|
بسم الله الرحمن الرحيم
لا نكــاح إلا بــوليّ
الحمدلله وحده والصلاة
والسلام على من لانبي بعده ،
أما بعد : فقد اطلعت على مقال الكاتب نجيب اليماني ، الذي ردّ فيه على
الشيخ الزنداني في مسألة نكاح المرأة من غير ولي ، وقد رأيته كسائر مقالاته
، ليس فيه إلا حشو الكلام ، وتكثير المراجع من غير فائدة ، فقد ذكر اختلاف
العلماء في اشتراط الولي لصحة النكاح ، لكنه أحال القراء إلى عدة كتب
للأحناف ، وكتاب واحد للمالكية . ثم قال " وسبب اختلافهم أنه لم تأت آية
ولا سنة هي ظاهرة في اشتراط الولاية في النكاح ، فضلاً عن أن يكون في ذلك
نص ، بل إن الآيات والسنن التي جرت العادة على الاحتجاج بها عند من يشترطها
هي كلها محتملة " اهـ .
قلت : ما هكذا تورد ياسعد الإبل !
وكان ينبغي أن تسوق المذاهب في المسألة من مصادرها ، ثم تذكر أدلة كل مذهب
، حيث يتمكن القارئ من فهم المسألة ، ويختار لنفسه إن كان من أهل الاختيار
.
وقد سبق أن ذكرت طريقة الأستاذ نجيب في تناوله لمســائل الفقه ، في البحث
السابق : حواجز النساء في المساجد .
وسأذكر للقراء الكرام مذاهب الأئمة وأدلتهم باختصار ، حتى يكونوا على بينة
من الأمر ، ولئلا يغتروا بمقالة الأستاذ نجيب وتهويلاته التي دأب عليها في
سائر مقالاته .
قال في شرح القدير (( قوله " وينعقد نكاح الحرة العاقلة البالغة برضاها ،
وإن لم يعقد عليها ولي بكراً كانت أو ثيباً عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما
الله في ظاهــر الــرواية " ، لقوله عليه السلام " الأيم أحق بنفسها من
وليها " . والأيم اسم لامرأة لا زوج لها ، بكراً كانت أو ثيباً ، عند أهل
اللغة .
وقال مالك والشافعي رحمهما الله ، لا ينعقد بعبارتها أصلاً ، سواء زوجت
نفسها ، أو بنتها ، أو أمتها ، أو توكلت بالنكاح ، لحديث أبي هريرة رضي
الله عنه أنه قال عليه السلام " لا تنكح المرأة المرأة ، ولا المرأة نفسها
، إنما الزانية هي تنكح نفسها " .
وأما من شرط الولي فاستدل بقوله تعالى { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن } .
وقال الشافعي رحمه الله ، هذه الآية أبين آية في كتاب الله تعالى تدل على
أن النكاح لا يجوز بغير ولي ، لأنه نهى الولي عن المنع وإنما يتحقق المنع
منه إذا كان الممنوع في يده .
وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام قال " أيما امرأة نكحت
بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل ، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل
من فرجها لا وكس ولا شطط ، فإن أبى الولي ، فالسلطان ولي من لا ولي له " .
وقال عليه السلام " لا نكاح إلا بولي " .
وأما من جوز النكاح بغير ولي فاستدل بقوله تعالى { فلا جناح عليهن فيما
فعلن في أنفسهن } وقوله تعالى { حتى تنكح زوجاً غيره } وقوله تعالى { أن
ينكحن أزواجهن } .
أضاف العقد إليهن في هذه الآيات ، فدل على أنها تملك المباشرة . والمراد
بالعضل : المنع حبساً ، بأن يحبسها في بيت ويمنعها من التزوج ... " إلى أن
قال " وأما حديث عائشة رضي الله عنها فلا نعمل به ، لأن عائشة رضي الله
عنها هي التي روت ، وقد زوجت بنت أخيها عبدالرحمن وهو غائب .
وعمل الراوي بخلاف ما روى يبطل الرواية ، لما عرف في أصول الفقه . ومداره
على الزهري ، وقد أنكره .
على أنه مخالف للنص فيردّ ، لأن الله تعالى أضاف العقد إليهن في غير موضع .
ولا متمسك له بقوله عليه السلام " لا نكاح إلا بولي " ، لأن هذا نكاح بولي
، لأنها صارت ولية بنفسها بعد البلوغ عن عقل ، كالرجل ، على أنه محمول على
أمة زوجت نفسها بغير إذن مولاها ، وصغيرة ، ومجنونة ، أو على نفي الكمال ،
توفيقاً بين الحديثين )) اهـ .
قلت : وإنما أطلت في نقل كلام الأحناف من أشهر كتبهم ، حتى أبين للقارئ أن
الذين رأوا أن النكاح لا يصح إلا بولي استدلوا بأدلة صريحة جداً ، وهي أقوى
وأظهر من أدلة الأحناف الذين أجازوا النكاح بغير ولي .
وليعلم بأن الأحناف أنفسهم مختلفون في هذه المسألة ، فقد ذكر صاحب الهداية
قبل ذلك أن أبا حنيفة وأبا يوسف في ظاهر الرواية عنه أجازا نكاح الحرة
العاقلة البالغة برضاها بدون ولي ، وفي رواية أخرى عن أبي يوسف أن النكاح
لا ينعقد إلا بولي .
وعند محمد بن الحسن ينعقد نكاحها موقوفاً على إذن الولي .
قلت : فصار في مذهب الأحناف ثلاثة أقوال :
الأول : صحة النكاح بغير ولي .
الثاني : صحته موقوفاً على إذن الولي .
الثالث : عدم صحته .
وأما الجمهور فيرون عدم صحة النكاح بدون ولي ، واستدلوا عليه بالقرآن
وبنصوص الأحاديث الصريـحة في ذلك .
قال ابن قدامة في المغني [ 9/ 345 ] في شرح قول الخرقي " ولا نكاح إلا بولي
وشاهدين من المسلمين " (( في هذه المسألة أربعة فصول :
أحدها : أن النكاح لا يصح إلا بولي ، ولا تملك المرأة تزويج نفسها ولا
غيرها ، ولا توكيل غير وليّها في تزويجها . فإن فعلت ، لم يصح النكاح . روي
هذا عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنهم .
