة من حق ، أو نص.
وحتى الفرق التي خرجت عن السنة في مسائل الاعتقاد ، عندها شبهة من نص ،
كالخوارج والقدرية وغيرهم .
والحجة في هذا ، هي في اتباع النصوص التي تواترت على الأمر بلزوم الجماعة ،
ونبذ الفرقة ، والصبر وكف اليد واللسان في الفتنة.
جاء رجل إلى ابن عمر يذكره بقول الله تعالى {وإن طائفتان من المؤمنين
اقتتلوا} إلى قوله {حتى تفيئ إلى أمر الله}.
فأجابه ابن عمر بقوله : يا ابن أخي : أَغْترَ ( وفي لفظ : أُعيَّر ) بهذه
الآية ولا أقاتل ، أحب إلي من أن أغتر بالآية التي يقول الله فيها {ومن
يقتل مؤمناً متعمداً}. رواه البخاري .
وقد أطال شيخ الإسلام ابن تيمية الكلام عن فتنة القتال بين المسلمين ، بسبب
جور الولاة ، أو المنازعة على الولاية والملك ، وذكر أن مفسدة ذلك على
الأمة أعظم مما يظن تحصيله من المصلحة .
واستقرأ ذلك من أول فتنة وقعت بعد مقتل عثمان إلى زمانه.
وسأسوق نصوصا من كلامه من منهاج السنة [ ج 4 ]:
* "والنصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه
وسلم تقتضي أن ترك القتال كان خيراً للطائفتين ، وأن القعود عن القتال كان
خيراً من القيام فيه ، وأن علياً _ مع كونه أولى بالحق من معاوية وأقرب إلى
الحق من معاوية _ لو ترك القتال لكان أفضل وأصلح وخيرا " . ص 175 .
* " لم يوجد شرط قتال الطائفة الباغية ، فإن
الله لم يأمر بقتالها ابتداء ، بل أمر إذا اقتتلت طائفتان أن يصلح بينهما ،
ثم إن بغت إحداهما على الأخرى قوتلت التي تبغي " . ص 176 .
* " ومن استقرأ أحوال الفتن التي تجري بين
المسلمين ، تبين له أنه ما دخل فيها أحد فحمد عاقبة دخوله ، لما يحصل له من
الضرر في دينه ودنياه ، ولهذا كانت من باب المنهي عنه " . ص 184 .
* " ليس كل من كان قادرا على القتال كان
قادرا على قتال يفيئ فيه إلى أمر الله " . ص 189 .
* " الفتنة إذا ثارت عجز الحكماء عن إطفاء
نارها " . ص 211 .
* " قلَّ من خرج على إمام ذي سلطان ، إلا كان
ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير " . ص 240 .
* " وهذا كله مما يبين أن ما أمر به النبي
صلى الله عليه وسلم من الصبر على جور الأئمة وترك قتالهم والخروج عليهم ،
هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد ، وأن من خالف ذلك متعمداً أو
مخطئاً لم يحصل بفعله صلاح بل فساد " . ص 241 .
* " وإذا قال القائل : إن علياً والحسين إنما
تركا القتال في آخر الأمر للعجز ، لأنه لم يكن لهما أنصار ، فكان في
المقاتلة قتل النفوس بلا حصول المصلحة المطلوبة.
قيل له : وهذا بعينه هو الحكمة التي راعاها الشارع صلى الله عليه وسلم في
النهي عن الخروج على الأمراء ، وندب إلى ترك القتال في الفتنة ، وإن كان
الفاعلون لذلك يرون أن مقصودهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كالذين
خرجوا بالحرة ، وبدير الجماجم على يزيد والحجاج وغيرهما .
لكن : إذا لم يزل المنكر إلا بما هو أنكر منه ، صار إزالته على هذا الوجه
منكرا " . ص 243 .
* " ومما ينبغي أن يعلم : أن أسباب هذه الفتن
تكون مشتركة ، فيرد على القلوب من الواردات ما يمنع القلوب عن معرفة الحق
وقصده ، ولهذا تكون بمنزلة الجاهلية ..
فيتفق أن بعض الولاة يظلم باستئثار، فلا تصبر النفوس على ظلمه ، ولا يمكنها
دفع ظلمه إلا بما هو أعظم فسادا منه ، ولكن لأجل محبة الإنسان لأخذ حقه
ودفع الظلم عنه ، لا ينظر في الفساد العام الذي يتولد عن فعله " . ص 245 .
