|
بسم الله الرحمن الرحيم
(عثرة القاضي)
الحمدلله حمدا طيبا كثيرا ، والصلاة والسلام على من بعثه الله للناس بشيرا
ونذيرا ، وأمرهم بطاعته ، وحذرهم من مخالفته ، ولم يستثن من ذلك كبيرا ولا
صغيرا ، ولا أميرا ولا حقيرا .
أما بعد ، فقد اطلعت على ما جاء على لسان أحد القضاة ، في مقابلة تلفزيونية
، عن " الاختلاط " ، حيث ذكر أنه مصطلح حادث ، وأنه لم يرد فيه نص ، ودافع
عن الذين أباحوه ، ومنهم وزير العدل ، وانتقد الذين ردوا عليه ، ووصفهم
بأنهم منظرون للإرهاب ، وغير ذلك من الألقاب .
وعجبت كيف يحكم قاض مؤتمن على الحكم في دماء الناس وأعراضهم و أموالهم ،
بمثل ذلك الحكم الجائر ، ويرمي مخالفيه بمثل تلك التهم ، دون وجه حق ،
وكأنهم أجرموا في حق الله وحق رسوله صلى الله عليه وسلم وحق الإسلام ؟
ولن أرد على كلامه في مسألة الاختلاط ، فحسبنا ما أوردناه من قبل من أدلة ،
ومن نصوص كلام الأئمة في هذه المسألة .
وسأختصر رسالتي هذه في الرد على بعض ما قاله في تلك المقابلة :
@ أولا : قد أفتى في مسألة الاختلاط جماهير
أهل العلم من السلف والخلف ، واتفقت كلمتهم ، على اختلاف مذاهبهم وعصورهم ،
على منع الاختلاط ، إلا ما دعت إليه الحاجة ، في عادة أو عبادة ، فهل هؤلاء
كلهم كانوا على خطأ ، والقاضي والوزير على صواب ؟
و لقد عاصر هذا القاضي شيوخ الإسلام ، في هذا الزمان ، وعلى رأسهم : " ابن
إبراهيم " و " ابن حميد" و " ابن باز" و " العثيمين " ،
و غيرهم من العلماء والقضاة والمفتين ، وكلهم قد اتفقوا على تحريم الاختلاط
، خاصة في ميادين التعليم ، في المدارس والجامعات ، وقد وافقهم عليه الملوك
والأمراء ، عقودا من الزمان ، فهل هؤلاء ، في نظر القاضي ، متشددون ، أو
جهلة ، لا يفرقون بين المصطلحات الشرعية والحادثة ؟
@ ثانيا : ونسأل القاضي : هل ترى أن الرجال و النساء ، قد تغير
حالهم في هذا الزمان ، إلى أفضل ما كانوا عليه في زمن أولئك الأعلام ، حتى
يباح ما اتفقوا على تحريمه ومنعه ؟
و هل تزعم أن الرجال _ خاصة الشباب _ قد صاروا من التقوى والصلاح بمكان ،
وأن النساء _ خاصة الفتيات _ قد بالغن ( جدا ) في التستر والحجاب ، وصرن
أكثر تعقلا وأشد (حرصا ) مما كن عليه من قبل ، بحيث يؤمن اختلاطهم في
المدارس والجامعات ؟
كنا نرجوا أن يكون الحال أفضل من هذا الحال ، ولو فرض حصول ما نرجوه ، وليس
ذلك على الله بعزيز ، فإن الاحتياط يوجب منع الاختلاط ، بموجب ما تقرر في
عمومات النصوص ، وما اتفق عليه علماء السلف والخلف ، حتى في خير قرون
الزمان .
لكن الواقع يشهد بعكس ذلك ، ولا يحتاج تقريره إلى دليل أو برهان .
فكان الأجدر ، أن نحتاط في أمر الاختلاط أكثر ، خاصة وأنه لا توجد أي مصلحة
في التساهل فيه ، لا سيما في ميادين التعليم ، فإن المفاسد فيه راجحة أو
متحققة ، وآثارها وتبعاتها ظاهرة ، في المدارس والجامعات المختلطة ، في
البلدان الأخرى .