وإليه ذهب سعيد بن المسيب والحسن وعمر بن عبدالعزيز وجابر بن زيد والثوري
وابن أبي ليلى وابن شبرمة وابن المبارك وعبيدالله العنبر ي والشافعي وإسحاق
وابو عبيد .
وروي عن ابن سيرين ، والقاسم بن محمد ، والحسن بن صالح ، وأبي يوسف : لا
يجوز لها ذلك بغير إذن الولي ، فإن فعلت كان موقوفاً على اجازته . وقال أبو
حنيفة لها أن تزوج نفسها وغيرها ، وتوكل في النكاح .... )) الخ .
قلت : وسنذكر بعد قليل الأدلة التي استدل بها ابن قدامة .
وقال ابن عبدالبر في التمهيد [ 19/84 – 85 ] (( في قول رسول الله صلى الله
عليه وسلم " الأيم أحق بنفسها من وليها " ، دليل على أن للولي حقاً في
إنكاح وليته .
وقد اختلف العلماء في هذا المعنى ، فقال منهم قائلون : لا نكاح إلا بولي ،
ولا يجوز للمرأة أن تباشر عقد نكاحها بنفسها دون وليها ، ولا أن تعقد نكاح
غيرها .
وممن قال هذا : مالك ، والشافعي ، وسفيان الثوري ، وابن أبي ليلى ، وابن
شبرمة ، وابن المبارك ، وعبيدالله بن الحسن ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ،
وأبو عبيد ، والطبري .
وروي ذلك عن : عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي هريرة ، .
وهو قول : سعيد بن المسيب ، والحسن ، وعمر بن عبدالعزيز ، وجابر بن زيد أبي
الشعثاء .
وخالف هؤلاء : أهل الرأي من الكوفيين ، وطائفة من التابعين ، وكلهم يقول :
لا ينبغي أن ينعقد نكاح بغير ولي ... )) اهـ .
قلت : ثم ذكر ابن عبدالبر أدلة الفريقين ، بنحو ما ذكره ابن قدامة .
وانظر ما قاله الشافعي في الأم [ 5/12 ] حيث احتج على ذلك بآية { ولا
تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن } , وقال (( ولا أعلم الآية تحتمل غيره ، لأنه
إنما يؤمر بأن لا يعضل المرأة من له سبب إلى العضل ، بأن يكون يتم به
نكاحها من الأولياء .
والزوج إذا طلقها ، فانقضت عدتها ، فليس بسبيل منها فيعضلها ، وإن لم تنقض
عدتها فقد يحرم عليها أن تنكح غيره ، وهو لا يعضلها عن نفسه . وهذا أبين ما
في القرآن من أن للولي مع المرأة في نفسها حقاً .. )) .
ثم قال الشافعي (( وجاءت السنة بمثل معنى كتاب الله عز وجل .
أخبرنا مسلم وسعيد وعبدالمجيد عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن ابن شهاب
عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها ، فنكاحها باطل فنكاحها
باطل فنكاحها باطل ، فإن أصابها فلها الصداق بما استحل من فرجها " ... )) .
ثم ذكر الشافعي أثرين عن العمرين ، ابن الخطاب ، وابن عبدالعزيز ، في رد
نكاح من زوجت نفسها بغير ولي .
ثم قال (( فأي امرأة نكحت بغير إذن وليها فلا نكاح لها ، لأن النبي صلى
الله عليه وسلم قال " فنكاحها باطل " )) اهـ . باختصار .
و قال صاحب المهذب ، في بيان مذهب الشافعية " لا يصح النكاح إلا بولي ، فإن
عقدت المرأة لم يصح " . انظر المجموع [ 16/146 ] .
وقال ابن حزم في المحلى [ 9/451 ] " ولا يحل للمرأة نكاح ، ثيباً كانت أو
بكراً ، إلا بإذن وليها " .
ثم شرع في ذكر الأدلة على ذلك ، من القرآن والسنة ، وأجاب عن اعتراضات
الأحناف عليها .
وقال ابن تيمية " الذي عليه العلماء أنه " لا نكاح إلا بولي " و " أيما
امرأة تزوجت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل "
، وكلا هذين اللفظين مأثور في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم .."
إلى أن قال " ولهذا قال من قال من السلف : إن المرأة لا تنكح نفسها ، وإن
البغي هي التي تنكح نفسها .
لكن إن اعتقد هذا نكاحاً جائزاً كان الوطء فيه وطء شبهة ، يلحق الولد فيه ،
ويــرث أباه . وأما العقوبة ، فإنهما يستحقان العقوبة على مثل هذا العقد "
اهـ .
انظر مجموع الفتاوى [ 32/102 – 103 ] .
وذكر ابن تيمية في موضع آخر أيضاً أن اشتراط الولي مما دل عليه القرآن في
أكثر من موضع ، وكذا السنة ، وقال " وهو عادة الصحابة ، إنما كان يزوج
النساءَ الرجالُ ، لا يعرف أن امرأة تزوج نفسها .
وهذا مما يفرق فيه بين النكاح ومتخذات أخدان ، ولهذا قالت عائشة : لا تزوج
المرأة نفسها ، فإن البغي هي التي تزوج نفسها " اهـ . انظر المجموع [
32/131 ] .
واحتج ابن القيم في زاد المعاد [ 5/92 ] بالأحاديث الصريحة في بطلان النكاح
بغير ولي .
وقال الشوكاني (( لما أمر الله سبحانه بإنكاح النساء ، كان أولياء المرأة
ممن دخل في هذا الخطاب دخولاً أولياً ، فكانوا أحق بإنكاحها من هذه الحيثية
.
ثم جاءت السنة الصحيحة بأنه " لا نكاح إلا بولي " ، وأن النكاح بغير ولي
باطل . وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن الأولياء " إذا اشتجروا فالسلطان
ولي من لا ولي له " )) .
ثم قال الشوكاني (( وقد ذهب إلى اعتبار الولي جمهور السلف والخلف ، حتى قال
ابن المنذر : إنه لا يُعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك )) . انظر السيل
الجرار [ 2/259 ] .