* " والشارع أمر كل إنسان بما هو مصلحة له
وللمسلمين:
فأمر الولاة بالعدل والنصح لرعيتهم ، حتى قال: (ما من راع يسترعيه الله
رعية ، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته ، إلا حرم الله عليه رائحة الجنة).
وأمر الرعية بالطاعة والنصح.
وأمر بالصبر على استئثارهم ، ونهى عن مقاتلتهم ومنازعتهم الأمر مع ظلمهم ،
لأن الفساد الناشئ من القتال في الفتنة ، أعظم من فساد ظلم ولاة الأمر ،
فلا يزال أخف الفسادين بأعظمهما " . ص 246 .
قال سمير: وهذا الذي نقلته هنا من كلام شيخ الإسلام قد اتفق عليه
أكثر أئمة السلف ، وذكروه في مصنفات السنة ، وشنعوا على المخالفين من
المعتزلة وغيرهم ممن يرون السيف ، حتى جعلوا هذا الرأي من سمات أهل البدع
ومما يجرح به الرواة.
وأما من خرج من أئمة السلف ، من الصحابة والتابعين وغيرهم ، فإنهم كانت لهم
من الإمامة في الدين والشرف والفضيلة ما يجعل ذلك العمل مغمورا في بحر
حسناتهم ، وخاصة الصحابة ، وقد اتفق السلف على السكوت عما شجر بينهم من
الفتن والقتال .
هذا وقد ولي أمور المسلمين من بعد الخلفاء الراشدين أصناف من الولاة ،
فمنهم الظلمة الفسقة ، الذين استحلوا دماءهم ، كما فعل يزيد بن معاوية بأهل
الحرة ، وبالحسين ومن كان معه ، وكان كبار الصحابة ينهون عن الخروج على
يزيد ، وكانوا لا يداهنونه ولا يظهرون محبته ولا الثناء عليه ، بل تنازع
بعض السلف في حكم لعنه.
والحجاج كذلك ، قد فعل من القتل مالم يفعله غيره ، فإنه قد أحصي من قتله
صبراً فوجد مائة ألف وعشرين ألفا. رواه الترمذي.
ولم يستحل الصحابة الخروج عليه ولا على من ولاه الأمر ، بل كانوا يصلون
خلفه ، مع فسقه وخبث نحلته.
وقد اعتنق المأمون ومن بعده المعتصم ثم الواثق ، مقالة الكفر البين ، الذي
أجمع أئمة السلف على أنها كفر ، وهي القول بخلق القرآن ، ولم يكن أولئك
الخلفاء جهالا ، بل اشتهروا بالعلم والفقه ، خاصة المأمون فإنه كان فقيها ،
وكانت له رواية للحديث ، وكان منتحلاً لكثير من علوم الدين ، وربما يفوق
أكثر علماء زماننا فيها ، ومع ذلك فإن الإمام أحمد وأكثر الأئمة لم يستحلوا
الخروج عليهم.
ومن يعذر أولئك الخلفاء الثلاثة بالجهل ، مع ما كانوا عليه من العلم
والذكاء والفهم ، ومع كل ما جرى أمامهم من مناظرات في بيان الحق ، فإنه
يلزمه _ قطعا _ أن يعذر من هو دونهم في كل شيئ من ولاة هذا الزمان.
ومن لم يعذر هؤلاء ولا أولئك فإنه محجوج بالنصوص أيضا.
ثم تولى على المسلمين العبيديون وهم من أخبث الفرق ، وكانوا إسماعيلية
باطنية ، يظهرون الرفض ويبطنون الكفر المحض ، كما قال الغزالي وابن تيمية.
ومدة ولايتهم على مصر أكثر من 280 سنة ، وما أعلم أن أئمة ذلك الزمان دعوا
إلى الخروج عليهم ، مع أنهم رأوا من تفشي الظلم والكفر والبدع الشيء
الكثير.
وآخرهم الحاكم بأمره ، الذي استباح الأعراض والأنفس ، مع إظهاره للكفر
البواح ، وقد سلط الله عليه أخته فدبرت مقتله.
وتولى في الشام القرامطة وغيرهم وقيض الله من ينتزع منهم ومن قرامطة مصر
الملك ، دون استباحة لدماء العامة.
وعليه: فإن من يطالب الجماهير اليوم بالخروج على ولاة الجور ، فإنه قد غشهم
بمثل ما غشهم ولاتهم ، بل ربما أكثر.
