|
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ،
أما بعد ، فقد خصصت هذا البحث لشرح ودراسة :
المسألة الثانية
الكفـــاءة في النكــاح
ويتفرع من هذه المسألة مسألتان :
1 – هل الكفاءة شرط في صحة النكاح ؟ .
2 – وما هي الكفاءة المعتبرة ؟
أولا : هل الكفاءة شرط ؟
قال ابن قدامة في المغني [ 9/387 ] " اختلفت الرواية عن أحمد في اشتراط الكفاءة
لصحة النكاح ، فروي عنه أنها شرط له . قال : إذا تزوج المولى عربية فُـرِّق
بينهما . وهذا قول سفيان .
وقال أحمد في الرجل يشرب الشراب : ما هو بكفء لها ، يُفرق بينهما .
وقال: لو كان المتزوج حائكاً فرقت بينهما , لقول عمر رضي الله عنه : لأمنعن
فروج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء . رواه الخلال بإسناده .
وعن أبي إسحاق الهمداني قال : خرج سلمان وجرير في سفر, فأقيمت الصلاة , فقال
جرير لسلمان : تقدم أنت. قال سلمان : بل أنت تقدم , فإنكم معشر العرب لا
يُِِتقدم عليكم في صلاتكم ولا تنكح نساؤكم , إن الله فضلكم علينا بمحمد صلى
الله عليه وسلم وجعله فيكم . ولأن التزويج مع فقد الكفاءة تصرف في حق من يحدث
من الأولياء بغير إذنه , فلم يصح , كما لو زوجها بغير إذنها .
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تُنكحوا النساء إلا من الأكفاء,
ولا يزوجهن إلا ألأولياء. رواه الدارقطني , إلا أن ابن عبدالبر قال : هذا ضعيف
لا أصل له , ولا يُحتج بمثله .
الرواية الثانية عن أحمد , أنها ليست شرطاً في النكاح, وهذا قول أكثر أهل العلم
. لقوله تعــــالى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } .
وقالت عائشة رضي الله عنها : إن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة تبنّى سالماً
وأنكحه ابنة أخيه هند ابنة الوليد بن عتبة , وهو مولى لامرأة من الأنصار. أخرجه
البخاري .
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس أن تنكح أســامة بن زيد مــولاه ,
فنكــحها بأمــره . متفق عليه.
وزوّج أباه زيد بن حارثة ابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية. وقال ابن مسعود لأخته
: أنشدك الله أن تتزوجي مسلماً , وإن كان أحمر رومياً أو أسود حبشياً .
ولأن الكفاءة لاتخرج عن كونها حقاً للمرأة , أو الأولياء , أولهما , فلم يشترط
وجودها, كالسلامة من العيوب .
وقد روي أن أباهند حجم النبي صلى الله عليه وسلم في اليافوخ , فقال النبي صلى
الله عليه وســلم " يابني بياضة , أنكحوا أباهند , وانكحوا إليه " رواه أبو
داود ، إلا أن أحمد ضعفه وأنكره إنكاراً شديداً .
والصحيح أنها غير مشترطة ، وما روي فيها يدل على اعتبارها في الجملة ، ولا يلزم
منه اشتراطها ، وذلك لأن للزوجة وكل واحد من الأولياء فيها حقاً ، ومن لم يرض
منهم فله الفسخ .
ولذلك لما زوج رجل ابنته من ابن أخيه ليرفع بها خسيسته ، جعل لها النبي صلى
الله عليه وسلم الخيار ، فأجازت ما صنع أبوها ، ولو فقد الشرط لم يكن لها خيار
..." .
إلى أن قال " فإن قلنا : ليست شرطاً ، فرضيت المرأة والأولياء كلهم ، صح النكاح
، وإن لم يرض بعضهم فهل يقع العقد باطلاً من أصله أو صحيحاً ؟ .
فيه روايتان عن أحمد ، وقولان للشافعي .
أحدهما : هو باطل ، لأن الكفاءة حق لجميعهم ، والعاقد متصرف فيها بغير رضاهم
فلم يصح ، كتصرف الفضولي .
والثانية : هو صحيح ، بدليل أن المرأة التي رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم
أن أباها زوجها من غير كفئها خيّرها ، ولم يبطل النكاح من أصله .. "
ثم قال " فعلى هذه الرواية ، لمن لم يرض الفسخ . وبهذا قال الشافعي ومالك .
وقال أبو حنيفة : إذا رضيت المرأة وبعض الأولياء ، لم يكن لباقي الأولياء فسخ ،
لأن هذا الحق لا يتجزأ ، وقد أسقط بعض الشركاء حقه فسقط جميعه ، كالقصاص .
ولنا : أن كل واحد من الأولياء يعتبر رضاه ، فلم يسقط برضى غيره ، كالمرأة مع
الولي .
فأما القصاص فلا يثبت لكل واحد كاملاً ، فإذا سقط بعضه تعذر استيفاؤه ، وهاهنا
بخلافه .
ولأنه لو زوّجها بدون مهر مثلها ، ملك الباقون عندهم الاعتراض ، مع أنه خالص
حقها ، فهاهنا مع أنه حق لهم أولى .
وسواء كانوا متساوين في الدرجة أو متفاوتين ، فزوّج الأقرب ، مثل أن يزوج الأب
بغير كفء ، فإن للإخوة الفسخ .
وقال مالك والشافعي : ليس لهم فسخ إذا زوج الأقرب ، لأنه لا حقّ للأبعد معه ،
فرضاؤه لا يعتبر.
