|
بسم الله الرحمن الرحيم
تهافت مقالات اليماني
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وحجة على المخالفين ، نبينا
محمد وعلى آله وصحبه والتابعين .
أما بعد ، فقد ساءني مقال نـجيب اليماني المنشور في صحيفة عكاظ بتاريخ
14/7/1430هـ بعنوان : من تفردات الإمام أحمد ، حيث أتى الكاتب فيه – كعادته
– بالعجائب .
وقد سبق أن رددت عليه في بـحثين سابقين ، الأول بعنوان : حواجز النساء في
المساجد ، والثاني بعنوان : لا نكاح إلا بولي .
وبينت فيهما طريقة نـجيب اليماني الفجة في مقالاته التي يتناول فيها
المسائل الشرعية ، وأنه يـحشر نفسه في زمرة الفقهاء مع أنه لا يـحسن من
الفقه إلا الثرثرة ، ولا ناقة له ولا جمل في علم الفقه ، ولا في علوم
الشريعة كلها .
والكاتب لا يصلح أن يكتب في شيء أصلاً ، ولا أدري ما الذي أعجب المسئولين
في صحيفة عكاظ به وبمقالاته ، حتى ينشروا له كل حين ، ما يشينه ويشين
الصحيفة معه .
والذي أعرفه أن الصحفي لابد أن يكون لديه ما يفيد الناس ، من علم أو أدب أو
شعر أو خبر .
وهناك كتـّاب أعمدة دائمة في عكاظ وفي غيرها ، لهم آراء وكتابات مميزة في
فن معين ، وربما يـحصل من بعضهم تـجاوزات وأخطاء – كعادة كل البشر – لكنهم
مع ذلك كثيراً ما ينتفع بهم وبمقالاتهم ، خاصة في بيان أحوال الناس وهمومهم
ومعاشهم ومشكلاتهم .
لكن صاحبنا – اليماني – لا هو في العير ولا في النفير ، فهو ضيف ثقيل بمعنى
الكلمة ، لا تكاد تعرف ما الذي يريده ، فهو يتكلم لمجرد الكلام ، ويعترض
لقصد الاعتراض ، ويـخترع خصومة مع كل شيخ وكل عالم وكل داعية ، ليحظى
بمنزلة قد قصر عقله وعلمه عنها ، فيريد أن يتسنمها بمداخلات ومناطحات لا
حاجة إليها .
وكنت قد تلطفت مع الكاتب كثيراً في البحثين السابقين ، لأن الكاتب لم
يتواقح في مقاليه ولم يسئ الأدب مع خصومه الذين اخترع الخصومة معهم لحاجة
في نفسه قضاها ، لكنه في هذا المقال انفلت منه زمام الأدب وخطام الحياء ،
وأخذ ينطح يمنة ويسرة ، يريد أن ينال من عالم مشهور وشيخ وقور ، وهو الشيخ
العالم عبدالله بن منيع ، حفظه الله ، وهو غني عن التعريف ، وشهرته وعلمه
وفضله سابق على مناصبه التي تقلدها في القضاء والإفتاء وفي غيرها من
المناصب العليا .
أراد الكاتب المأفون أن ينال من الشيخ العلامة عبدالله بن منيع فاخترع معه
خصومة ، وجعلها مطية يصل بها إلى مبتغاه من الطعن واللمز والتنقص من قدر
الشيخ .
وكل الذي قاله الشيخ الفاضل هو : أن النية شرط في صحة العبادة ، ومنها رفع
الحدث الأصغر والأكبر ، حيث لابد من أن ينوي المحـدث رفعـها حتى تصح طهارته
وصلاته .
وكذا نية صيام الفرض لابد من تبييتها من الليل .
وهذا الذي قاله الشيخ هو الموافق لدلالة النصوص من الكتاب والسنة وآثار
الصحابة وهو قول جماهير أهل العلم قديماً وحديثاً .
فما هو الغريب في هذه الفتوى ؟
وهب أن هناك من أفتى بـخلافها ، فماذا يضير الشيخ إن أفتى بما وافق الدليل
ووافق قول الأئمة ؟
وبـحث النية ومتعلقاتها من أوضح المسائل وأشهرها ، ولا يكاد يـخلو كتاب في
الفقه أو التفسير أو شرح الأحاديث من ذكرها .
وقد افتتح الإمام البخاري صحيحه بالحديث المشهور (( إنما الأعمال بالنيات
وإنما لكل امرئ ما نوى ... )) الحديث .
قال الحافظ ابن حجر " قال النووي : النية القصد ، وهي عزيمة القلب . وتعقبه
الكرماني بأن عزيمة القلب قدر زائد على أصل القصد .