لأن غاية ما فعله ولاتهم منعهم حقوقهم ، والتضييق عليهم في الرزق والمعاش ،
أو منعهم من إظهار بعض شرائع الدين ، وربما قتلوا النفر اليسير من العامة.
وأما الذين أزوهم للخروج فإنهم قد عرضوهم _ يقينا _ إلى ما لا قبل لهم به
من سفك الدماء وهتك الأعراض ، فكأنهم قالوا لهم : إن ولاتكم ظلموا بعضكم
بالقتل ، فاخرجوا عليهم حتى يقتل منكم أضعاف ما قتل ، ويهتك من أعراضكم
أضعاف ما هتك ، فأي مصلحة في هذا ؟
وإن فرض أن بعض العوام قد خرج وأوذي ، فإنه كان ينبغي لأهل العلم أن
ينصحوهم بالكف عن ذلك ، وترك الخروج ، ويبينوا لهم النصوص في الصبر على ظلم
الظالمين حتى يجعل الله لهم مخرجا.
كما ينبغي أيضا ، أن يبينوا للولاة ما يجب عليهم من حقوق الله وحقوق الرعية
، فينصحوا لهم ، بدلا من أن يزينوا لهم باطلهم.
وما يحصل من انقسام العلماء إلى فريقين : فريق يحض العوام على الخروج
والفتنة ، ويعرضهم للقتل والنهب والاغتصاب.
وفريق يداهن الولاة الظلمة ، ويصدقهم في كذبهم ، ويزين لهم ماهم فيه من
الظلم ، أو الكفر ، أو البدعة.
فلا ريب أن كلا الفريقين على خطأ وضلال ، وأن الواجب اتباع النصوص كلها ،
والحكم بالعدل والقسط.
وقتال الناس اليوم في بلاد الإسلام فيه من المعارضة لنصوص الشرع ما لا
ينبغي إغفاله ولا السكوت عليه.
فمن ذلك: قتل النفوس المعصومة ، وهذا لا يختص بالطائفة الخارجة ، بل يعم
الطائفتين ، فإن في جيش الأنظمة مسلمين أيضا.
ومن ذلك: تعدد آراء الخارجين ، واختلاف نحلهم ، وتعدد رايات المقاتلين منهم
، وهذا أسوأ من خروج طائفة معينة لها راية واحدة ، لأن تلك الطوائف
المتعددة ستفترق وتتنازع _ قطعا _ بعد سقوط الولاة ( إن سقطوا ) فمن سيحكم
حينئذ ؟
وقتال الرايات المتعددة المختلفة _ العمية _ يعد من قتال الفتنة.
قال في الفتح " كل قتال وقع بين طائفتين من المسلمين حيث لا إمام للجماعة ،
فالقتال حينئذ ممنوع ، وهو قول الأوزاعي ". [ 13 / 40 ] .
ومن ذلك : الاستعانة بأعداء الملة ، من الكفار الصليبيين وغيرهم ، وقد دلت
النصوص على تحريم الاستعانة بكافر لقتال مسلم.
ومن ذلك: أن المستفيد الوحيد من تلك الفتن هم الأعداء ، من الشرق أو الغرب
، حيث تدور رحى المعركة والقتال بين المسلمين في بلادهم ، ويقتل بعضهم بعضا
، وتضعف قوتهم وتفنى أسلحتهم وأموالهم في سبيل مصالح أعداء الأمة وحدهم.
وبعض ما حصل لليهود مما ذكر في القرآن ، يحصل أضعافه للمسلمين الآن.
يقتلون أنفسهم ، ويخرجون فريقا منهم من ديارهم ، ويظاهرون عليهم بالإثم
والعدوان ، ويخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم .. فاعتبروا يا أولي
الأبصار !
وأنا أُذكّر هذه الأمة المستضعفة في الأرض ، بحال الرسل عليهم السلام ، فإن
أكثرهم لم يمكَّن لهم في الأرض ، من نوح إلى إبراهيم ولوط وموسى وعيسى ،
وغيرهم.
فلو كانت الولاية والملك والتمكين في الأرض هو معيار الحق ، لما منعها
أولئك الرسل وأعطيها الكفار من قومهم.
واستعبد فرعون بني إسرائيل مدة طويلة ، ولم يمكَّن لموسى أن يجلس على عرش
الملك يوماً واحداً.