ولنا : أنه وليٌّ في حالٍ ، يلحقه العار بفقد الكفاءة ، فملك الفسخ كالمتساويين
" اهـ .
قلت : قد أطلت في نقل كلام ابن قدامة هنا ، لأنه جمع في حكم الكفاءة بين الأدلة
والمذاهب باختصار ، وتلخص كلامه في الآتي :
أولاً : اشتراط الكفاءة لصحة النكاح مختلف فيه بين المذاهب ، وللحنابلة فيه
روايتان ، وأكثر أهل العلم على أنها ليست شرطاً ، فلو زُوِّجت المرأة بغير كفء
صح النكاح ، فالكفاءة معتبرة وليست شرطاً .
ثانياً : أن للأولياء ، أو بعضهم ، حق المطالبة بفسخ النكاح إذا زوجت المرأة
بغير كفء ، لكن أبا حنيفة يقول : إذا رضيت المرأة وبعض الأولياء ، فليس لباقي
الأولياء حق الفسخ .
ومالك والشافعي يقولان : إذا زوّج الولي الأقرب ، فليس للأبعد حق الفسخ ، لأن
رضا الأبعد لا يعتبر .
ثالثاً : والنصوص التي ذكرها ابن قدامة تدل على عدم اشتراط الكفاءة في الدين
والنسب والصنعة.
وسنناقشها من حيث الدلالة والثبوت .
وقال في الكفاية في شرح قول صاحب الهداية " الكفاءة في النكاح معتبرة " " أي :
يعتبر وجودها في حق اللزوم في النكاح ، فعند عدمها كان للأولياء حق الاعتراض
بالتفريق . وعن الكرخي رحمه الله أنه كان يقول : الأصح عندي أنه لا تعتبر
الكفاءة أصلاً ، لأن الكفاءة غير معتبرة فيما هو أهم من النكاح ، وهو الدماء ،
فلأن لا يعتبر في النكاح أولى . ولكن هذا ليس بصحيح ، فإن الكفاءة في الدين غير
معتبرة في باب الدم ، حتى يقتل المسلم بالكافر الذمي ، ولا يدل ذلك على أنه غير
معتبر في النكاح " . انظر فتح القدير [ 3/185 ] .
ثانياً : ما هي الكفاءة المعتبرة ؟
قال ابن قدامة في المغني [ 9/391 ] في شرح قول الخرقي " والكفء ذو الدين
والمنصب ، يعني بالمنصب الحسب ، وهو النسب .
واختلفت الرواية عن أحمد في شروط الكفاءة ، فعنه هما شرطان : الدين والمنصب ،
لاغير . وعنه أنها خمسة : هذان ، والحرية ، والصناعة ، واليسار .
وذكر القاضي في " المجرد " أن فقد هذه الثلاثة لا يبطل النكاح ، رواية واحدة ،
وإنما الروايتان في الشرطين الأولين .. " .
إلى أن قال ابن قدامة " وقال مالك : الكفاءة في الدين لا غير . قال ابن عبدالبر
: هذا جملة مذهب مالك وأصحابه . وعن الشافعي كقول مالك ، وقولٌ آخر : أنها
الخمسة التي ذكرناها ، والسلامة من العيوب الأربعة ، فتكون ستة .
وكذلك قول أبي حنيفة والثوري والحسن بن حَي ، إلا في الصنعة والســلامة من
العيوب الأربعــة.. " .
ثم استدل ابن قدامة على اعتبار الدين بقوله تعالى { أفمن كان مؤمناً كمن كان
فاسقاً لا يستوون } [ السجدة 18 ] .
قال " والفاسق لا يجوز أن يكون كفؤاً لعفيفة ، ولا مساوياً لها ، لكن يكون
كفؤاً لمثله " .
واستدل على اعتبار النسب بأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه " لأمنعن فروج ذوات
الأحساب إلا من الأكفاء ، قال : قلت وما الأكفاء ؟ قال في الحسب " .
قال ابن قدامة " ولأن العرب يعدُّون الكفاءة في النسب ويأنفون من نكاح الموالي
، ويرون ذلك نقصاً وعاراً ، فإذا أطلقت الكفاءة وجب حملها على المتعارف " .
واستدل ابن قدامة على اعتبار الكفاءة في الخصال الثلاث الأخرى وهي : الحرية ،
واليسار ، والصناعة بأدلة .
قلت : والذي يعنينا هنا هو النظر في اعتبار الكفاءة في الدين والنسب ، فهما أهم
الخصال المطلوبة في النكاح ، ولأن ما سواها أضعف حجة ودلالة .
الكفــاءة في الــدين
أما اعتبار الكفاءة في الدين فأدلته صريحة في الكتاب والسنة ، وعليه جرى عمل
الصحابة في النكاح .
1 – قال تعالى { إن أكرمكم عندالله أتقاكم } [ الحجرات 13 ] .
2 – وقال تعالى { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } [ التوبة 71 ] .
3 – وقال تعالى { إنما المؤمنون إخوة } [ الحجرات 10 ] .
4 – وقال تعالى { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } [ البقرة 221 ] .
5 – وقال تعالى { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا
زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين } [ النور 3 ] .
وأما الأحاديث والآثار ، فمنها :
أ – حديث عائشة " أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة زوج مولاه سالماً ابنة أخيه
هند بنت الوليد بن عتبة " . رواه البخاري وغيره [ الفتح 9/131 ] وجامع الأصول [
11/466 ] .