واختلف الفقهاء : هل هي ركن أم شرط ؟ والمرجّح : أن إيجادها ذُكراً في أول
العمل ركن ، واستصحابها حكماً ، بمعنى أن لا يأتي بمنافٍ شرعاً ، شرط ....
" .
ثم ذكر الحافظ أن معنى الحديث " لا عمل إلا بنية " وأنه ليس المراد نفي ذات
العمل ، بل المراد نفي الحكم كالصحة والكمال ، ثم قال " لكن الحمل على نفي
الصحة أولى ..." . إلى أن قال " وقال ابن دقيق العيد : الذين اشترطوا النية
قدروا صحة الأعمال ، والذين لم يشترطوها قدروا كمال الأعمال ، ورجح الأول
بأن الصحة أكثر لزوماً للحقيقة من الكمال ، فالحمل عليها أولى .
وفي هذا الكلام إيهام أن بعض العلماء لا يرى باشتراط النية ، وليس الخلاف
بينهم في ذلك إلا في الوسائل ، وأما المقاصد فلا اختلاف بينهم في اشتراط
النية لها ، ومن ثم خالف الحنفية في اشتراطها للوضوء ، وخالف الأوزاعي في
اشتراطها في التيمم أيضاً . نعم بين العلماء اختلاف في اقتران النية بأول
العمل ، كما هو معروف في مبسوطات الفقه " اهـ . انظر فتح الباري [ 1/13 –
14 ] .
وقد أخرج البخاري في صحيحه حديث الأعمال بالنيات في كتاب الإيمان أيضاً ،
وبوب له بقوله " باب ما جاء إن الأعمال بالنية والحسبة ، ولكل امرئ ما نوى
، فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحج والصوم والأحكام .
وقال الله تعالى { قل كل يعمل على شاكلته } على نيته ... " ثم ذكر الحديث .
قال الحافظ ابن حجر في الفتح [ 1/135 ] في شرح هذا الباب (( قــوله " باب
مـا جاء " أي : باب بيان ما ورد دالاً على أن الأعمال الشرعية معتبرة
بالنية والحسبة ... ))
إلى أن قال (( قوله " والوضوء " ، أشار به إلى خلاف من لم يشترط فيه النية
، كما نقل عن الأوزاعي وأبي حنيفة وغيرهما ، وحجتهم أنه ليس عبادة مستقلة ،
بل وسيلة إلى عبادة ، كالصلاة .
ونوقضوا بالتيمم ، فإنه وسيلة ، وقد اشترط الحنفية فيه النية .
واستدل الجمهور على اشتراط النية في الوضوء بالأدلة الصحيحة المصرحة بوعد
الثواب عليه ، فلا بد من قصد يميزه عن غيره ليحصل الثواب الموعود ... ))
اهـ .
قلت : أفاد كلام الحافظ أن اشتراط النية في العبادات ، ومنها الوضوء ، هو
القول الراجح الموافق لحديث " إنما الأعمال بالنيات " ، وقد استدل به
الجمهور ، ومنهم البخاري أيضاً ، وخالفهم الأوزاعي وأبو حنيفة وغيرهما .
قال الشيرازي في المهذب (( أما الطهارة عن الحدث من الوضوء والغسل والتيمم
فلا يصح شيء منها إلا بالنية لقوله صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال
بالنيات و لكل امرئ ما نوى " ، ولأنها عبادة محضة طريقها الأفعال فلم تصح
من غير نية كالصلاة )) .
قال النووي في الشرح (( فرع : قد ذكرنا أن النية شرط في صحة الوضوء والغسل
والتيمم ، وهذا مذهبنا ، وبه قال الزهري وربيعة شيخ مالك ومالك والليث بن
سعد وأحمد بن حنبل وإسحق وأبو ثور وأبو عبيد وداود .
قال صاحب الحاوي : وهو قول جمهور أهل الحجاز .
وذهبت طائفة إلى أنه يصح الوضوء والغسل والتيمم بلا نية . حكاه ابن المنذر
عن الأوزاعي والحسن بن صالح ، وحكاه أصحابنا عنهما وعن زفر .
وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري يصح الوضوء والغسل بلا نية ، ولا يصح التيمم
إلا بالنية ، وهي رواية عن الأوزاعي ... )) اهـ باختصار .
انظر المجموع شرح المهذب [ 1/311 – 313 ] .