وقد عجز كل من دعا إلى الاختلاط ، على اختلاف مشاربهم وأغراضهم ، أن يأتوا
ببرهان واحد ، على وجود أدنى مصلحة ترجى في الاختلاط ، ولهذا يعمدون دائما
إلى التشغيب بمسائل أخرى ، لا علاقة لها بأصل القضية .
@ ثالثا : وصف القاضي من خالفه وانتقده ، في مسألة الاختلاط أنهم "
شباب أغرار " و " خفافيش " ! الإنترنت .
ووصفهم كذلك بأنهم " أقلية ، تطرفوا في المسألة فكفروا من خالفهم في جزئيات
معينة دون أن يعرفوا مدلولات كلام الآخر " !
واستعدى عليهم السلطة بصريح العبارة ، حيث ذكر أن ثالوث الإرهاب ، وهو "
التنظير " ، لا يقل خطرا ولا جرما عن قسميه : " التكفير" و " التفجير " .
وذكر أن أصحاب القسمين الأخيرين ، قد أوقفوا وعوقبوا ، بخلاف القسم الثالث
، أصحاب "التنظير" !
* قلت : هذا هو مبلغ علم القاضي و أدبه مع من خالفه ، وهذا هو حكمه فيهم ،
فكيف يؤتمن مثل هذا على القضاء والحكم بين الناس ؟
وقد تقرر أن علماء المسلمين وقضاته الثقات ، كلهم قد أفتوا بتحريم الاختلاط
، قبل أن يخرج من يخالفهم من" خفافيش " القنوات و" أغرار " الفضائيات ، ممن
لم يجترئ على المجاهرة بمخالفتهم إلا بعد وفاتهم .
& خلا لك الجو
فبيضي واصفري &
& ونقري ما شئت أن تنقري & .
* لقد كان أولئك الأئمة ،
أمنة لهذه الأمة ، وحراسا للفضيلة ، وسيوفا للحق مسلولة ، على كل من أراد
إشاعة الفساد و الفتنة ، حتى إذا ما ماتوا خرج أدعياء العلم والمعرفة ،
بمثل تلك المقالات الفجة ، والفتاوى الشاذة ، يلبسون على العامة أمر دينهم
، بدعوى الإصلاح والتجديد ، وتخليص الأمة من إصر الجمود وأغلال التقليد !
ذهب الذين
يعاش في أكنافهم & وبقيت في " خلف " كجلد الأجرب .
*ومعلوم أن هؤلاء الخلوف ،
كانوا في حياة أولئك الأخيار _ ولازالوا _ نكرة من النكرات ، و لولا
المخالفة لما عرفوا .
وهم ، من قبل ومن بعد ، ولله الحمد ، يعدون " أقلية تطرفوا في المسألة ، مع
علمهم بمدلولات كلام من سبقهم من الأئمة " .
قال ابن مسعود " من كان مستنا ، فليستن بمن قد مات ، فإن الحي لا تؤمن عليه
الفتنة " .
* وأما استعداء القاضي للسلطة على مخالفيه ، فهذا من عجائب ما أتى به ، لأن
مقام القاضي يستوجب الحكم بالعدل ، حتى على المتهم بأبشع الجرم ، فلا يصح
أن يستعدي عليه السلطة ، إلا بعد محاكمة عادلة ، ولا يصلح هو أن يحكم فيها
، لأنه طرف في الخصومة ، هذا لو فرض أنه أهل للحكم في القضية .
* وقد بدأ القاضي حديثه عن مصطلح " الاختلاط " ، وذكر أنه محدث ، وأنه لم
ينص عليه في شيئ من النصوص الشرعية . . الخ ، ثم ذكر مصطلحات محدثة وحكم
عليها ، وعلى أصحابها بالتحريم والتجريم ، ومنها " التنظير " و "التكفير "
و " التفجير " !
وقد بينا في الردود السابقة ، على الوزير وغيره ، أن لفظ " الاختلاط " قد
تواترت على ذكره نصوص الأئمة ، من القرون الأولى ، بهذا اللفظ ، وبما هو في
معناه .
وأما المصطلحات التي ذكرها القاضي ، فلا شك أنها محدثة .
* ولفظ " التنظير " ، أقرب إلى عبارات الصحفيين ، أو المتكلمين ، وليس من
مصطلحات الدين .