ب – وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم مولاه زيد بن حارثة بابنة عمته زينب بنت
جحش الأسدية . رواه الدارقطني في سننه [ 3/301 ] وغيره ، والقصة مشهورة .
ج – وأمر النبي صلى الله عليه وســلم فاطمة بنت قيس أن تنكـح أسامة بن زيد
فنكحها بأمره . رواه مسلم [ 1480 ] .
د – وفي حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يا بني بياضة أنكحوا
أبا هند وانكحوا إليه " وكان أبو هند حجاماً .
رواه أبو داود [ 2102 ] وصححه الحاكم [ 2/164 ] وقال ابن حجر في بلوغ المرام [
941 ] " سنده جيد " .
لكن ابن قدامة حكى عن الإمام أحمد أنه ضعف هذا الحديث وأنكره إنكاراً شديداً .
هـ - حديث " إذا جاءكم من ترضــون دينه وخلقه فأنكــحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في
الأرض وفســاد .. " رواه الترمذي من حديث أبي حاتم المزني [ 1085 ] .
ويشهد له حديث أبي هريرة الآخر " إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ،
إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض " رواه الترمذي [ 1084 ] .
و – حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا ينكح الزاني
المجلود إلا مثله " رواه أبو داود [ 2052 ] .
ز – حديث " لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا
أسود على أحمر إلا بالتقوى " رواه أحمد في المسند [ 5/411 ] .
الكفاءة في النسب
وأما اعتبار الكفاءة في النسب ، فقد ذكر ابن قدامة له أدلة ، وهي :
أ – حديث " لا تنكحوا النساء إلا من الأكفاء .. " .
رواه الدارقطني في سننه [ 3/245 ] وضعفه . وكذا البيهقي [ 7/133 ] وقال " هذا
ضعيف بمرة " وقد قال البيهقي قبل ذلك " وفي اعتبار الكفاءة أحاديث أخر لا تقوم
بأكثرها الحجة " .
وقد نقل ابن قدامة تضعيف ابن عبدالبر لهذا الحديث ، وقوله " لا أصل له ولا يحتج
بمثله " ، وقد وجدته في التمهيد [ 19/165 ] .
وانظر نصب الراية للزيلعي [ 3/196 ] وإرواء الغليل [ 6/264 ] .
ب – أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه " لأمنعن فروج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء
" رواه الدارقطني [ 3/298 ] والبيهقي [ 7/133 ] .
ج – أثر سلمان رضي الله عنه " إنكم معشر العرب لا يتقدم عليكم في صــلاتكم ولا
تنكح نســاؤكم " كذا ذكره ابن قدامة .
ووجدته في سنن البيهقي [ 7/134 ] بلفظ " لا نـَنكح نساءكم ولا نؤمكم " . وذكره
ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم [ 1/394 ] وساق إسناده من مسند البزار ،
ثم قال " هذا إسناد جيد " .
ثم قال ابن تيمية " وهذا مما احتج به أكثر الفقهاء الذين جعلوا العربية من
الكفاءة بالنسبة إلى العجمي ، واحتج به أحمد في إحدى الروايتين على أن الكفاءة
ليست حقاً لواحد معين ، بل هي من الحقوق المطلقة في النكاح ، حتى إنه يفرق
بينهما عند عدمها " اهـ .
قلت : وهناك أحاديث صحيحة مشهورة استدل بها بعض أهل العلم على اعتبار الكفاءة
في النسب ، ومنها حديث الاصطفاء المشهور ، " إن الله اصطفى كنانة من ولد
إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم
" رواه مسلم [ 2276 ] .
وأدلة من اعتبر الكفاءة في النسب إما صحيحة غير صريحة في مسألة النكاح ، كهذا
الحديث . أو غير صحيحة ، كحديث " لا تنكحوا النساء إلا من الأكفاء " ، ثم هو مع
ضعفه ، فإنه غير صريح في اعتبار النسب ، لأنه قد يكون مقصوده الكفاءة في الدين
.
وأما أثر عمر بن الخطاب ، فإنه إن صح ، فقد يكون سببه ما رآه من تساهل في تزويج
ذوات الأحساب بالموالي ، مع وجود من هو أفضل منهم شرفاً وعلماً .
وهذا كنهيه عن متعة الحج حتى لا يهجر البيت ، وكما ألزم الناس بالطلاق بالثلاث
عقوبة لهم لما تتايعوا عليه ، إلى غير ذلك من الأقضية والسنن العمرية المشهورة
، التي سنها لسبب عارض .
ثم نقول : إن الاستدلال بهذا الأثر على منع تزويج ذات الحسب بمن هو دونها في
النسب ، يعارضه الأدلة الصريحة في تزويج زيد بن حارثة وابنه أسامة وسالم مولى
أبي حذيفة وبلال بن رباح وغيرهم بالقرشيات ، وقد أقر ذلك من هو أفضل من عمر ،
وهو رسول الله صـــلى الله عليه وسلم .
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قد تزوج بأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله
عنه ، وهي ارفع منه نسباً .
وبقي أثر سلمان في قوله للعرب " لا تنكح نساؤكم " وقد رأينا أن سنة النبي صلى
الله عليه وسلم وعمل الصحابة على خلاف ذلك في النكاح وفي الإمامة في الصلاة .
والذي يظهر لي أن قصد سلمان رضي الله عنه من ذلك التنويه بمنزلة العرب ورفعتهم
على سائر الشعوب ، وليس مقصوده التحريم والمنع ، بقرينة قوله " لا يتقدم عليكم
في صلاتكم " ومعلوم أن إمامة الأعجمي للعربي جائزة ، والحديث المشهور صريح في
تقديم الأقرأ ثم الأعلم بالسنة في الإمامة ، عربياً كان أم أعجمياً .