ولم يؤمر هو وقومه أن ينابذوا جنود فرعون ، لأنهم لا قبل لهم بذلك.
وتولى الله سبحانه قتلهم وإهلاكهم ، كما فعل بأشياعهم من قبل ومن بعد.
ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من نصف مدة نبوته من غير تمكين ،
وكان يؤمر بالصبر على أذى قريش.
ولما قال له المؤمنون : ألا تدعو لنا ؟
ألا تستنصر لنا ؟
ذكرهم بصبر الأولين ، ثم قال لهم : ولكنكم تستعجلون.
وعندما مكن له لم يدخل من معه في قتال لا قبل لهم به ، بل احتاط لهم رحمة
بهم وشفقة عليهم.
حتى إنه دخل في صلح مع اليهود ثم مع المشركين.
ولما غزا الطائف _ بعد فتح مكة _ وحاصرها أياماً ، واستعصت عليه ، ورأى ما
أصاب أصحابه من سهام الكفار رجع بهم ولم يفتحها.
وفي آخر الزمان يؤمر عيسى ومن معه _ بعد قتل الدجال _ أن يحرز من معه إلى
الطور _ فراراً من يأجوج ومأجوج ، لأنه لا قدرة لأحد في قتالهم ، فيجأر
عيسى ومن معه إلى الله ، فيتولى الله وحده قتلهم.
فأول نصر على الكفار في عهد نوح ، كان بالدعاء { إني مغلوب فانتصر }.
وآخره كذلك مع يأجوج ويأجوج.
واليوم يؤمر العامة العزل بأن يخرجوا على ولاة الجور وجيوشهم ، حتى إذا
أثخن فيهم قتلاً وتدميراً واغتصاباً وتشريداً ، ناح الواعظون عليهم ،
وخطبوا على أشلائهم ومصائبهم !
ثم خيروهم بين أمرين : إما الفناء بالقتل والتشريد ، وإما الاستعانة بجيش
الصليب ؟
ثم ماذا بعد هذا الطيش كله ؟
تستباح بلاد الإسلام لعباد الصليب ليحكموا فيها بشرع الله أم بحكم الطاغوت
؟
* تكميل *
* ذكر ابن كثير في تفسيره حديثا في المسند عن أبي ذر قال: (جعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم يتلو علي هذه الآية {ومن يتق الله يجعل له مخرجا .. }
حتى فرغ من الآية ، ثم قال : يا أبا ذر ! لو أن الناس كلهم أخذوا بها
كفتهم.
قال أبو ذر : فجعل يتلوها ويرددها علي حتى نعست ، ثم قال : يا أبا ذر !
كيف تصنع إذا أخرجت من المدينة ؟
قلت : إلى السعة والدعة ، أنطلق فأكون حمامة من حمام مكة.
قال : كيف تصنع إذا أخرجت من مكة ؟
قلت : إلى السعة والدعة ، إلى الشام والأرض المقدسة.
قال : كيف تصنع إذا أخرجت من الشام ؟
قلت : إذاً والذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي.
قال : أو خير من ذلك.
قلت : أو خير من ذلك ؟
قال : تسمع وتطيع وإن كان عبدا حبشيا) .
* ذكر البخاري في كتاب الفتن عن سفيان عن خلف بن حوشب قال : كانوا يستحبون
أن يتمثلوا بهذه الأبيات عند الفتن:
الحرب أول ما تكون فتية
تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها
ولت عجوزًا غير ذات حليل
شمطاء ينكر لونها وتغيرت
مكروهة للشم والتقبيل
وبعد ، فالكلام في هذه الفتن مما يطول ويطول ، وحسبي ما ذكرته من نصوص
ظاهرة صريحة تجلي الحق ، ولست معنيا بالتحليل السياسي والعسكري ، لما حصل
ويحصل هنا وهناك ، فإن أكثره ظن وكذب ورجم بالغيب ، ونحن أمة اتباع لا
ابتداع ، وملتنا حنيفية سمحة ، وديننا كاف شاف ، لا نحتاج معه إلى التعمق
في الكلام والظن والرأي.
هذا ما تيسر ذكره والتنبيه عليه ، والحمد لله أولاً وآخراً.
* * * * *
وكتب / سمير بن خليل المالكي الحسني.
مكة المكرمة
الأربعاء 7/1/1434هـ
جوال/ ٠٥٩١١١٤٠١١
Samer-malky89@hotmail.com