وأما " التكفير " ، فحكمه يختلف ، ولهذا لم يرد نص بمنعه ، ولا بجوازه على
الإطلاق ، فكما يحرم تكفير من لا يستحق التكفير ، فإنه يجب تكفير من كفره
الله و رسوله ، من الكفار الأصليين ، أو ممن تحققت ردته عن الدين .
وأما " التفجير " ، فإن القاضي قد عكس القضية ، فإن إشاعة القول بإباحة
الاختلاط ، ومخالفة فتاوى الأئمة الثقات ، هو الذي ( ينظر ) للتكفير
والتفجير ، و يشعل الفتنة ، و يثير الحفيظة والغيرة ، وربما يقود ذلك إلى
ما لا تحمد عقباه ، بخلاف من أفتى بفتوى الراسخين من العلماء والقضاة .
* ثم نقول : إذا وجد من تطرف في الإنكار ، وأطلق العنان للسانه وقلمه ،
وربما يده ، في التطاول على المخالف بالباطل ، فإن هذا لا يقتضي منع
الإنكار على المخالف ، بالحق و العدل .
وقد وجد الخوارج من عصر الصحابة وحدثت بسببهم فتن وحروب ، وأريقت دماء كثير
من الصالحين ، ولم يمنع ذلك أهل العلم ، من الصحابة و التابعين ، من
الإنكار على المخالفين .
* و كان من هدي السلف ، الإنكار على الخلفاء الراشدين ، وعلى من بعدهم من
ولاة أمور المسلمين ، فيما خالفوا فيه الحق ، وجانبوا فيه الصواب .
@ فقد أنكرت امرأة على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ، على الملأ ، حينما
أراد أن يحدد المهور ، فصعد المنبر ورجع عن قوله .
قال ابن كثير في تفسيره لآية 20 من سورة النساء " إسناده جيد قوي " .
@ وأنكر علي وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وعمران بن حصين، على عمر و عثمان ،
في مسألة التمتع في الحج . انظر جامع الأصول
[ 3 / 110 _ 120 ] .
@ وأنكر ابن عباس على علي ، لما أحرق الزنادقة الغلاة . انظر البخاري
[ 12 / 237 ] .
@ وأنكر أبو سعيد الخدري وعمارة بن رويبة ، على بعض أمراء بني أمية ، في
مسائل متعلقة بخطبة العيد والجمعة . انظر البخاري [ 2 / 374 ] ومسلم [ 889
، 874 ] .
والحوادث كثيرة ، تجل عن الحصر .
* ثم إن التطرف في أمر لا يبيح التطرف في نقيضه .
& كلا طرفي قصد الأمور ذميم &
فالخوارج قد تطرفوا في الإنكار والتكفير ، وقابلهم الرافضة ، الذين تطرفوا
في ادعاء العصمة للأئمة ، وقابلهم أيضا كثير من مرجئة العصر ، في ترك إنكار
المنكر .
و مذهب سلف الأمة وخيارها ، هو العدل والتوسط ، لا إفراط ولا تفريط .
@ رابعا : وزعم القاضي أن اختيار الإمام يرفع الخلاف ، كذا أطلق
القول ، دون أن يذكر دليلا واحدا من كتاب أو سنة ، أو يذكر مرجعا واحدا
معتمدا ، من كتب أهل العلم ، ثم ينعي على غيره ، في إطلاق حكم الاختلاط ،
مع تواتر نصوص الأئمة على ذكره في مصنفات الفقه والتفسير وشروح الأحاديث .
ومعلوم أن النصوص قد صرحت بأن المفزع عند أي خلاف أو تنازع ، هو الكتاب
والسنة ، لا غير .
@ قال الله تعالى { وما اختلفتم فيه من شيئ فحكمه إلى الله } . [الشورى 10]
.
قال ابن كثير " وهذا عام في جميع الأشياء " .
@ وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول وأولي
الأمر منكم فإن تنازعتم في شيئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون
بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } . [ النساء 59 ] .
وهذه الآية قد نصت على أن المفزع عند التنازع ، هو الكتاب والسنة .
والتنازع هنا يشمل حتى تنازع الأمة مع ولاة أمورها ، كما يدل عليه سبب نزول
الآية .
فلو كان اجتهاد الإمام يرفع الخلاف ، لما أوجب الله الرد إلى كتابه وسنة
رسوله ، عند تنازع الرعية معه .