وقد تولى عدد من الموالي في زمن الصحابة بعض الإمارات ولم ينكره أحد .
وقد بوب البخاري في صحيحه بقوله " باب إمامة العبد والمولى " .
ثم ذكر قصة إمامة سالم مولى أبي حذيفة للمهاجرين الأولين قبل مقدم النبي صلى
الله عليه وسلم إلى المدينة لأنه كان أكثرهم قرآناً .
وذكر أيضاً حديث أنس المرفــوع " اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم حبشي ، كأن
رأسه زبيبة " . انظر الفتح [ 2/184 ] .
وفي صحيح مسلم [817 ] أن عمر بن الخطاب لما سأل نافع بن عبدالحارث عن إنابته
أحد الموالي على إمارة مكة ، فأجابه بأن هذا المولى قارئ لكتاب الله عالم
بالفرائض ، فقال عمر بن الخطاب " أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال : إن
الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين " .
قلت : واعتبار الكفاءة في الدين هو الذي اتفق عليه علماء الأمة ، وهو الذي دلت
عليه نصوص الكتاب والسنة . قال الحافظ ابن حجر في الفتح [ 9/132 ] " واعتبار
الكفاءة في الدين متفق علــيه ، فلا تحل المسلمة لكافر أصلاً " اهـ .
وأما اعتبــار الكفاءة في غير الدين فهو مختلف فيه ، كما رأيت ، وأدلته معارضة
بما هو أقوى منها .
واعتبار الكفاءة في النسب مختلف فيه اختلافاً كثيراً .
فبعضهم جعل العرب كلهم أكفاء ، وبعضهم خص قريشاً من بينهم ، وبعضهم خص بني هاشم
من قريش .
وقد اختار كثير من الأئمة المحققين القول الأول ، وهو اعتبار الكفاءة في الدين
.
قال البخاري في صحيحه " باب الأكفاء في الدين . وقوله { وهو الذي خلق من الماء
بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديرا } " .
ثم استدل عليه بقصة سالم مولى أبي حذيفة ، وبتزويج المقداد بن الأســود ، وكان
من حلفاء قريش ، بضباعة بنت الزبير بن عبدالمطلب .
وبحديث " تنكح المرأة لأربع .. " وفيه " فاظفر بذات الدين تربت يداك " ، وبحديث
" هذا خير من ملء الأرض مثل هذا " يعني الفقير الذي قال عنه الصحابة " حريٌّ إن
خطب أن لا ينكح " في مقابلة الآخر الذي قالوا عنه " حريٌّ إن خطب أن ينكح " .
وقد أطال ابن عبدالبر في التمهيد [ 19/162- 168 ] الكلام على مسألة الكفاءة ،
واستدل بقصة فاطمة بنت قيس وأمر النبي صلى الله عليه وسلم إياها بنكاح أسامة بن
زيد .
فقال " وأما قوله : انكحي أسامة بن زيد ، قالت فنكحته ، ففي هذا جواز نكاح
الموالي القرشية ، وأسامة بن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وهو رجل من كلب ، وفاطمة قرشية فهرية أخت الضحاك بن قيس الفهري ، وهذا أقوى شيء
في نكاح المولى العربية والقرشية ، ونكاح العربي القرشية ، وهذا مذهب مالك ،
وعليه أكثر أهل المدينة .
روى ابن أبي أويس عن مالك قال : لم أر هذا من أهل الفقه والفضل ، ولم أسمع أنه
أنكر أن يتزوج العرب في قريش ، ولا أن يتزوج الموالي في العرب وقريش ، إذا كان
كفؤاً في حاله .
قال مالك : ومما يبين ذلك أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة أنكح سالماً فاطمة بنت
الوليد بن عتبة ، فلم ينكر ذلك عليه ، ولم يعبه أحد من أهل ذلك الزمان " .
ثم قال ابن عبدالبر " قد كرهه قوم ، وهذا الحديث حجة عليهم . قال الله تعالى {
إن أكرمكم عندالله أتقاكم } .. واختلف العلماء في الأكفاء في النكاح ، فجملة
مذهب مالك وأصحابه : أن الكفاءة عندهم في الدين . وقال ابن القاسم عن مالك :
إذا أبى والد الثيب أن يزوجها رجلاً دونه في النسب والشرف ، إلا أنه كفؤ في
الدين ، فإن السلطان يزوجها ، ولا ينظر إلى قول الأب والولي من كان ، إذا رضيت
به وكان كفؤاً في دينه .
قال مالك : تزويج المولى العربية حلال في كتاب الله عز وجل ، لقوله { إنا
خلقناكم من ذكر وأنثى } الآية . وقوله { فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها } .
ثم ذكر المذاهب الأخرى في اعتبار النسب وغيره ، وذكر بعض ما استدلوا به ثم قال
ابن عبدالبر " أصح شيء في هذا الباب حديث مالك وغيره ، في قصة فاطمة بنت قيس
ونكاحها بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد ، وهو ممن قد جرى على
أبيه السبأ والعتق " .
ثم ذكر الأحاديث في الترغيب في نكاح ذات الدين والصلاح ، ثم ختم كلامه بقوله "
هذه الآثار تدل على أن الكفاءة في الدين أولى ما اعتبر واعتمد عليه ، وبالله
التوفيق " اهـ . باختصار .