وقال الصنعاني في سبل السلام [ 3/992 ] في شرح حديث أبي هريرة " لا تزوج
الـمرأة المـرأة ، ولا تزوج المرأة نفسها " (( فيه دليل على أن المرأة ليس
لها ولاية في الإنكاح لنفسها ولا لغيرها ، فلا عبارة لها في النكاح إيجاباً
ولا قبولاً ، فلا تزوج نفسها بإذن الولي ولا غيره ، ولا تزوج غيرها بولاية
ولا بوكالة ، ولا تقبل النكاح بولاية ولا وكالة . وهو قول الجمهور .
وذهب أبو حنيفة إلى تزويج العاقلة البالغة نفسها وابنتها الصغيرة ،
وتــتوكل عن الغير .. )) ا هـ .
ثم ذكر الصنعاني أدلة الجمهور على اشتراط الولي ، وإبطال النكاح بدونه .
وقال صديق حسن خان في الروضة الندية [ 2/11 ] بعد أن سرد بعض الأحاديث
السابقة (( أقول : الأدلة الدالة على اعتبار الولي ، وأنه لا يكون العاقد
سواه ، وأن العقد من المرأة لنفسها بدون إذن وليها باطل ، قد رويت من طريق
جماعة من الصحابة ، فيها الصحيح والحسن وما دونهما ، فاعتباره متحتم )) .
اهـ .
قلت : وقد استدل الجمهور بأدلة صحيحة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله
عليه وسلم وآثار الصحابة على اشتراط الولي في النكاح ، ومنها :
الدليل الأول
قول الله تعالى { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن } [ الآية 232 البقرة ] ،
وقد تقدم قول الشافعي إن هذه الآية أبين ما في القرآن من أن للولي مع
المرأة في نفسها حقاً )) .
وقال ابن عبدالبر في التمهيد [ 19/90 ] " هذا أصح شيء وأوضحه في أن للولي
حقاً في الإنكاح ، ولانكاح إلا به ، لأنه لولا ذلك ما نهي عن العضل ،
ولاستغني عنه " .
قلت : وقد اعترض الأحناف على الاستدلال بهذه الآية باعتراضات ، منها :
أ – أن الآية أضافت العقد إليهن في قوله { فلا تعضلوهن أن ينكحن } .
فدل على أنها تملك مباشرة العقد ، والمراد بالعضل المنع حبساً ، بأن يحبسها
في بيت ويمنعها من التزوج .
ب – أو : هذا خطاب للأزواج ، لا للأولياء ، لافتتاح الآية بذكرهم ، فقال {
وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن } ، والمعنى : أن من طلق امرأته وانقضت
عدتها ، فليس له أن يمنعها من التزوج بزوج آخر . انظر فتح القدير [ 3/159 ]
.
وأجاب الجمهور على هذه الاعتراضات بأن :
أ – سبب نزول الآية صريح في أن الخطاب للأولياء ، لأنها نزلت في معقل بن
يسار حين زوّج أخته من رجل ، ثم طلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يـخطبها ،
فقال معقل " لا والله لا تعود إليك أبداً " فأنزل الله الآية ، فقال معقل "
الآن أفعل يا رسول الله " . رواه البخاري [ 5130 ] .
وقد ذكر الأئمة ومنهم الشافعي ، أن الآية صريحة في اعتبــار الولي وإلا لما
كان لعضله معنى . قال الصنعاني " فلو كان لها تزويج نفسها لم يعاتب أخاها
على الامتناع ، ولكان نزول الآية لبيان أنها تزوج نفسها . وبسبب نزول الآية
يعرف ضعف قول الرازي : إن الضمير للأزواج ، وضعف قول صاحب نهاية المجتهد :
إنه ليس في الآية إلا نهيهم عن العضل ، ولا يفهم منه اشتراط إذنهم في صحة
العقد لا حقيقة ولا مجازاً ، بل قد يفهم منه ضد هذا ، وهو أن الأولياء ليس
لهم سبيل على من يلونهم . اهـ .
ويقال عليه : قد فهم السلف شرط إذنهم في عصره صلى الله عليه وسلم ، وبادر
من نزلت فيه إلى التكفير عن يمينه والعقد .
ولو كان لا سبيل للأولياء لأبان الله تعالى غاية البيان ، بل كرر تعالى كون
الأمر إلى الأولياء في عدة آيات ، ولم يأت حرف واحد أن للمرأة إنكاح نفسها
.
ودلت أيضاً على أن نسبة النكاح إليهن في الآيات مثل { حتى تنكح زوجاً غيره
} ، مراد به الإنكاح بعقد الولي ، إذ لو فهم صلى الله عليه وسلم أنها تنكح
نفسها ، لأمرها بعد نزول الآية بذلك ، ولأبان لأخيها أنه لا ولاية له ، ولم
يبح له الحنث في يمينه ، والتكفير " اهـ . سبل السلام [ 3/992 ] .
قلت : جاء في سنن أبي داود [ 2087 ] ، في آخر حديث معقل " قال : فكفّرت عن
يميني فأنكحتها إياه "
ب – وأما افتتاح هذه الآية بذكر الأزواج ، بقوله تعالى { وإذا طلقتم } ،
فهو أسلوب عربي معروف ، فلا يمنع أن يفتتح بذكر الأزواج ثم يوجه الخطاب إلى
الأولياء ، وسبب النزول المذكور دل على ذلك ، ومن ذلك قوله تعالى {
واستشهدوا شهيدين من رجالكم } فخاطب المتبايعين ، ثم قال تعالى { ممن ترضون
من الشهداء } ، فخاطب الحكام . وهذا كثير في لغة العرب . انظر التمهيد [
19/85 ] .
الدليل الثاني
قوله تعالى { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } . الآية [ البقرة 222 ] .
الدليل الثالث
قولــه تعالى { و أنكحوا الأيامـى منكم والصــالحين من عبــادكم وإمــائكم
} . الآيــة [ النور 32 ] .
قال سيد سابق " ووجه الاحتجاج بالآيتين : أن الله تعالى خاطب بالنكاح
الرجال ، ولم يخاطب به النساء " . انظر فقه السنة [ 2/126 ] .
