|
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على النبي الأمين ، نبينا محمد ،
وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد ، فهذه نصيحة أكتبها لعامة أهل العلم ، أذكرهم فيها بما يجب عليهم
من أمانة الصدق في القول والعدل في الحكم ، وأن لا ينقضوا عهد الله وميثاقه
من أجل عرض من الدنيا قليل .
أذكرهم بقول ملك الملوك عز وجل : {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب
لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً
فبئس ما يشترون} .
وأحذرهم أن يكونوا ممن قال فيهم سبحانه {يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق
بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون} .
فكتمان الحق وتلبيسه خيانة عظمى من أهل العلم والفتيا ، لأن الناس مأمورون
بطاعتهم ، وبالفزع إليهم فيما يجهلونه من أمر دينهم ، خاصة في النوازل
العظام.
{وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى
أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} .
وقد تواترت النصوص في بيان عظيم شأنهم ، وأنهم ورثة الأنبياء في تبليغ
العلم ، حتى وصفهم بعض الأئمة بـ"الموقعين عن رب العالمين ".
فحري بمن كان بتلك المنزلة العلية ، وذلك المقام الرفيع ، أن يستشعر الموقف
المهيب ، قبل أن يفتي في مسألة ، أو يحكم في قضية .
** إن كثيرا من علمائنا وقضاتنا في هذا الزمان صاروا أبواقا للحكام ،
موقعين عن أهوائهم وسياساتهم المخالفة لشريعة الإسلام ، فاستبدلوا الذي هو
أدنى بالذي هو خير .
وإن هيبة العلم قد دنسها طمع كثير من العلماء ، حتى قيل من قبل "الفتوى
بفرخة ".
واليوم صارت الفتاوى بضاعة مزجاة ، تبذل في هوى السلطان بأبخس الأثمان .
* * * *
* * *
" النصيحة عند السلف "
وقد تواتر عن الصحابة والأئمة إعلان الإنكار على المخالفين من الأمراء
والخلفاء ، في وقائع كثيرة مشهورة .
بل إن بعضهم قد اعترض على بعض السياسات النبوية التي ظنوا أنها غير معصومة.
** فهذا عمر رضي الله عنه يحاور الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلاة على
رأس النفاق : عبدالله بن أبي ابن سلول .
وأخذ عمر بثوب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: " يارسول الله ! تصلي عليه
، وقد نهاك ربك أن تصلي عليه " ؟ متفق عليه [اللؤلؤ والمرجان 1553] .
ونحن ، وإن كنا نستعظم صنيع عمر هنا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم ، إلا
أن الرسول أقره عليه ولم يعنفه ، بل حاوره وجادله بمفهوم الآية {إن تستغفر
لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} ، هذا وهو الرسول المؤيد بالوحي ،
المعصوم عن الهوى .
وقد تكرر من عمر نحو ذلك الموقف في أكثر من حادثة ، ومنها صلح الحديبية .
** وقال جابر رضي الله عنه في سياق حديثه في الحج ، حين أمر النبي صلى الله
عليه وسلم أصحابه بالحل من عمرتهم " فكبر ذلك علينا ، وضاقت به صدورنا ،
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فما ندري أشيئ بلغه من السماء ، أم
شيئ من قبل الناس ، فقال : أيها الناس أحلوا.." الحديث. انظر صحيح مسلم
[1216] .
قلت : وفي سياق القصة أن إنكارهم كان معلناً ، وكان جماعياً .
وإنما ساغ مثل ذلك وقت التنزيل ، قبل أن يستقر أمر التشريع .
** وأما الحوادث في عصر الخلافة الراشدة ، فهي أشهر وأكثر .
فقد أنكرت امرأة على عمر وهو يخطب على المنبر ، في مسألة من المباحات ، وهي
تحديد قدر الصداق ، مع أنه أراد الخير و النفع للأمة ، و أن يلزمهم بسنة
الرسول صلى الله عليه وسلم في صداق نسائه ، فرجع عمر عن حكمه وقال " كل
الناس أفقه من عمر " .