وقال ابن حزم في المحلى [ 10/24 ] " وأهل الإسلام كلهم إخوة ، لا يحرم على ابن
من زنجية لَغِـيَّة نكاح ابنة الخليفة الهاشمي ، والفاسق الذي بلغ الغاية من
الفسق المسلم ، مالم يكن زانياً ، كفـؤ ٌ للمسلمة الفاضلة ، وكذلك الفاضل
المسلم كفؤ للمسلمة الفاسقة ، مالم تكن زانيـــــــــة .." إلى أن قال " احتج
المخالفون بآثار ساقطة ، والحجة قول الله تعالى { إنما المؤمنون إخوة } وقوله
تعالى مخاطباً لجميع المسلمين { فانكحوا ماطاب لكم من النساء } .
وذكر عز وجل ما حرم علينا من النساء ، ثم قال تعالى { وأحل لكم ما وراء ذلكم }
.
وقد أنكح رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب أم المؤمنين زيداً مولاه ، وأنكح
المقداد ضباعة بنت الزبير بن عبدالمطلب ...." الخ .
وقال المرداوي في الإنصاف [ 8/108 ] " وقال الشيخ تقي الدين ( يعني ابن تيمية )
: لم أجد نصاً عن الإمام أحمد رحمه الله ببطلان النكاح لفقر أو رقٍّ ، ولم أجد
أيضاً عنه نصاً بإقرار النكاح مع عدم الدين والمنصب خلافاً ، وأختار أن النسب
لا اعتبار به في الكفاءة .
وذكر ابن أبي موسى عن الإمام أحمد رحمه الله ما يدل عليه .
واستدل الشيخ تقي الدين رحمه الله بقوله تعالى { يا أيها الناس إنا خلقناكم من
ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عندالله أتقاكم إن الله
عليم خبير } ... " إلــى أن قـال " قال الشيخ تقي الدين رحمه الله أيضاً : ومن
قال : إن الهاشمية لا تزوج بغير هاشمي ، بمعنى : أنه لا يجوز ذلك ، فهذا مارق
من دين الإسلام ، إذ قصة تزويج الهاشميات من بنات النبي صلى الله عليه وسلم
وغيرهن بغير الهاشميين ثابت في السنة ثبوتاً لا يخفى " اهـ .
وقال ابن القيم رحمه الله (( فصل : في حكمه صلى الله عليه وسلم في الكفاءة في
النكاح .
قال الله تعالى { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً
وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عندالله أتقاكم } وقال تعالى { إنما المؤمنون إخوة }
وقال تعالى { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } وقال تعالى { فاستجاب لهم
ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض } .
وقال صلى الله عليه وسلم " لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود
على أبيض إلا بالتقوى ، الناس من آدم وآدم من تراب " وقال صلى الله عليه وسلم "
إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء ، إن أوليائي المتقون حيث كانوا وأين كانوا "
)) .
ثم ذكر بعض الأدلة على ذلك ، منها حديث " إذا جاءكم من ترضون دينه .. " وحديث "
انكحوا أبا هند .. " وتزويج زينب من زيد ، وفاطمة بنت قيس من أسامة ، وأخت
عبدالرحمن بن عوف من بلال بن رباح .
قلت : حديث " إن آل بني فلان .... " وجدته بنحوه بلفظ " إن آل أبي فلان ..."
رواه البــــخاري [ 10/351 ] ومسلم [ 215 ] وانظرالأدب المفرد للبخاري [ 897 ]
.
وأخت عبدالرحمن بن عوف قيل اسمها هالة ، ذكرها الحافظ في الإصابة [ 4/406 ]
وأنها تزوجت من بلال .
ثم قال " فالذي يقتضيه حكمه صلى الله عليه وسلم اعتبار الدين في الكفاءة ،
أصلاً وكمالاً ، فلا تـُزوّج مسلمة بكافر ، ولا عفيفة بفاجر ، ولم يعتبر القرآن
والسنة في الكفاءة أمراً وراء ذلك ، فإنه حرم على المسلمة نكاح الزاني الخبيث ،
ولم يعتبر نسباً ولا صناعة ولا غنىً ولا حرية ، فجوّز للعبد القِـنِّ نكاح
الحرة النسيبة الغنية ، إذا كان عفيفاً مسلماً ، وجوّز لغير القرشيين نكاح
القرشيات ، ولغير الهاشميين نكاح الهاشميات ، وللفقراء نكاح الموسرات ..." اهـ
. باختصار من زاد المعاد [ 5/144 – 146 ] .
وللإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني كلام نفيس في اعتبار الكفاءة في الدين ، ذكره
في كتابه سبل السلام شرح بلوغ المرام [ 3/1007 ] ، ومما جاء فيه قوله " وقد
اختلف العلماء في المعتبر من الكفاءة اختلافاً كثيراً ، والذي يقوى هو ما ذهب
إليه زيد بن علي ومالك ... أن المعتبر : الدين ، لقوله تعالى { إن أكرمكم
عندالله أتقاكم } ولحديث " الناس كلهم ولد آدم " وتمامه " وآدم من تراب " .. "
إلى أن قال " وأشار البخاري إلى نصرة هذا القول حيث قال : باب الأكفاء في الدين
... " .
إلى أن قال " وللناس في هذه المسألة عجائب لا تدور على دليل غير الكبرياء
والترفع ، ولا إله إلا الله ، كم حُرمت المؤمنات النكاح لكبرياء الأولياء
واستعظامهم أنفسهم .