قلت : وقد استدل بهاتين الآيتين ، وبالآية السابقة أيضاً ، البخاري في
صحيحه ، في كتاب " النكاح " ، باب " من قال : لا نكاح إلا بولي " .
وانظر الفتح [ 9/182 ] ، وانظر كذلك التمهيد لابن عبدالبر [ 19/94 ] .
الدليل الرابع
حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أيما امرأة نكحت بغير إذن
وليها ، فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، فإن دخل بها فالمهر
لها بما استحل من فرجها ، فإن اشتجروا ، فالسلطان ولي من لا ولي له " .
رواه أبــو داود [ 2083 ] والتــرمذي [ 1102 ] وابن مــاجه [ 1879 ]
وصــححه ابن حبــان [ 1248 ] والحاكم في المستدرك [ 2/168 ] ورواه البيهقي
في سننه [ 7/105 ] .
قلت : وقد حسن الترمذي هذا الحديث وقال (( والعمل في هذا الباب على حديث
النبي صلى الله عليه وسلم " لا نكاح إلا بولي " عند أهل العلم ، من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم ، منهم : عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ،
وعبدالله بن عباس ، وأبو هريرة ، وغيرهم .. ))
إلى أن قال (( وبهذا يقول سفيان الثوري ، والأوزاعي ، ومالك ، وعبدالله بن
المبارك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق )) اهـ .
انظر الآثار عن الصحابة والتابعين في مصنف عبدالرزاق [ 6/195 – 202 ] .
وقد أعل الأحناف هذا الحديث بثلاث علل :
الأولى : أن مدار الحديث على الزهري ، وقد أنكر ما رواه ، لما سئل عنه .
الثانية : أن الزهري أجاز أن تتزوج المرأة بغير ولي .
الثالثة : أن عائشة رضي الله عنها خالفت ما روته ، حيث زوجت بنت أخيها
عبدالرحمن ، وهو غائب ، وعمل الراوي بخلاف ما روى يبطل الرواية ، كما تقرر
في أصول الفقه .
وانظر فتح القدير [ 3/159 ] والمحلى لابن حزم [ 9/452 ] .
وقد أجاب الجمهور على هذه العلل بأجوبة ، وإليك التفصيل :
أما جوابهم عن العلة الأولى ، فقد قال ابن عبدالبر " روى هذا الحديث
إسماعيل بن علية عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة
، كما رواه غيره .
وزاد ( أي ابن علية ) عن ابن جريج قال : فسألت عنه الزهري فلم يعرفه " .
قال ابن عبدالبر " ولم يقل هذا أحد عن ابن جريج غير ابن علية ، وقد رواه
عنه جماعة لم يذكروا ذلك " .
قلت : يقصد ابن عبدالبر أن هذا الحديث قد رواه جمع من الحفاظ ، سوى إسماعيل
بن علية ، من طريق ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة
. ولم يذكر أحد من أولئك الرواة الحفاظ مثل ما ذكره إسماعيل بن علية عن ابن
جريج من إنكار الزهري لهذا الحديث .
ثم قال ابن عبدالبر " ولو ثبت هذا عن الزهري ، لم يكن في ذلك حجة ، لأنه قد
نقله عنه ثقات ، منهم : سليمان بن موسى ، وهو فقيه ثقة إمام ، وجعفر بن
ربيعة ، والحجاج بن أرطاه .
فلو نسيه الزهري ، لم يضره ذلك شيء ، لأن النسيان لا يعصم منه إنسان . قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " نسي آدم فنسيت ذريته " . وإذا كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم ينسى ، فمن سواه أحرى أن ينسى . ومن حفظ فهو حجة
على من نسي .
فإذا روى الخبر ثقة عن ثقة ، فلا يضره نسيان من نسيه ، هذا لو صح ما حكى
ابن علية عن ابن جريج .
فكيف وقد أنكر أهل العلم ذلك من حكايته ، ولم يعرجوا عليه ... " انظر
التمــهيد [ 19/86 ] .
قلت : مراد ابن عبدالبر ، أنه لو فرض أن الراوي ، وهو الزهري ، الذي قد
حدّث بحديث ، سمعه منه ثقات ، ثم نسي هو ما حدثهم به فإننا لا نعوِّل على
نسيانه ، بل نأخذ بما حفظه الثقات ، لأن من حفظ حجة على من نسي ، لا العكس
.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نسي بعض الأمور ، وذكره أصحابه بها .
فإذا جاز على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، فمن عداه أولى .
وهذا كله على فرض أن الزهري أنكر الرواية ونسيها .
فكيف إذا علمنا أنه لم يثبت أن الزهري أنكر الرواية ، وإنما أخطأ بعض من
حدّث عنه أنه نسيها ، فالرواية ثابتة على كل الأحوال .
وقد أطال الحاكم في المستدرك [ 2/168 – 169 ] في الانتصار لهذا الحديث
وتصحيحه ، ومما قاله " فقد صح وثبت بروايات الأئمة الأثبات سماع الرواة
بعضهم من بعض ، فلا تعلل هذه الروايات بحديث ابن علية وسؤاله ابن جريج عنه
، وقوله : إني سألت الزهري عنه فلم يعرفه ، فقد ينسى الثقة الحافظ الحديث
بعد أن حدث به ، وقد فعله غير واحد من حفاظ الحديث " .
ثم ذكر الحاكم أن الإمام أحمد أنكر ما روي عن ابن جريج من أن الزهري سئل عن
الحديث فأنكره أو نسيه .
قال أحمد " إن ابن جريج له كتب مدونة ، وليس هذا في كتبه " .
وذكر الحاكم أيضاً نـحو ذلك عن الإمام ابن معين ، حيث قال " ليس يقول هذا
إلا ابن علــية ، وإنما عرض ابن علية كتب ابن جريج على عبدالمجيد بن
عبدالعزيز بن أبي رواد فأصلحها له ... " .
قلت : ومثله قال البيهقي في السنن [ 2/105 – 106 ] ، فقد أخرج الحديث
وانتصر له ونقل عن الإمام أحمد وابن معين مثل ما نقل الحاكم ، وزاد في كلام
ابن معين " وضعف يحي بن معين رواية إسماعيل عن ابن جريج جداً " اهـ .