جود ابن كثير إسناد القصة في تفسير آية {وآتيتم إحداهن قنطاراً} .
قلت : لم يستنكف عمر عن قبول الحق من امرأة ، لا يعرف حتى اسمها ، ولم يقل
لها أنا أعلم وأفضل منك ، فمن أنت حتى تعترضي ؟
واليوم تعلن في الأمة المنكرات ، بل الكفر والموبقات ، فيسكت "الكبار" ،
وإذا تكلم غيرهم ، وصفوه بإثارة البلبلة و الفتنة !
** وأنكروا على عثمان أمورا ، حتى إنهم اجتمعوا وتجمهروا عند بيته ،
وحاورهم ، ولم يعنف ولم يسجن أو يوقف ، وأبى أن يحرسه الصحابة ، فتمالأ
عليه الغوغاء ، وبعضهم كان من أتباع ابن سبأ ، رأس الرافضة الغلاة ، فقتلوه
، فكان من الشهداء ، ففدى الأمة بنفسه ، وحقن دماءهم بدمه ، رضي الله عنه
وأرضاه .
** وأنكروا على علي رضي الله عنه تأخير القصاص من قتلة عثمان ، فاجتمع بعض
الصحابة ، وعلى رأسهم طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم ، وخرجوا و "
تظاهروا " للمطالبة بتسليم قتلة عثمان ، فكانت وقعة الجمل ، ثم تبعتها
أختها صفين .
وليس المقصود هنا تقرير حكم "المظاهرات" ، بل المقصود بيان مشروعية إعلان
الإنكار على السياسات المخالفة ، فرادى وجماعات .
** وأنكروا علانية على معاوية وعلى أمرائه وخلفاء بني أمية .
1 _ فحين خطب مروان بن الحكم أمير المدينة ، في شأن عهد معاوية لابنه يزيد
بالخلافة ( أي : التوريث ) فقال" سنة أبي بكر وعمر " ، أنكر عليه عبدالرحمن
بن أبي بكر علنا ، وقال " بل سنة هرقل وقيصر " .
وفي لفظ " جئتم بها هرقلية تبايعون لأبنائكم " ؟ انظر فتح الباري [ 8 / 576
] .
قلت : وفي القصة أنه فر من الحرس واختبأ عند أم المؤمنين عائشة ، وأقرته
على فعله ، ولم تنكره هي ولا أحد من الصحابة .
2 _ وأنكر رجل من عامة الناس علنا على مروان تقديم خطبة العيد على الصلاة ،
وأقره أبو سعيد الخدري رضي الله عنه على ذلك الإنكار ، ثم ذكر حديث "من رأى
منكم منكرا فليغيره..".
الحديث [مسلم 49] .
قال النووي ( قال العلماء : ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
بأصحاب الولايات ، بل ذلك جائز لآحاد المسلمين ) .
3 _ وخطب بشر بن مروان ، فرفع يديه في الدعاء ، فأنكر عليه عمارة بن رؤيبة
رضي الله عنه علانية ، وقال "قبح الله هاتين اليدين.." . رواه مسلم [ 874 ]
.
** تنبيه : وردت بعض النصوص في النصح سراً للخلفاء ، ولا تعارض بينها وبين
ما تقدم من إعلان الإنكار ، فإن الجمع ممكن بالنظر إلى اختلاف الحال ،
واختلاف المنكرات .
وإن أبى المعترضون الجمع ، فإن أحاديث الإعلان أشهر وأكثر .
** وقد تواترت الآثار في الإنكار الفردي والجماعي على السياسات الجائرة ،
قرناً بعد قرن ، ولم يكن ذلك الإنكار حكراً على طائفة من العلماء ، ولا على
أصحاب المناصب والولايات ، بل أكثرهم كان زاهداً في مناصب الحكام ، كما هو
هدي الأئمة الأعلام .
يقول ابن كثير في ترجمة الشيرازي المتوفى سنة 723 للهجرة ( ولم يتدنس بشيئ
من الولايات ، ولا تدنس بشيئ من وظائف المدارس ولا الشهادات ) . [البداية
14 / 109] .