اللهم إنا نبرأ إليك من شرطٍ ولـَّده الهوى وربَّاه الكبرياء .. " اهـ .
باختصار .
وقال الشوكاني في كتاب : السيل الجرار [ 2/291 ] " الكفاءة في الدين معتبرة
اتفاقاً كما حكاه ابن حجر في الفتح ، ويدل على ذلك قول الله عز وجل { يا أيها
الناس إنا خلقناكم ...} الآية ...." ثم ذكر بعض الأدلة على اعتبار الكفاءة في
الدين ، ثم أدلة من اعتبر الكفاءة في النسب ، وأجاب عليها ، ثم قال " وإذا تقرر
لك هذا عرفت أن المعتبر هو الكفاءة في الدين والخلق لا في النسب ، لكن لما أخبر
صلى الله عليه وسلم بأن حسب أهل الدنيا المال ، وأخبر أن في أمته ثلاثاً من أمر
الجاهلية ، وذكر منها " الفخر في الأحساب " ، كان تزويج غير كفء في النسب
والمال من أصعب ما ينزل بمن لا يؤمن بالله واليوم الآخر .. " إلى أن قال " فيا
عجباً كل العجب من هذه التعصبات الغريبة والتصلبات على أمر الجاهلية " اهـ .
باختصار .
قلت : قصد بذلك تعصبات الأشراف وتصلباتهم في مسألة النسب ، كما هو حال كثير
منهم هنا في مكة وفي غيرها من مدن الحجاز .
وأما تعصب بعض القبائل النجدية ، من تميم وغيرها ، فحدث عنه ولا حرج ، وهو مما
عمت به البلوى في هذا الزمان ، وسارت بخبره الركبان ، والله المستعان .
وحديث " أربع في أمتي من الجاهلية .... " ، وذكر منها الفخر بالأحساب . رواه
مسلم [ 934 ].
وقد وافق الإمام الشوكاني فيما ذهب إليه من اعتبار الكفاءة في الدين والخلق ،
العلامة صديق حسن خان ، وانظر كلامه في الروضة الندية [ 2/8 – 10 ] وقد أطال
الكلام في المسألة ، ومما قاله رحمه الله " وأعلى الصنائع المعتبرة في الكفاءة
في النكاح على الإطلاق العلم ، لحـــــــــديث " العلماء ورثة الأنبياء .." .
ثم ختم كلامه بقوله " وهكذا كان شأن التزوج في أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، لم يعرِّج أحد منهم على الكفاءة في النسب ، وإنما أخذ بذلك الجهلة من
الأمة ، لاسيما أهل القرى والقصبات من نسل العتـرة والصحابة رضي الله عنهم
أجمعين . وأكثرهم خائضون في الباطل عاطلون عن حلي العلم الموصل إلى الحق ، وكان
أمرالله قدراً مقدوراً " اهـ .
وذكر سيد سابق – رحمه الله – اختلاف المذاهب في اعتبار الكفاءة في النسب ، ثم
قال " على أن شرف العلم دونه كل نسب وكل شرف ، فالعالم كفء لأي امرأة ، مهما
كان نسبها ، وإن لم يكن له نسب معروف ، لقول رسول الله صلى الله عليه وســلم "
الناس معادن ، كمعادن الذهب والفضة ، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا
فقهوا " .
وقول الله تعالى { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } [
المجادلة 11 ] .
وقوله عز وجل { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [ الزمر10 ] " اهـ
.
انظر فقه السنة [ 2/147 – 148 ] .
وقد قال الشيخ العثيمين – رحمه الله – في شرحـه لــزاد المسـتقنع في اعتبار
الكفــاءة في الــدين " المراد بالدين هنا : أداء الفرائض واجتناب النواهي ،
فليس شرطاً أن يكون الزوج مؤدياً لجميع الفرائض مجتنباُ لجميع النواهي ، فيصح
تزويج الفاسق .
والصحيح أن الدين شرط لصحة عقد النكاح إذا كان الخلل من حيث العفاف ، فإذا كان
الزوج معروفاً بالزنا ، ولم يتب ، فإنه لا يصح أن يزوج ، وإذا كانت الزوجة
معروفة بالزنا ولم تتب فإنه لا يصح أن تزوج ، لا من الزاني ولا غيره .."
إلى أن قال " وقوله " ومنصب وهو النسب " ، يعني أن يكون الإنسان نسيباً ، أي :
له أصل في قبائل العرب ، احترازاً من الذي ليس له أصل .
فالنسب ليس شرطاً في صحة النكاح ، وعلى هذا فيجوز أن تزوج امرأة قبيلية من
إنسان غير قبيلي ..." .
إلى أن قال " قوله " فلمن لم يرض من المرأة أو الأولياء الفسخ " ، المرأة معلوم
يشترط رضاها ، كما سبق ، فإذا لم ترض لا تزوج ، لكن الأولياء ولو بعدوا لهم
الفسخ .
يعني : لو أن شخصاً قبيلياً زوّج ابنته برضاها برجل غير قبيلي ، والرجل صاحب
دين وتقوى وخلق ومال ومن أحسن الناس ، فجاء ابن عم بعيد وقال : أنا ما أرضى ،
فله الفسخ على المذهب ، حتى من وُلدَ بعد ، فهذه امرأة قبيلية تزوجها غير قبيلي
وبقيت معه خمسين سنة ، وأنجبت منه أولاداً ، فولد لأحد أبناء عمها البعدين ولد
، فلما كبر قال : أنا ما أقبل ، افسخوا النكاح ، فيفسخ النكاح ، ولو لها أولاد
وبيت ، فيفسد البيت وكل شيء من أجل ابن العم الذي قد يكون حاسداً ، ولا يهمه
شرف النسب !!