وذكر خليل في مختصره فرائض الوضوء ، ومنها " نيــة رفع الحــدث " قال في
الشـــرح (( هذه هي الفريضة السابعة ، وكان حقها التقديم كما فعل ابن
الحاجب وابن عرفة وغيرهما ، وإنما أخرها المصنف لطول الكلام عليها .
والمذهب أنها فرض في الوضوء . قال في التوضيح : لقوله تعالى { وما أمروا
إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } وقوله عليه الصلاة والسلام " إنما
الأعمال بالنيات " .. )) اهـ . انظر مواهب الجليل في شرح مختصر خليل [
1/331 – 332 ] .
ومن هنا تعلم أن اشتراط النية في العبادات ، ومنها الوضوء والغسل هو قول
الجمهور ، وليس من مفردات الإمام أحمد ولا غيره ، كما زعم الكاتب .
ولنرجع إلى مقال اليماني .
فقد قال " والنية مختلف فيها بين المذاهب ، ولذا فإنه من الأكمل والأجمل
والأقرب إلى الأمانة العلمية في المسائل الخلافية أن يتعرض الشيخ المنيع
إلى أقوال المذاهب الأخرى في المسألة ، ولا يخفي ولا يستبد بمذهبه دون
المذاهب الأخرى ، ففي هذا تضييق على الناس ، فضلاً عن أن كتمان العلم أمر
قبيح مذموم في الإسلام فالاعتراف بأقوال المخالفين من المذاهب الأخرى فضيلة
عظيمة وخلق كريم محمود ... " الخ .
قلت : من أين لهذا المتعالم المتفيقه ، أن المفتي لابد له أن يسرد للناس كل
المذاهب والأقوال في المسألة ؟
ومن قال له بأن من كتم ذكر الأقــوال الأخرى ، حتى لو كانت ضعيفة تـخالف
النصوص ، أنه يعد كاتماً للعلم ! مستبداً بمذهبه ! بعيداً عن الأمانة
العلمية ؟ !
ولعلك أخي القارئ على ذكر من كلام هذا الكاتب في مسألة حواجز النساء في
المساجد حين حكم عليها أولاً بأنها بدعة ، وبأن صلاة الرجال خلف صفوف
النساء باطلة ، حتى مع ارتفاع صفوف النساء عليها في الأدوار العليا ، كما
حكم ببطلان صلاة النساء خلف الحواجز بدون دليل شرعي ، لأن الإمام لم ينو أن
يؤمهن لعدم رؤيته لهن .
ولم ينقل لنا الأستاذ الفقيه اليماني ( حفظه الله ورعاه ) ! الأقوال الأخرى
والمذاهب المخالفة لرأيه وفتواه ، فهل نقول إذاً : إنه خان الأمانة العلمية
، واستبد برأيه ، وأخفى الحق ، وضيق على الناس ، وأتى أمراً قبيحاً بكتمانه
للعلم ؟!! .
وفعل الكاتب مثل ذلك في مقاله الآخر ، في مسألة نكاح المرأة بغير ولي ،
وهذا ديدنه في كل مقالاته .
وليت الكاتب توقف عند هذا الحد في اللمز والطعن في الشيخ المنيع ، بل كرر
سخافاته وأباطيله في بقية مقاله المتهافت .
فقد قال بعد ذلك " وما قاله الشيخ المنيع من عدم صحة الطهارة من غير نية ،
فهذا عند المذهب الحنبلي وحده ، وفيه تضييق ومشقة على الناس ، لا سيما في
أوقات شدة الزحام من الحج والعمرة ، والتي أصبحت على مدار العام . بل إن في
المذاهب الأخرى تصح بعض العبادات ، مثل الطواف ، بلا طهارة أصلاً ، ناهيك
عن اشتراط النية في رفعها ... " الخ ما قاله .
قلت : كذب الكاتب – كعادته – في دعواه أن اشتراط النية للطهارة من مفردات
المذهب الحنبلي ، بل هو قول جمهور الأئمة والعلماء في المذاهب الأخرى ، كما
تقدم بيانه .
وليس غريباً على الكاتب أن يكذب ، ولا أن يتبجح بالكذب ويفضح نفسه على
الملأ .
وليس عجيباً كذلك أن يخلط بين المسائل ، فما دخل مسألة النية في الطهارة
بمسألة الزحام في الحج والعمرة ؟
وأين المشقة والتضييق على الناس في مسألة النية و معلوم أن محلها القلب ولا
تـحتاج إلى مشقة عمل ؟
وليت شعري هل يحتاج الحاج والمعتمر إلى مكان مخصص حتى ينوي فيه الطهارة ؟
لكن الكاتب – كعادته – مولع بالثرثرة ، ومحبة الظهور ، والتعالم ، مع فرط
جهله وسفه عقله وتعصبه لرأيه .