قال القرطبي " وليس لغير العلماء معرفة كيفية الرد إلى الكتاب والسنة " . [
5 / 260 ] .
والآية قد نصت على وجوب طاعة الله ورسوله مطلقا ، وأما طاعة ولاة الأمور ،
من الأمراء والعلماء ، فإنها مقيدة بالمعروف .
* قال الشيخ سليمان في تيسير العزيز الحميد [ ص 544 ] " قيل : إنما تجب
طاعتهم إذا أمروا بطاعة الله وطاعة رسوله ، فكان العلماء مبلغين لأمر الله
وأمر رسوله ، والأمراء منفذين له ، فحينئذ تجب طاعتهم تبعا لطاعة الله
ورسوله " .
ثم استدل _ رحمه الله _ بحديث " لا طاعة في معصية ، إنما الطاعة في المعروف
" . انظر البخاري [ 7257 ]
ومسلم [ 1840 ] .
ومعلوم أن الولاة العدول ، يبعد أن يأمروا بمعصية ، أو ينهوا عن فعل طاعة ،
إلا عن اجتهاد في أمر مختلف فيه ، فلا يصح متابعتهم ، ولا طاعتهم فيه ،
فكيف يقال إن اجتهادهم يرفع الخلاف .
@ وقد توقف زيد بن ثابت ، أولا ، عن طاعة أبي بكر في مسألة جمع
القرآن ، حتى استبان له الأمر .
انظر البخاري [ 9 / 9 ] .
@ كما توقف عمر عن متابعة أبي بكر ، في قتال مانعي الزكاة حتى شرح الله
صدره للحق . متفق عليه .
انظر جامع الأصول [ 4 / 552 ] .
@ وامتنع بعض الصحابة عن القتال مع علي بن أبي طالب ، في الفتنة ، لعدم
ظهور الحق لديهم فيه .
واعتذر إليه أسامة بن زيد بقوله " لو كنت في شدق الأسد ، لأحببت أن أكون
معك فيه ، ولكن هذا أمر لم أره " . انظر البخاري [ 7110 ] .
@ وقد جاء في حديث " البيعة " المشهور < وعلى أن نقول بالحق أينما كنا ، لا
نخاف في الله لومة
لائم > . رواه البخاري [ 7199 ] ومسلم [ 1709 ] .
قال النووي " معناه نأمر بالمعروف ، وننهى عن المنكر في كل زمان ومكان ،
الكبار والصغار ، لا نداهن فيه أحدا ، ولا نخافه ، ولا نلتفت إلى اللائمة "
. [ ص 1192 ] .
@وفي صحيح مسلم [ 1853 ] " إنه يستعمل عليكم أمراء ، فتعرفون وتنكرون ، فمن
كره فقد برئ ، ومن أنكر فقد سلم ، ولكن من رضي وتابع .." .
@ ويؤيد ذلك ، أن الصحابة وأئمة السلف لم يتابعوا الخلفاء في اجتهاداتهم في
مسائل الخلاف ، في العبادات والمعاملات ، ولا في الحلال والحرام ، ولهذا
يذكر الفقهاء مذاهب الخلفاء الراشدين ، في جملة الأقوال والمذاهب المختلفة
، ولم يقل أحد إن مذاهبهم ملزمة لأحد من الناس ،
أو رافعة للخلاف .
@ وقد شنع شيخ الإسلام ابن تيمية على الرافضة الإمامية الذين أوجبوا طاعة
أئمتهم مطلقا ، زعما منهم أنهم معصومون عن الخطأ ، ثم قال
" وكذلك من أمر بطاعة الملوك والأمراء والقضاة ، في كل ما يأمرون وينهون
عنه ، من غير تخصيص ولا استثناء . . " . انظر مجموع الفتاوى [ 19 / 70 ] .
@ وقال إن الأنبياء " معصومون عن الإقرار على الخطأ ، بخلاف الواحد من
العلماء والأمراء ، فإنه ليس معصوما من ذلك ، ولهذا يسوغ ، بل يجب ، أن
نبين الحق الذي يجب
اتباعه ، وإن كان فيه بيان خطأ من أخطأ من العلماء والأمراء " . انظر مجموع
الفتاوى [ 19 / 123 ] .