وظاهر كلام المؤلف أنه حتى أولادها يفسخون ، لأنهم أولياء ، والصحيح أنه ليس
لأحد الحق في فسخ النكاح مادام النكاح صحيحاً ، ونقول لهؤلاء الذين يقولون
بالصحة ، ثم يقولون : يجوز الفسخ ، نقول : إذا صح العقد بمقتضى الدليل الشرعي ،
فكيف يمكن لإنسان أن يفسخه إلا بدليل شرعي ؟! ولا دليل .
وعلى هذا فنقول : إذا زوّج الأب الذي هو من القبائل الشريفة المعروفة بمن ليس
بقبيلي ، فالنكاح صحيح ، وليس لأحد من أوليائها أن يفسخ النكاح ، وهذا كله من
الجاهلية ، فالفخر بالأحساب من أمر الجاهلية " . اهـ الشرح الممتع [12/101 –
105 ] .
قلت : صدق الشيخ العثيمين – رحمه الله – فيما قاله ، فالنكاح إذا وقع صحيحاً ،
برضا الفتاة ووليها ، فلا يحل لأحد أن يفسخه إلا بدليل صحيح من كتاب أو سنة أو
إجماع ، وليس عند الذين رأوا فسخه باعتبار النسب أي دليل ، سوى التعصب لقول أو
لمذهب .
ثم نقول أيضاً : إن فسخ النكاح الصحيح من دون دليل شرعي يخالف الأصول والقواعد
الشرعية ، مع ما فيه من مفاسد وشرور عظيمة ، وذلك من وجوه :
الوجه الأول : أن عقد النكاح إذا استوفى أركانه وشرائطه ، فإنه يكون عقداً
صحيحاً متيقناً .
ومن أراد فسخه فلابد أن يكون لديه حكم متيقن ، لأن " اليقين لا يزول بالشك " ،
ولا ريب أن من يحكم بفسخ مثل هذا النكاح اليقيني لمجرد أن أحد الأولياء الأباعد
طالب به لعدم كفاءة النسب ، ليس معه نص من كتاب ولا من سنة ولا إجماع ، فكيف
يحكم به ؟
قال ابن القيم " لا يُزال النكاح المتيقـّن إلا بيقين مثله من كتاب أو سنة أو
إجماع متيقـّن ، فإذا أوجدتمونا واحداً من هذه الثلاثة رفعنا حكم النكاح به "
اهـ . زاد المعاد [ 5/203 ] .
وذكر ابن القيم أيضاً أن النكاح يحتاط له ، فلا يخرج منه إلا بيقين ، فقال "
فإنا احتطنا ، وأبقينا الزوجين على يقين النكاح حتى يأتي ما يزيله بيقين ، فإذا
أخطأنا فخطؤنا في جهة واحدة ، وإن أصبنا فصوابنا في جهتين : جهة الزوج الأول ،
وجهة الثاني .
وأنتم ترتكبون أمرين : تحريم الفرج على من كان حلالاً له بيقين ، وإحلاله لغيره
. فإن كان خطئاً فهو خطأ من جهتين .
فتبين أنا أولى بالاحتياط منكم " .
ثم ذكر ابن القيم أن النكاح " لا يُخرج منه إلا بما نصبه الله سبباً يُخرج به
منه ، وأذن فيه ، وأما ما ينصبه المؤمن عنده ويجعله هو سبباً للخروج منه فكلا "
اهـ .
زاد المعاد [ 5 / 219 – 220 ] .
قلت : وكلامه – رحمه الله – وإن كان في سياق الرد على من أوقع الطلاق البدعي ،
فإنه يناسب هذا المقام أيضاً ، بل هنا أولى ، لأن الطلاق البدعي استدل من ذهب
إليه بنصوص من السنة وآثار الصحابة ، بخلاف فسخ النكاح لعدم كفاءة النسب ، فليس
معه إلا التعصب للمذهب .
ثم إن إيقاع الطلاق البدعي له وجه ، فإنه من فعل أحد طرفي العقد ، وهو الزوج ،
بخلاف الفسخ لعدم كفاءة النسب فإنه لا دخل لأحد طرفي العقد فيه ، لا الزوج ولا
المرأة ولا الولي الأقرب ، بل هو من فعل من لا يعتد به في صحة هذا العقد ،
وربما لم يكن قد ولد بعد أثناء العقد !
الوجه الثاني : معلوم قطعاً أن القرآن نزل على أمة العرب التي كانت أشد ما يكون
حرصاً على اعتبار النسب والفخر بالحسب ، وكانت تعيِّر به بعضها ، وتفـخر به على
من هو دونــها ، ولو كان عربياً ، فكيف بالموالي والأعاجم ؟
وقد أبطل الله كل تلك النعرات الجاهلية ، وألغى كل الاعتبارات القبلية ،
والآيات في تقرير ذلك أكثر من أن تحصر ، ومثلها نصوص السنة ، ولم يجعل الله ولا
رسوله صلى الله عليه وسلم لأي نسب فضلاً ورفعة على نسب ، إلا ما خصه الدليل ،
وفي مسائل محدودة ، ومنها على سبيل المثال : تقديم قريش في الإمامة على غيرها ،
وتفضيل آل البيت على غيرهم ، لكنهم في سائر الأحكام والأقضية الشرعية سواء
كأسنان المشط ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في شأن المخزومية التي سرقت "
وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " رواه البخاري ومسلم . انظر
جامع الأصول [ 3/561 ] .