ومن أشهر المحتسبين على الولاة والعامة في القرن الثامن ، شيخ الإسلام ابن
تيمية رحمه الله ، وكثيراً ما كان يخرج في جماعات من أصحابه و تلاميذه
لتغيير المنكرات ، ولم تكن له ولاية ولا منصب في الدولة .
* * * *
* * *
" صيانة العلم "
شاع في الأمة منذ قرون عدة ، بدعة إطراء السلاطين والحكام ، وأفرط بعض
الناس فيه لدرجة الغلو ، وصار مدح الحكام سنة يربو عليها الصغار ، ويهرم
عليها الكبار ، حتى غدا كسبحة العشي والإبكار .
وإذا كنا نستنكر صدور ذلك العمل من العامة ، فإننا نستعظمه من أهل التقوى
والديانة .
** وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على الذين قالوا له " أنت سيدنا
وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا " .
وحذرهم من التمادي في المدح والإطراء . [ أبو داود 4806 ] .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .
** ولم يؤثر عن أحد من أئمة السلف إشهار المدح والثناء على الأمراء ، بل
ذموا المداحين مطلقا، وجعلوا ذلك من علامات النفاق .
** فقد مدح رجل عثمان رضي الله عنه في حضرته ، فأخذ المقداد رضي الله عنه
يحثو عليه الحصباء ، فقال له عثمان ما شأنك ؟ فقال : إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال "إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب" . رواه مسلم
[3002] .
** وقيل لابن عمر رضي الله عنهما :
إنا ندخل على سلطاننا فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم ، قال:
"كنا نعدها نفاقا" .
رواه البخاري [ 7178 ] ، ( باب ما يكره من ثناء السلطان وإذا خرج قال غير
ذلك ) .
وذكر الحافظ أن في بعض الروايات :
إنا نجلس إلى أئمتنا هؤلاء فيتكلمون في شيئ نعلم أن الحق غيره فنصدقهم ،
فقال ابن عمر " كنا نعد هذا نفاقا ، فلا أدري كيف هو عندكم " ؟ [فتح الباري
13/170] .
** وقال أسامة رضي الله عنه ، لما سألوه أن ينصح عثمان رضي الله عنه : "
إنكم لترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم ، إني أكلمه في السر دون أن أفتح بابا
لا أكون أول من فتحه ، ولا أقول لرجل _ أن كان علي أميرا _ إنه خير الناس
.." . رواه البخاري [3267] .
قال الحافظ ( فيه ذم مداهنة الأمراء في الحق ، وإظهار ما يبطن خلافه
كالمتملق بالباطل . فأشار أسامة إلى المداراة المحمودة والمداهنة المذمومة
) . انظر فتح الباري [ 13 / 52 ] .
قلت: ينبغى للعلماء أن يصونوا علمهم عن مداهنة الحكام وإطرائهم ، فإن ذلك ،
مع كونه مخالفا لهدي السلف ، فإن فيه ابتذالا للعلم ، وفتنة للحكام والعوام
.
قال الإمام الجرجاني :
ولم أقض
حق العلم إن كان كلما --- بدا طمع صيرته لي سلمــا
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي --- لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأشقى به غرسا وأجنيه ذلــة --- إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم --- ولو عظموه في النفوس تعظمـا
ولكن أذلوه جهارا و دنسـوا --- محياه بالأطماع حتى تجهمـا
* * * *
* * *
" أزمة الأمة مزمنة "
إننا لا نعيش في أزمة ، ولا في قلق وفتنة ، في هذه الأيام فحسب ، بل نعيشها
منذ قرون ، أزمة وفتنة وبلاء عظيم .
بدءاً من أواخر الخلافة العثمانية ، مروراً بسقوطها وتقسيم بلاد الإسلام
إلى دويلات ، والاستعباد الصليبي لها ، الذي استمر إلى يومنا هذا ، حتى
غدونا جميعا _ أمة الإسلام _ كالأيتام على موائد اللئام ، وصرنا كالغنم
المطيرة في الليلة الشاتية .