@ وقال " والذي على السلطان في مسائل النزاع بين الأمة أحد أمرين ،
إما أن يحملهم كلهم على ما جاء به الكتاب والسنة ، واتفق عليه سلف الأمة ،
لقوله تعالى { فإن تنازعتم في شيئ فردوه إلى الله والرسول } .
وإذا تنازعوا فهم كلامهم ، إن كان ممن يمكنه فهم الحق ، فإذا تبين له ما
جاء به الكتاب والسنة ، دعا الناس إليه . . " الخ . انظر مجموع الفتاوى [ 3
/ 239 ] .
@ وذكر شيخ الإسلام أن الحاكم إذا "حكم في مسألة اجتهادية قد تنازع فيها
الصحابة والتابعون ، فحكم الحاكم بقول بعضهم ، وعند بعضهم
سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
تخالف ما حكم به ، فعلى هذا أن يتبع ما علم من سنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، ويأمر بذلك ويفتي به ويدعو إليه ، ولا يقلد الحاكم . هذا كله باتفاق
المسلمين . . " إلى أن قال " وقد فرض الله على ولاة أمر المسلمين اتباع
الشرع ، الذي هو : الكتاب والسنة .
وإذا تنازع بعض المسلمين في شيئ من مسائل الدين ، ولو كان المنازع من آحاد
طلبة العلم ، لم يكن لولاة الأمور أن يلزموه باتباع حكم حاكم . . " انظر
المجموع
[ 35 / 373 _ 378 ] .
@ وسئل شيخ الإسلام : عمن ولي أمرا من أمور المسلمين ، ومذهبه : لا يجوز
شركة الأبدان ، فهل يجوز له منع الناس ؟
فأجاب " ليس له منع الناس من مثل ذلك ، ولا من نظائره مما يسوغ فيه
الاجتهاد . . ". المجموع [ 30 / 79 ] .
@ وقال أيضا " إن قبول قول الحاكم وغيره ، بلا حجة ، مع مخالفته للسنة ،
مخالف لإجماع المسلمين ، وإنما هو دين النصارى الذين اتخذوا أحبارهم
ورهبانهم أربابا من دون الله . . قال النبي صلى الله عليه وسلم < أحلوا لهم
الحرام ، وحرموا عليهم الحلال ، فأطاعوهم ، فتلك عبادتهم إياهم > .
والمسلمون متفقون على أن ما تنازعوا فيه يجب رده إلى الله والرسول . . " .
[ 27 / 306 ] .
* قلت : والكلام في تحرير هذه المسألة يطول جدا ، وفيه تفصيل كثير ، ليس
هذا موضعه .
وقد خص بعض أهل العلم طاعة الأمراء في مسائل معينة ، كالغزوات والسرايا
وإقامة الحدود ، ونحوها .
انظر " التمهيد " في أصول الفقه ، لأبي الخطاب [ 4 / 414 ] .
* و مباحث " الاجتهاد والتقليد " في كتب الأصول ، فيها تفصيل كثير في
اختلاف المجتهدين ، واختيار الأقوال والمذاهب ، ولم يذكروا فيها أن قول
السلطان يرجح قولا على قول ، أو أن اختياره يرفع الخلاف ، ويوجب على
المجتهدين أن يوافقوه ، ويتركوا ما علموه من الحق .
وحتى العامي " المقلد " ، لم يوجبوا عليه اختيار مذهب السلطان على غيره من
المذاهب ، بل قالوا : إن المقلد يختار قول الأعلم والأتقى من المجتهدين ،
ومنهم من قال : بل يأخذ بالأشد ، والعكس . . الخ .
* و لو فرض وجود من قال : إن اجتهاد ولي الأمر ، أو اختياره ، لقول من
الأقوال ( حتى في مسائل الحلال والحرام ) ، يرفع الخلاف ، فإن ذلك القول لا
يصيره حجة في دين الله يمنع مخالفتها ، بل غايته أن يكون هذا القول أيضا ،
من مسائل النزاع والخلاف ، التي يجب ردها إلى الله ورسوله كما نص على ذلك
القرآن .
والقاضي قد أنكر على مخالفيه منع الاختلاط ، لعدم وروده في نصوص الكتاب
والسنة بهذا اللفظ ، مع أنهم استدلوا عليه بالعمومات ، وبالقياس ، وبآثار
السلف ، وبما استفاض من كلام علماء السلف والخلف . ورضي لنفسه أن يطلق ما
يشاء من أحكام ، دون أن يذكر عليها دليلا واحدا من كتاب أو سنة أو إجماع أو
قياس أو أثر !