وانتصر لتصحيح هذا الحديث جمع من الأئمة وردوا رواية ابن علية عن ابن جريج
، ومنهم الترمذي وابن حبان وابن عدي والدارقطني وابن الجوزي ، وغيرهم .
انظر التلخيص الحبير للحافظ ابن حجر [ 3/ 157 ] .
وقال ابن حزم في المحلى [ 9/452 – 453 ] ، بعد أن نقل نـحو ما تقدم ، وأن
النبي صلى الله عليه وسلم نفسه نسي آية ، ذكّره بها رجل كان يقرأ بها في
المسجد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " رحمه الله لقد ذكرني آية كنت
أنسيتها " .
فقال ابن حزم " فإذا صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نسي آية من القرآن
، فمن الزهري ؟ ... ، وقد نسي أبو هريرة حديث " لا عدوى " ، ونسي الحسن
حديث " من قتل عبده " ، ... فكان ماذا ؟
لا يعترض بهذا إلا جاهل ، أو مدافع للحق بالباطل !
ولا ندري في أي القرآن ، أم في أي السنن ، أم في أي حكم العقول وجدوا ، أن
: من حدّث بحديث ، ثم نسيه ، أن حكم ذلك الخبر يبطل ؟ .. " اهـ .
قلت : قد تبين لك مذهب المحدثين في مسألة نسيان الراوي للحديث ، وأنه لا
يطعن في صحته ، لجواز النسيان على بني آدم .
وللفقهاء كلام في هذه المسألة ذكروه في كتب الأصول ومثلوا لها بهذا الحديث
.
قال الغزالي في المستصفى [ 1/167 ] (( مسألة إذا أنكر الشيخ الحديث إنكار
جاحد قاطع بكذب الراوي ولم يعمل به لم يصر الراوي مجروحاً .. ))
إلى أن قال (( أما إذا أنكر إنكار متوقف ، وقال : لست أذكره ، فيعمل بالخبر
، لأن الراوي جازم أنه سمعه منه ، وهو ليس بقاطع في تكذيبه ، وهما عدلان ،
فصدقهما إذاً ممكن .
وذهب الكرخي إلى أن نسيان الشيخ الحديث يبطل الحديث ، وبنى عليه اطَّراح
خبر الزهري " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها " .. ))
إلى أن قال الغزالي (( وقد ذهب إلى العمل به مالك والشافعي وجماهير
المتكلمين ، وهذا لأن النسيان غـالب على الإنســان ، وأي مُحدّث يحفظ في
حينه جمــيع مــا رواه في عمره ؟ .. )) اهـ . باختصار .
قلت : وقد أطلت كثيراً في نقل جواب الأئمة الحفاظ على تلك العلة ، وهي كون
الزهري ، أحد رواة الحديث ، قد أنكر ما رواه ، أو نسيه بعد ما حدث به .
أردت بذلك أن أنبه القارئ الكريم أن مثل هذه المسائل لا يصلح أن يقحم
الصحفيون ، ولا أنصاف الباحثين ، أنفسهم في الخوض فيها ، ولا ينبغي لهم
أبداً أن يطعنوا في الروايات بمجرد أنهم قرأوا في كتاب ما من كتب المذاهب ،
أن تلك الرواية ضعيفة أو محتملة ، هذا لو فرض أن أولئك الصحفيين قد بحثوا
بأنفسهم !
ولنرجع إلى الجواب عن العلة الثانية ، وهي : أن الزهري أفتى بغير ما روى ،
فأجاز للمرأة أن تتزوج من دون ولي . والعلة الثالثة أيضاً مثلها ، وهي أن
عائشة رضي الله عنها قد أنكحت ابنة أخيها ، وكان غائباً .
والجواب على هاتين العلتين مقرر في الأصول ، وهو : إذا خالف الراوي ما رواه
، فهل يؤخذ بروايته ، أم برأيه ومذهبه ؟
والمسألة مفصلة في كتب أصول الفقه ،
قال أبو الخطاب في التمهيد في أصول الفقه [ 3/193 – 194 ] " إذا روى
الصحابي شيئاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وخالفه ، لم يدل ذلك على ضعف
الخبر ، ولا على نسخه ، وهذا كخبر عائشة رضي الله عنها في ولاية المرأة
لعقد النكاح , وبه قال الشافعية .
وقال الحنفية : يسقط العمل بالحديث , وعن أحمد نـحوه .
لنا : أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم حجة يجب العمل بها , فإذا ترك
الراوي العمل , احتمل أن يكون قد نسي الخبر , أو تأوله , أو أن ذلك قد نسخ
, فوقف فعل الراوي حتى يتبين , وبقي قول الرسول صلى الله عليه وسلم , فوجب
المصير إليه .
احتجوا : بأن الصحابي مع فضله لا يـجوز مخالفته للرسول صلى الله عليه وسلم
, فإذا عمل بـخلاف الخبر , دل على أنه علم نسخه .
الجواب : أنه يحتمل ذلك , ويحتمل ما ذكرنا , فوقف , فلا يترك ما هو حجة
لغير حجة .
ثم لو كان عرف ما نسخه لذكره ورواه , ولو مرة في العمر , لأنه لا يظن به
كتمان العلم , فلما لم يذكر , دل على أنه نسيه " ا هـ .
و قال البيضاوي في نهــاية الســول [ 3/167 ] " عمل الراوي على خلاف ما
رواه لا يكون قدحاً في ذلك الحديث ، كما نقله الإمام وغيره عن الشافعي ،
واختاره هو وأتباعه والآمدي .
ونقل عن الأكثرين أنه يقدح ... " اهـ .
وقد فصل بعضهم بين مخالفة الصحابي لما رواه بحسب دلالة الحديث ، فإن كانت
ظاهرة في معنى ، وحمل الصحابي الحديث على غير ظاهره ، فالاعتبار بالظاهر لا
بما رآه الصحابي .
قال ابن الحاجب " إن حمله على غير ظاهره ، فالأكثر على الظهور ، وفيه قال
الشافعي : كيف أترك الحديث بقول من لو عاصرته لحججته .
فلو كان نصاً ، فيتعين نسخه عنده ، وفي العمل نظر " .