قال ابن القيم : وتعرّ من ثوبين من يلبسهما يلقى الــردى بمـذلة وهــــوان
ثوب من الجهل المركب فوقه ثوب التعصب بئست الثوبان
قلت : والجهل المركب أشد خطراً على صاحبه من الجهل البسيط ، لأنه يجهل
الأمر ويجهل أنه يجهله ، فيظن نفســه عالماً خبيراً بالأمور ، وهو – في
الواقع – على النقيض من ذلك .
ومن ابتلي بمثل هذا الداء لا يكاد يشفى منه ، لأنه لا يعترف بمرضه ، فكيف
يـحرص على شفائه ، بخلاف الجاهل البسيط الذي يرجى شفاؤه بالسؤال ، كما ورد
في الحديث المشهور " إنما شفاء العي السؤال " رواه أبو داود [ 336 ] .
وقد ضرب أهل العلم قديماً لهذا النوع من الجهل ، مثلاً بالحكيم توما ، وكان
يدعي الحكمة والمعرفة ، وهو بخلاف ذلك ، فقالوا :
قال حمار الحــكيم توما لو أنصف الدهر كنت أركب
لأنني جـــــاهل بسيط وصاحبي جاهــل مـــركب
ولنرجع إلى مقال " الحكيم " اليماني ، حيث قال " فالواجب على شيخنا المنيع
، وعلمائنا الأفاضل ، الانفتاح على كافة أقوال أهل العلم ، وعدم التقوقع
والتحيز وضيق الأفق في معالجة المسائل الفقهية ، لا سيما التي يكون فيها
تيسير للناس ورحمة " اهـ .
قلت : حسبنا الله ونعم الوكيل ، أهذا كلام يصدر من عاقل ؟
وكيف بالله ، ينشر مثل هذا السفه والسخف على الملأ ، وفي صحيفة من أشهر
الصحف وأوسعها انتشاراً ؟
كلام لا يمت إلى العلم ولا إلى الأدب بصلة ، وليس فيه إلا اللمز والطعن
والتسفيه بالشيخ العالم المنيع ، بل وبكل العلماء ، لأنه لم يستثن أحداً ،
ووصفهم كلهم بتلك الأوصاف المشينة التي لا تنطبق إلا على الكاتب وأمثاله من
السفهاء الذين خلعوا عنهم رداء الحياء ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم
حيث قال " إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما
شئت " رواه البخاري [ 10/434] .
وقال الشاعر :
يعيش المرء ما
اسـتحيا بـخير ويبقى العود مـا بقي اللحاء
فلا والله مـــا في العيش خير و لا الـدنيا إذا ذهـب الحيـــاء
إذا لم تـخش عاقــبة الليالي ولم تســتح فاصنع ما تشاء
فائدة
لا يشترط للمفتي أن يذكر في فتواه غير مذهبه ورأيه الذي يدين الله به ، ولا
يلزمه أن يذكر الخلاف وأقوال المذاهب الأخرى ، ولا أن يذكر حجته ودليله في
المسألة ، ولــو ذكره فلا بأس .
وانظر إن شئت كلام النووي في مقدمة كتابه " المجموع شرح المهذب " ، في آداب
الفتوى والمفتي [ 1/40 – 54 ] .
وفرق كبير بين كلام العالم في المسألة وفتواه فيها ، وبين التصنيف والتأليف
في مسائل الفقه ، خاصة المصنفات المطولة التي تناقش المذاهب ، كالمغني
والمجموع وفتح القدير ومواهب الجليل وغيرها ، فإنها معنية بذكر المذاهب
وأدلتها .
ولم يزل الفقهاء والعلماء من عصر الصحابة إلى يومنا هذا ، يذكرون القول
الراجح عندهم دون سرد بقية الأقوال وأدلتها ، ولم يعب عليهم أحد سوى
اليماني ، لجهله بآداب العلم والفتوى . ومن هنا تعلم أن ماجاء في مقال
الكاتب – أصلحه الله وهداه – من طعن ولمز وسوء أدب ، لا يقتصر على شيخ
بعينه ، بل يتعدى إلى كل المفتين والعلماء على مر العصور .
وحري بمن كان هذا مبلغ جهله وسفهه ، أن يـحجر عليه قلمه ولسانه ، لا أن
ينشر على الملأ هذيانه ، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل ، وصلى الله
على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
وكتب / سمير
بن خليل المالكي المكي الحسني
جوال 0591114011
تاريخ 18/7/1430هـ