وقد تواترت الأحاديث والآثار على عدم اعتبار الكفاءة في النسب ، فتزوج الموالي
بالقرشيات ، واشتهر ذلك في عصر النبوة والخلافة الراشدة ، ولم ينسخه شيء ولا
اعترض عليه معترض ، ولا أنكره منكر ، مع قرب عهدهم بالجاهلية ، واستمر العمل
عليه بعد ذلك في الأمة ، حتى طرأ القول باعتبار الكفاءة في النسب ، وتفرع عنه
القول بفسخ النكاح إذا لم يرض أحد من الأولياء به ، ولو كان هذا الولي بعيداً
بغيضاً ، فهل هذا إلا معارضة صريحة للنصوص المحكمة التي أبطلت مثل هذا الأمر
ونسخته ، وجعلته من مساوئ الجاهلية ، كما نص على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم
حيث قال " إن الله قد أذهب عنكم عُـبـِّية الجاهلية وتعاظمها بآبائها ، الناس
رجلان : بَـرٌّ تقي كريم على الله عز وجل ، وفاجر شقي هيِّن على الله عز وجل ،
الناس كلهم بنو آدم ، وخلق الله آدم من تراب ، قال الله تعالى { يا أيها الناس
إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } إلى { إن الله عليم خبير } " رواه الترمذي [ 3266 ]
.
ولولا أن الله تعالى قد فرّق في بعض الأحكام بين الحر والعبد ، والذكر والأنثى
، لما كان لأحد أن يفرِّق بينهم .
ولو لم يكن عندنا من حجة إلا قول الله تعالى { فانكحوا ما طاب لكم من النساء }
لكفى في إلغاء أي اعتبار ، سوى الدين والعفاف ، لورود النصوص التي خصصت عموم
هذه الآية .
الوجه الثالث : إن عقد النكاح قد سماه الله تعالى في كتابه بالميثاق الغليظ ،
فقال { وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً } [ النساء 21 ] والميثاق الغليظ هو عقد
النكاح . ( انظر تفسير ابن كثير ) .
وقد جاء في حديث جابر في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة " اتقوا الله في
النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله " رواه مسلم [
1218 ] .
فما كان هذا شأنه ، فلا يحل أن يبطله أحد أو يفسخه برأيه كائناً من كان ، فإن
أمان الله وكلمته فوق كل رأي ومذهب .
الوجه الرابع : إن الضرر الذي يحصل بفسخ النكاح ، للزوج والزوجة وغيرهما من
الأقارب من الجهتين ، أعظم بكثير من الضرر الذي قد يلحق بعض الأولياء من عدم
تكافؤ النسب .
فالضرر الأول متحقق ومُـتـيقـّن ، وآثاره أعظم ، بخلاف الضرر الثاني ، فإنه
متوهم ، وآثاره أخف وأهون ، ولا يتعدى اللمز والتعيير ، وهما من أمور الجاهلية
، التي ذمها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم .
قال الله تعالى { ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب } .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لينتهينّ أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا
،إٌنما هم فحم جهنم ، أو ليكوننّ أهون على الله من الجـِعلان الذي يدهده
الخـِراءَ بأنفه .. " رواه أبو داود والترمذي . انظر جامع الأصول [ 10/617 ] .
ثم نقول لمن يفتي أو يقضي بفسخ نكاح المرأة المسلمة التقية ،من دون سبب إلا
معرة النسب ، إن هذا مع ما فيه من إحياء لسنة الجاهلية ، ومخالفة النصوص
القطعية ، فإن فيه إعانة للظالم ومكافأة له ، بدلاً من تعزيره والأخذ على يده .
فالمعيِّر بالنسب ظالم جاهل ، فكيف يُعان على ظلمه وجهله ، ويعاقب بسببه
المظلوم الذي لا ذنب له ، وهم : الزوجة والزوج والأولياء والأولاد ؟! .
الوجه الخامس : إن الأخذ بهذا المذهب الضعيف يضعف الثقة في عقود الأنكحة ،
ويجعل الزوجين والأولاد في خوف دائم ، إذ لا يؤمن أن يأتي بعد سنة أو عشر أو
عشرين أو أكثر ، من أبناء عمومة الزوجة ، وأوليائها الأباعد ، من يطالب بفسخ
النكاح ، فأي شريعة تقر مثل هذا الحكم ؟ .
الوجه السادس : إن البيوت المسلمة في بلادنا ، وفي غيرها أيضاً ، تعاني من
اطراد نسبة العنوسة ، وكذا الطلاق ، فليس من الحكمة ولا من المناسب ، أن يقدم
على فسخ عقود الأنكحة الصحيحة ، بل العقل يقضي بأن يُعضّ على تلك العقود
بالنواجذ ، ويوسَّع باب النكاح والرجعة والإصلاح ، ويضيَّق باب الفسخ والطلاق
والشقاق .
وبعد ، فقد أطلت كثيراً في هذا البحث ، وأعتذر للقارئ الكريم عن ذلك ، وأسأل
الله تعالى أن يهدينا ويهدي قضاتنا وأئمتنا ومشايخنا للحق ، وأن يجنبنا الهوى
والتعصب للرأي والمذهب ، وأن يجعلنا ممن يستمع القول ويتبع أحسنه ، والحمدلله
أولاً وآخراً ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وكتب / سمير
بن خليل المالكي المكي الحسني
جوال / 0591114011