قال الشارح " .. إن كان ظاهراً في معنى ، وحمله على غير ظاهره فالأكثر على
أنه يعتبر ظهوره ، فيحمل على ظاهره .. "
إلى أن قال الشارح " وأما لو كان نصاً ، فيتعين أنه قد نسخ عنده بناسخ ،
اطلع هو عليه ورآه ناسخاً ، وفي العمل نظر ، فيمكن أن يقال : يعمل بالخبر ،
إذ ربما ظن ناسخاً ، ولم يكن .
وأن يقال : يعمل بالناسخ ، لأن خطأه فيه بعيد .. " اهـ . انظر مختصر ابن
الحاجب وبهامشه حاشية التفتازاني [ 2 / 72 ] .
قلت : وهذا كله فيما لو كان المخالف لما رواه هو الصحابي ، أما من دون
الصحابي فلا يعتد بمخالفته لما رواه .
وقد رأيت أن المسألة فيها خلاف بين علماء الأصول ، ولولا خشية الإطالة
لنقلت أجوبتهم واعتراضاتهم .
وقد علمت أن المحدثين ، وأكثر الفقهاء ، قد صححوا الحديث واحتجوا به ، أعني
حديث عائشة رضي الله عنها ، ولم يلتفتوا إلى رأيها وفتواها .
هذا كله على فرض أن عائشة رضي الله عنها قد خالفت ما روته ، فكيف وهي لم
تـخالفه ، بل وافقته وعملت بمقتضاه ؟
قال ابن حزم " وأما اعتراضهم بأنه صح عن عائشة وعن الزهري رضي الله عنهما
أنهما خالفا ما رويا من ذلك ، فكان ماذا ؟ إنما أمرنا الله عز وجل ورسوله
صلى الله عليه وسلم ، وقامت حجة العقل بوجوب قبول ما صح عندنا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وبسقوط اتباع قول من دونه عليه الصلاة والسلام .. " .
ثم روى ابن حزم بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أنها أنكحت رجلاً من بني
أخيها جارية من بني أخيها ، فضربت بينهم ستراً ، ثم تكلمت ، حتى إذا لم يبق
إلا النكاح أمرت رجلاً فأنكح ، ثم قالت : ليس إلى النساء النكاح " .
قال ابن حزم " فصح يقيناً بهذا رجوعها عن العمل الأول إلى ما نبهت عليه ،
من أن نكاح النساء لا يـجوز " اهـ . انظر المحلى [ 9/453 – 454 ] .
وقد أخرج البيهقي في السنن [ 7/112 ] رواية عائشة هذه التي ذكرها ابن حزم
من طريق القاسم قال " كانت عائشة رضي الله عنها تـخطب إليها المرأة من
أهلها ، فتشهّد ، فإذا بقيت عقدة النكاح قالت لبعض أهلها : زوّج : فإن
المرأة لا تلي عقد النكاح " .
قال البيهقي " هذا الأثر يدل على أن الذي أخبرنا أبو نصر بن قتادة ... " ثم
ساق الإسناد إلى عائشة رضي الله عنها " أنها زوجت حفصة بنت عبدالرحمن من
المنذر بن الزبير ، وعبدالرحمن غائب بالشام ، فلما قدم عبدالرحمن قال :
مثلي يصنع هذا به و يُفتاتُ عليه ، فكلمت عائشة رضي الله عنها المنذر بن
الزبير ، فقال المنذر : فإن ذلك بيد عبدالرحمن ، فقال عبدالرحمن : ما كنت
لأرد أمراً قضيته ، فقرت حفصة عند المنذر ، ولم يكن ذلك طلاقاً .. " .
قال البيهقي " إنما أريد به أنها مهدت تزويـجها ، ثم تولى عقد النكاح غيرها
فأضيف التزويج إليها لإذنها في ذلك وتمهيدها أسبابه ، والله أعلم " اهـ .
قال الحافظ في الفتح [ 9/186 ] بعد أن ذكر أثر عائشة في تزويـجها لابنة
أخيها عبدالرحمن وهو غائب (( وأجيب بأنه لم يرد في الخبر التصريح بأنها
باشرت العقد ، فقد يحتمل أن تكون البنت المذكورة ثيباً ، ودعت إلى كفء ،
وأبوها غائب ، فانتقلت الولاية إلى الولي الأبعد أو إلى السلطان .
وقد صح عن عائشة أنها " أنكحت رجلاً من بني أخيها ، فضربت بينهم بستر ، ثم
تكلمت ، حتى إذا لم يبـق إلا العقـد أمـرت رجلاً فأنكح ، ثم قالت : ليس إلى
النساء نكاح " . أخرجه عبدالرزاق )) اهـ .
قلت : ومن عجائب الأحناف أنهم عمدوا إلى تأويل حديث عائشة " أيما امرأة
نكحت " بتأويل غريب لا وجه له .
حيث زعموا أنه مخصوص بالأمة أو المكاتبة أو الصغيرة .
وقد رد عليهم الجمهور ، وسطروه في كتب الأصول في مبحث " التأويل " ، حيث
ذكروا أمثلة لتأويلات الأحناف البعيدة ، وذكروا منها هذا المثال .
قال ابن النجار (( وتأويلهم قول النبي صلى الله عليه وسلم " أيما امرأة
نكــحت نفسها ..." الحديث . على الصغيرة والأمة والمكاتبة .
ووجْه بـُعْد هذا التأويل ، أن الصغيرة ليست بامرأة في لسان العرب . وقد
ألْزِموا بسقوط هذا التأويل على مذهبهم ، فإن الصغيرة لو زوّجت نفسها ، كان
العقد عندهم صحيحاً ، لا يتوقف على إجازة الولي .
فلما ألزموا بذلك فرّوا إلى حمله على الأمة ، فألزموا ببطلانه ، بقول النبي
صلى الله عليه وسلم " فلها المهر " ، ومهر الأمة إنما هو لسيدها .
ففرّوا من ذلك إلى حمله على المكاتبة ، فقيل لهم هو أيضاً باطل ، لأن حمل
صيغة العموم الصريحة وهي " أي " ، المؤكدة ب " ما " معها ، في قوله " أيما
" ، على صورة نادرة لا تـخطر ببال المخاطبين غالباً ، في غاية البعد )) اهـ
.