لا تنه عن خلق وتأتي مثله & عار عليك إذا فعلت عظيم .
@ خامسا : ذكر القاضي أنه كتب مقاله السابق في الاختلاط دفاعا عن
وزير العدل ، وأنه رأى ذلك واجبا عليه ، ثم كان اللقاء التلفزيوني دفاعا عن
نفسه وتعقيبا على من خالفه ورد عليه .
وأنا أسأل هذا " المحتسب " : أين أنت من إنكار تلك المنكرات العظيمة
المعلنة ، التي تراها وتسمعها ، وبعضها مما يناقض أصول الإسلام ومبانيه
العظام ؟
وأين دفاعك عن حرمات الإسلام والمسلمين ، التي تنتهك من قبل بعض المفسدين ؟
أليست هي أولى أن تحتسب في الدفاع عنها ، من فتوى المختلطين ؟
و أين أنت من عشرات ، بل مئات المقالات ، التي يلمز فيها الإسلام علانية ،
ويسخر فيها بأحكامه وشرائعه ، ويستهزأ فيها بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
، وبعلماء الأمة ودعاتها المصلحين ؟
ثم أين أنت مما أثاره بعض الجهلة "المختلطين " ، من إباحة الخلوة والمصافحة
والملامسة ... بين الجنسين ؟
أين دفاعك ونصرتك للحق في كل ذلك ؟
أم ترى أن فتوى " الوزير " أحق بالنصرة من شريعة سيد المرسلين ؟
{ والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين } .
ذهب " الرجال " المقتدى بفعالهم & والمنكرون لكل أمر منكر
وبقيت في " خلف " يزكي بعضهم & بعضا ليدفع معور عن معور
@ سادسا : إننا لو فرضنا ، تنزلا ، أن الاختلاط في المدارس
والجامعات ،جائز ، وأن القائلين بالتحريم والمنع قد تشددوا فيه ، فإن
الحكمة تقتضي السكوت عن إشاعة الخلاف ، مراعاة للحال ، وللزمان والمكان ،
وسدا لذريعة الفتنة والفساد .
وقد علم من قواعد الدين ، أن المفتي يلزمه مراعاة أحوال الناس في فتواه ،
والنظر في عواقب الأمور ومآلاتها ، حتى لو اضطر إلى السكوت عن الإفتاء ببعض
السنن ، فكيف بما كان دون ذلك ، مما غايته أن يكون مباحا على البراءة
الأصلية ، كما في مسألة الاختلاط ؟
* ومعلوم أن القول بمنع الاختلاط ، قد اتفقت عليه فتاوى العلماء والقضاة ،
ودرج عليه العامة ، في هذه البلاد ، وأكثرهم قد قبلوه وارتضوه ، وانشرحت له
صدورهم ، لما رأوه من مصالح متعددة ، ولما في نقيضه من مفاسد مترجحة ، أو
متحققة .
فإشاعة الخلاف في مثل هذه الحال ، يؤدي إلى مفاسد كثيرة ، ولا مصلحة فيها
البتة ، هذا فضلا عن مفاسد الاختلاط نفسه .
* فمن تلك المفاسد : إثارة البلبلة والحيرة بين العامة ، وإساءة الظن
بعلماء الأمة ، وانعدام الثقة بحملة العلم الشرعي ، وأكبر من ذلك انفراط
عقد الورع والتقوى ، عند أكثر العوام ، فإنهم سيتساهلون بعد ذلك ،حتى في
المحرمات المنصوص عليها ، لأنهم سيقيسونها على مسألة الاختلاط .
وقد رأينا جميعا ، وأظن أن القاضي قد رأى أيضا ، ما كتبه بعض الناعقين ، من
دعاة السوء ، بعد نشر فتوى الوزير ، وكيف اتخذوها ذريعة للتشكيك في فتاوى
العلماء الراسخين ، مما هو ذريعة إلى التشكيك في الدين ، لأن العوام لا
قدرة لديهم على تمحيص الأمور ، ولا بد لهم من التقليد ، فإذا زعزعت الثقة
بعلمائهم ، فإنهم سيصبحون فريسة لأهل الأهواء ، يقودونهم إلى ما يشاؤون من
أهوائهم وشهواتهم وشبهاتهم .