**و ليست الأزمة اليوم ، أن تطالب الأمة بالعدل ورفع الظلم عنها ، وإنما
الأزمة _ حقيقة _ هي في الإصرار على عدم تحقيق هذه المطالب ، والسعي في
منعها ، وقمع المطالبين بها .
* * * *
* * *
" النصيحة ليست فتنة "
ليس في إنكار منكرات الأنظمة والسياسات ، فتنة ولا خروج عن الطاعة ، فإن
"الدين النصيحة"، كما في الحديث ، وذكر فيه : أئمة المسلمين . [ مسلم 55 ]
.
وجهاد الأئمة المخالفين واجب ، كما في حديث " فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ،
ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك
من الإيمان حبة خردل " . [مسلم 50] .
والأحاديث والوقائع المتواترة في مشروعية النصيحة والإنكار ، أكثر من أن
تحصر .
وقد تقدم ذكر بعضها من قبل .
** خطب أبو بكر رضي الله عنه خطبة البيعة فقال: ( إني قد وليت عليكم ولست
بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أخطأت فقوموني ، الصدق أمانة ، والكذب
خيانة .. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله ، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي
عليكم ) .
صحح إسنادها ابن كثير في البداية والنهاية [6 / 301] .
والفتنة العظمى هي في سن القوانين والسياسات المخالفة للحق ، الظالمة للخلق
، لا في إنكار المنكرات ، فرادى وجماعات .
{والفتنة أكبر من القتل} .
والخروج الأعظم ، هو الخروج عن الشرع والعدل ، إلى الظلم والجور .
وإذا كان الاحتساب على الحكام ، يعد خروجاً ، أو حرابةً ، فإن أول الخارجين
المحاربين هم الصحابة !!
* * * *
* * *
" كلمة جامعة "
** إن ولاة الأمر في البلد المسلم هم : العلماء والحكام معاً ، فالعلماء
شركاء في الحكم ، لا يصح أن يستبد الحكام في السياسة العامة دونهم .
قال البخاري (باب {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} ، وما أمر النبي صلى الله عليه
وسلم بلزوم الجماعة ، وهم أهل العلم) . [13 / 316] .
قال الحافظ [قال الكرماني : مقتضى الأمر بلزوم الجماعة ، أنه يلزم المكلف
متابعة ما أجمع عليه المجتهدون] .
قلت : وهذا الأمر متعين في هذا الزمان أكثر ، فإن الحكام ليسوا من أهل
العلم و الاجتهاد ، فأحرى بهم أن يسألوا أهل العلم ويصدروا عن أمرهم في
سياساتهم ، وإلا كيف يصح أن تزعم تلك الدول أنها تحكم بالكتاب والسنة ؟
ولا ريب أن إجماع أهل العلم حجة ، لكن إذا اختلفوا في مسألة ، فتعرض
أقوالهم على الكتاب والسنة .
** وينبغي على العلماء أن يزهدوا في الدنيا ، وفي عطايا الحكام ومنحهم ،
وأن يتنزهوا عنها ، فإنها في الحقيقة أموال الأمة ، لا يحل للحكام أن
يتصرفوا فيها إلا بالعدل ، ولا للعلماء أن يتنفلوها ، خاصة وهم يعلمون علم
اليقين ، أن أكثر الناس يعيش دون الكفاف ، وأن الكثيرين يعيشون تحت خط
الفقر .
** ليست الفتوى في النازلة ، أو في السياسة ، حكراً على طائفة ممن يختارهم
الحاكم ، ولا يصح الظن بأن فهم هذا الدين محصور في تلك الطائفة " الموظفة "
، فإن هذا لم يزعمه أحدٌ من أهل العلم من قبل .
ولايصح أن يفتي في النوازل كل أحد ، وليسع العالم وطالب العلم أن يقول "لا
أدري" ، كما وسع كل علماء السلف من قبل .
* * * * * * *
وختاماً ، أسأل الله أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد ، وأن يصلح من أحوالها ما
فسد ، والحمد لله أولاً وآخراً .
* * *
وكتب : سمير بن خليل المالكي
مكة المكرمة 11 / 4 / 1432
0591114011