انظر شرح الكوكب المنير [ 3/467] .
الدليل الخامس
حديث أبي موسى الأشــعري رضي الله عنه أن رســول الله صلى الله عليه وسلم
قـال " لا نكاح إلا بولي " .
رواه أبو داود [ 2085 ] والترمذي [ 1101 ] وأحمد [ 4/398 ] وصححه ابن حبان
[ 1243 ] والحاكم [ 2/169 ] .
وقد اختلف في وصل هذا الحديث وإرساله ، ورجح الوصل كثير من المحدثين ، منهم
الترمذي وابن حبان والحاكم .
وقد ذكر الحاكم في المستدرك الخلاف في الوصل والإرسال ، وأطال في ترجيح
الوصــــل ، و قال " هذه الأسانيد كلها صحيحة " .
و قال " وقد وصله الأئمة المتقدمون .. وقد حكموا لهذا الحديث بالصحة .. " .
ثم نقل التصحيح عن عبدالرحمن بن مهدي وعلي بن المديني وأبي الوليد الطيالسي
و محمد بن يحي وغيرهم .
ثم قال الحاكم " فقد استدللنا بالروايات الصحيحة ، وبأقاويل أئمة هذا العلم
، على صحة حديث أبي موسى ، بما فيه غنية لمن تأمله " .
ثم قال " وفي الباب عن علي بن أبي طالب وعبدالله بن عباس ومعاذ بن جبل
وعبدالله بن عمر وأبي ذر الغفاري والمقــداد بن الأســود و عبدالله بن
مســعود و جــابر بن عبدالله وأبي هريرة و عمران بن حصين و عبدالله بن عمرو
والمسور بن مخرمة و أنس بن مالك رضي الله عنهم ، وأكثرها صحيحة .
وقد صحت الروايات فيه عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم : عائشة ، وأم
سلمة ، و زينب بنت جحش رضي الله عنهم أجمعين " اهـ . المستدرك [ 2/170 –
172 ] .
قلت : وعلى فرض أن حديث أبي موسى هذا كان مرسلاً ، فإن المرسل قد قبله
واحتج به أكثر الفقهاء ، ومنهم الأحناف ، فيلزمهم الأخذ بهذا الحديث على كل
حال . انظر المستصفى للغزالي [ 1/107 ] وتدريب الراوي [ 1/128 ] .
وأما المحدثون ، فإنهم اختلفوا في الاحتجاج بالمرسل ، وقد احتج به أكثر
المتقدمين ، وأما المتأخرون فهو عندهم من أقسام الضعيف ، كما هو مقرر في
كتب المصطلح المتأخرة .
قال الحافظ ابن رجب " القول الثاني في المسألة : الاحتجاج بالمرسل ، وحكاه
الترمذي عن بعض أهل العلم .. وقد قال أحمد في مراسيل النخعي : لا بأس بها .
وقال ابن معين : مرسلات ابن المسيب أحب إلي من مرسلات الحسن ، ومرسلات
إبراهيم صحيحة ، إلا حديث : تاجر البحرين ، وحديث : الضحك في الصلاة ... "
إلى أن قال ابن رجب " وقد استدل كثير من الفقهاء بالمرسل ، وهو الذي ذكره
أصحابنا أنه الصحيح عن الإمام أحمد .. "
إلى أن قال " وقال أبو داود السجستاني في رسالته إلى أهل مكة " وأما
المراسيل ، فقد كان يحتج بها العلماء فيما مضى ، مثل سفيان الثوري ومالك بن
أنس والأوزاعي ، حتى جاء الشافعي فتكلم فيه ، وتابعه على ذلك أحمد بن حنبل
وغيره " .
ثم قال ابن رجب " وقد ذكر ابن جرير وغيره : أن إطلاق القول بأن المرسل ليس
بحجة من غير تفصيل ، بدعة حدثت بعد المئتين .. " اهـ . باختصار من شرح
العلل لابن رجب [ 1/294 – 320 ] .
وقال ابن عبدالبر ، في تعليقه على حديث أبي بردة عن أبيه أبي موسى " روى
هذا الحديث شعبة والثوري عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه
وسلم مرسلاً .
فمن يقبل المراسيل يلزمه قبوله ، وقد مضى في صدر هذا الديوان ذكر من يقبلها
ويحتج بها من العلماء ، ومن يأبى قبولها .
وأما من لا يقبل المراسيل ، فيلزمه أيضاً قبول حديث أبي بردة هذا ، لأن
الذين وصلوه من أهل الحفظ والثقة .. " اهـ . انظر التمهيد [ 19 / 88 ] .
قلت : وقد تقدم من كلام الحاكم أن هذا الحديث " لا نكاح إلا بولي " قد رواه
جمع من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وســمى منهم ثلاثة عشر
صحابياً ، وقال " وأكثرها صحيحة " .
وانظر إرواء الغليل للألباني [ 6/238 – 243 ] .
الدليل السادس
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا
تزوج المرأة المرأة ، ولا تزوج المرأة نفسها ، فإن الزانية هي التي تزوج
نفسها " .
رواه ابن ماجه [ 1882 ] والبيهقي [ 7/110 ] .
وقد رواه البيهقي أيضاً موقوفاً على أبي هريرة .
الدليل السابع
حديث عائشة رضي الله عنها المشهور " أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة
أنـحاء : فنكاح منها : نكاح الناس اليوم ، يخطب الرجل إلى الرجل وليّته أو
ابنته فيصدقها ثم ينكحها ... " الحديث ، وفيه قالت " فلما بعث محمد صلى
الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله ، إلا نكاح الناس اليوم " .
رواه البخاري [ 5127 ] واحتج به على اشتراط الولي .
وقد استدل الجمهور بآثار كثيرة عن جمع من الصحابة ، منهم عمر بن الخطاب
وعلي بن أبي طالب وابن عباس وأم المؤمنين حفصة بنت عمر ، رضي الله عنهم .
انظر سنن البيهقي [ 7/111 – 112 ] والمحلى [ 9/454 ] وإرواء الغليل [ 6/245
-249 ] .
وقد تركت ذكرها ، واكتفيت بالإشارة إليها خوف الإطالة .