** فائدة **
كان مذهب علي موافقا لمذهب عمر في منع بيع أمهات الأولاد ، ثم رجع علي بعد
موت عمر إلى أنهن يبعن ، فقال له عبيدة السلماني " رأيك ورأي عمر في
الجماعة أحب إلي من رأيك وحدك في الفرقة "، فقال علي
< اقضوا كما كنتم تقضون ، فإني أكره الاختلاف ، حتى يكون الناس جماعة . . >
البخاري [ 3707 ] .
وانظر الفتح [ 7 / 73 ] .
فقد رجع خليفة المسلمين ، علي بن أبي طالب ، إلى الرأي الأول ، حرصا منه
على جمع الكلمة ، ونبذ الفرقة والخلاف .
@ سابعا : إن القول بجواز الاختلاط ، لو اقتصر على " جامعة معينة "
، لكان أهون من إشاعة القول بجوازه مطلقا ، لأننا لو قدرنا أن هناك مصلحة
راجحة في الاختلاط في تلك "الجامعة " ، فإن هذا لا يقتضي وجودها في
الجامعات الأخرى ، فضلا عن المدارس وغيرها .
ومعلوم أن هناك مئات ، ممن يلتحقن بالجامعات الأخرى في كل عام ، فلو سمح
بالاختلاط فيها أيضا ، فإنه سيحرم أكثرهن من الدراسة فيها ( وأظن هذا مما
يوافقنا عليه حتى القاضي والوزير ، فلا أظنهما سيسمحان لكرائمهما بالاختلاط
) .
هذا وقد بلغنا أن نسبة قبول المواطنين في تلك " الجامعة " أقل من الخمس ( !
) وهذا يقتضي أن تكون نسبة المواطنات فيها لا تتجاوز العشر ( ! ) في أحسن
الأحوال .
فهل يصلح أن يحرم مئات ، بل ألوف الطالبات ، من الالتحاق بالجامعات ، إذا
عمم فيها الاختلاط ( تبعا لفتوى المختلطين ) ، من أجل خاطر ذلك العدد
القليل ( جدا ) من فتيات تلك "الجامعة " !
ومعلوم _ قطعا _ أنك لن تجد أحدا قط ، سيمنع كرائمه من الفتيات من دخول أي
جامعة خاصة بالبنات ، حتى لو كان ممن يبيح الاختلاط ، بل حتى لو كان من
دعاة الشهوات ، بينما ستجد في المقابل كثيرا ممن سيمنع بناته وأخواته من
دخول تلك الجامعات المختلطة .
فمصلحة الأكثر تغلب جانب المنع من إشاعة تلك الفتوى ، حتى لو فرض أنها
صحيحة ، فكيف وهي مخالفة ؟
وبعد ، فقد اختصرت هذا الرد ، ولا يزال في الكلام بقية ، لأن قذف الشبهة
وإثارتها ، يحصل بكلمة ، أو بعبارة مختصرة ، وأما الجواب عليها فقد يحتاج
إلى كلام كثير .
وليس ذلك لقوة الباطل و الشبهة ، بل لجهل أكثر الناس بالحق ، وبمقاصد الشرع
، وانصرافهم عن التفقه في الدين ، واتباع سنن السلف الصالحين .
وإني لا أعجب مما يقذفه بعض الثرثارين من " دعاة التغريب " ، ونحوهم ، من
شبهات حول كل ما له صلة بالعفة والدين ، فإنهم لا يحسنون إلا ذلك ، ولهذا
ترى الواحد منهم لا ينفك عن لمز شعائر الإسلام والسخرية بالصالحين ، في كل
حين .
لكن عجبي لا ينقضي ، ممن انتسب إلى العلم والمشيخة ، كيف يهوي به حب الدنيا
إلى هوة سحيقة من الجهل والعمى ، فيستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ،
ويبيع دينه بعرض من الدنيا قليل .
هذا ، وأسأل الله العظيم الكريم أن يهدينا ويهدي عامة المسلمين إلى ما يحبه
ويرضاه ، من الأقوال والأفعال ،
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين .
كتب : سمير بن خليل المالكي
2 / 2 / 1431