وأما الآثار عن التابعين فهي أيضاً كثيرة ، لكنها معارضة بآثــار أخرى عن
بعض التابعين ، وقد ذكرها ابن عبدالبر في التمهيد [ 19/90 – 91 ] .
لكنه قال " فقد صرح الكتاب والسنة بأن " لا نكاح إلا بولي " ، فلا معنى لما
خالفهما ، ألا ترى أن الولي نُهي عن العضل ، فقد أُمر بخلاف العضل – وهو
التزويج – كما أن الذي نُهي عن أن يبخس الناس ، قد أمر بأن يوفي الكيل
والوزن ، وهذا بيّن كثــير ، وبالله التوفيق " اهـ .
وانظر المحلى لابن حزم [ 9/455 – 458 ] حيث فصل في ذكر مذاهب القائلين بعدم
اشتراط الولي ، وذكر اختلافهم في ذلك ، وردّ عليهم بالأدلة الصريحة
المتقدمة ، وردّ عليهم كذلك بأن أقوالهم متناقضة ، وأنها تـخالف بعض أصولهم
وتـخالف القياس أيضاً .
ومما قاله في ذلك " أما قول محمد بن الحسن وأبي يوسف ، فظاهر التناقض
والفساد ، لأنهما نقضا قولهما : لا نكاح إلا بولي ، إذ أجازا للولي إجازة
ما أخبرا أنه لا يجوز .
وكذلك قول أبي حنيفة ، لأنه أجاز للمرأة إنكاح نفسها من غير كفء ، ثم أجاز
للولي فسخ العقد الجائز !
فهي أقوال لا متعلق لها بقرآن ولا بسنة ، لا صحيحة ولا سقيمة ، ولا بقول
صاحب ، ولا بمعقول ، ولا قياس ، ولا رأي سديد .
وهذا لا يقبل إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي لا ينطق عن الهوى
، إلا عن الوحي من الخالق الذي لا يسأل عما يفعل .. " اهـ .
وقد أجاب الجمهور عن أدلة الأحناف ، ومنها حديث " الثيب أحق بنفسها "
وقالوا : ليس معناه أنها تنكح نفسها ، بل فيه ما يدل على أن له حقاً معها ،
لكنه لا ينكحها إلا من شاءت ، ولابد من أن يستأمرها . انظر المحلى [ 9/457
] .
ولا يقال : فلان أحق من فلان بكذا ، إلا ولذاك فيه حق . انظر التمهيد [
19/78 ] .
وأما الآيات التي أضافت إلى المرأة لفظ النكاح ، كقوله تعالى { حتى تنكح
زوجاً غيره } ، ونـحوها ، فإنها لم تصرح بأن المرأة هي التي تباشر العقد
بنفسها ، ثم إن معناها : تنكح بالشروط التي أمر الله بها ورسوله من الولي
والصداق . وقد جاءت النصوص الأخرى موضحة لذلك الحكم ، ومبينة لما أجمل في
الآيات ، كقوله تعالى { و أنكحوا الأيامى منكم } ، وكقوله { ولا تنكحوا
المشركين حتى يؤمنوا } ، وكقوله { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن } .
وأكدتها نصوص السنة الصريحة في الحكم ، بما لا يدع فيه شكاً أو احتمالاً .
انظر المحلى [ 9/457 ] والتمهيد [ 19/96 – 97 ] وفتح الباري [ 9/187 ] .
وبعد ، فثمة أدلة أخرى استدل بها الجمهور على عدم صحة النكاح من دون ولي ،
تركتها حتى لا أطيل أكثر مما أطلت .
وإنما أردت بيان المسألة للقارئ ، لئلا يغتر بتهويلات الكاتب نجيب اليماني
، أصلحه الله وهداه ، فإنه دائم التشغيب وإثارة البلبلة من دون تريث ،
وليته بحث أولاً واستقصى المسألة إن كان أهلاً للبحث ، ولا أراه أهلاً لذلك
.
وقد رأيت أخي القارئ ، كيف يتناول المسألة بطريقــة توحي بأن حجة مخالفيه
ضعيفة ، مع أن حجتهم أقوى ، كما رأيت .
وقد بينت في ردي عليه في البحث السابق " حواجز النساء في المساجد " ، أن
هذا الكاتب لا يفهم لغة الفقهاء ولا اصطلاحات العلماء ، ومع ذلك فإنه يحشر
أنفه فيما لا قدرة له عليه ، وينصب نفسه مع الفقهاء المجتهدين ، وهو لا
يعرف أبجديات الفقه والعلم .
بل لا يحسن حتى مجرد البحث ، ونقل الكلام من بطون الكتب بطريقة صحيحة .
ولعلك أخي القارئ ، إن كنت قرأت ذلك البحث السابق ، قد لحظت أن الكاتب هناك
، شدد في مسألة منع النساء من شهود الجماعات في المساجد ، وردّ قول أم
المؤمنين عائشة رضي الله عنها " لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما
أحدث النساء لمنعهن المساجد " ، ونقل كلام ابن حزم في ذلك .
مع أن قول عائشة رضي الله عنها ليس صريحاً في المنع ، لأنها لم تجزم بالحكم
من نفسها ، بل قالت : لو رأى لمنع .
ومع أن المخالف للأستاذ نجيب لم يمنع النساء من المساجد أصلاً ، بل رأى
حجبهن عن أعين الرجال بوضع حواجز أو مصليات مستقلة .
وهنا في هذه المسألة عكس الأستاذ نجيب المسألة ، وتناقض ، حيث طرح الأحاديث
الكثيرة التي احتج بها الجمهور ، وعوّل على رأي أم المؤمنين عائشة ، وقد
رأيت أنها قد وافقت الأحاديث فيما صح عنها ، وأن رأيها ذاك كان محتملاً ،
ولم يكن صريحاً ، لكن الأستاذ ضرب بالأحاديث عرض الحائط ، ورجّح الأثر
عليها .
هذا وأسأل الله تعالى أن يهدينا ويهدي سائر عباده إلى صراطه المستقيم ، وأن
يفقهنا في دينه ، وأن يجعل ما علمناه حجة لنا لا علينا يوم الدين وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وكتب : سمير
بن خليل المالكي الحسني المكي
27 /6/1430هـ
جوال 0591114011