توقفت لأزين الكلمات ، أنمق العبارات ، أستجدي البديع ، أغرف من البيان ،
فهاتفني ضمير المجاهد ، دع عنك يا أبا محمد كل هذا ، خاطبنا بقلبك ، قل ما ينضح
به جنانك ، اغرف بلسانك ما في وجدانك ، فذاك الذي يعرف الناس صدقه ، . ويحسون
نقاءه وطهره . .
نعم . . . فإذا بوجداني يفيض ، ومشاعري تتدفق ، وإذا بقشعريرة تسري في كل أنحاء
جسدي ، ليس قليلا ضئيلا سهلا أن تخاطب مجاهدا ، إيه . . . هذه الكلمة التي تهز
الوجدان . . . مجاهد . . هل رأيت مجاهدا من قبل ؟ كل منا يرسم . في ذهنه صورة
ما وفي خياله شيء ما لهذا المجاهد . .
أما أنا . . . ففي نفسي أمران . . الأول : إن لقيت مجاهدا أن أقبل رأسه ، ثم
أهوي لأقبل يده وقدمه التي اغبرت في سبيل الله ، وما لي لا أفعل ، وأنا أراه
فدى نفسه لدينه وأمته ، وبذل مهجته من أجل مهجتي !؟
والثاني : إن لم ألقه أن أثبت في خيالي صورته الساحرة ، إنها صورة لا أظن أحدا
يشاركني في معانيها ، أو يستطيع تخيلها كما تخيلتُها أنا . . . هل تعرفون ما هي
هذه الصورة ؟
إنها صورة رجل في الأربعين من عمره ، لبس سروالا واسعا وقميصا طويل الأكمام
عصّب رأسه بعصابة بيضاء في عارضيه لحية ليست بكثة ، وفي جبهته سيما السجود ،في
جيب قميصه الأسود مصحف صغير ما فارقه منذ عرف طريق ربه ونذر حياته لدينه ، تأبط
الكلاشينكوف ، وفي حزامه ثلاث قنابل يدوية ، وبعض خزانات الرصاص تكفيه لمعركتين
حاميتين ، في جيبه مُدية من الصلب تُطوى وتُنشر ( تفتح ) ، أقبل مجاهدي مع
مجموعته في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ، آووا إلى مبنى تهدمت أرجاؤه ولم
يبق منه إلا جدران حجرتين أو ثلاثة ، فاحتمى كل واحد منهم بزاوية مترصدين
لقافلة جنود وردت إليهم الأنباء أنها ستسير من ههنا ، رمى مجاهدي بنفسه في
زاوية حجرة من تلك الحجر ، وتنهد عميقا ، ثم وضع الكلاشينكوف عن كاهله على
الأرض وأمسك بالمصحف يتلو من سورة مريم حتى وصل إلى قوله تعالى : ( وبرا
بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا . . ) ارتخت يده التي تمسك بالمصحف . ، ومالت
رأسه وعنقه على كاهله ، وأسبل الدمع ، أين أنت الآن يا أماه .
هل أنت راضية عني يا أماه ؟ خرجت من جوفه بنبرة حانية صافية . . يا لقلبك
الحاني الرحيم أيها المجاهد ! مضى يتلو السورة حتى أتمها ثم طوى المصحف ووضعه
في جيبه ورفع رأسه ينظر إلى السماء من بعض سقف ذلك البيت الذي دمرته صواريخ
الأمريكان ، شردت عيناه إلى أعماق زرقة السماء الداكنة ، ونفذت مشاعره إلى تلك
النقط البيضاء اللامعة في بطن السماء ، في أي شيء تفكر يا مجاهدي ؟؟؟ تساءلت في
نفسي . . أجاب مجاهدي : أفكر في أمتي المسكينة . . أمتي المغلوبة ، أفكر في
المسلمين . . كيف ظُلموا وأهينوا ، أفكر في كل أرملة وطفل ويتيم ومسكين . . .
يا لهذا القلب ! وهل تسمح مشاعرك ( وأنت تنتظر الموت ) أنت تفكر فينا في مآسينا
؟ تعجبُ في نفسي . . أتاني رده : كيف لا أفكر فيهم وأنا ما تركت بيتي وأهلي إلا
لهم !؟ هنا وقفتُ . . إنها صورة مجاهدي التي هزت مشاعري وكياني ، إنها الصورة
التي رسمتها في مخيلتي للمجاهدين . ، قلت لمجاهدي : بماذا تشعر ؟ قال : أشعر
أنني وحيد . . . فريد . . كأن العالم كله لا يريدني . . . أشعر أن الناس تمقتني
. . . أشعر أن المسلمين : بعيدين عني لا يفهمونني ! قلت له كلا يا مجاهدي ! لا
تقل ذلك . . . أنك في قلوبنا . . . بل في سويداء قلوبنا . . . إن منزلتك لا
تدانيها أي منزلة . . . لا تقل ذلك . . . بل وأنت في وحدتك تنظر إلى السماء،
وتنتظر رتل الأمريكان لتعرِّفهم على مَلَك الموت أَرْمُقُك . . أرمقك وأبتسم ،
أقول لنفسي ، وأقول لمن حولي : هذا مجاهدي . . هل ترونه ؟؟؟ ما بي مس أو جنون .
. إنه مجاهدي . . ما لكم لا تبصرونه ؟؟؟ هل عميت أبصاركم ؟؟؟ ألا ترون هذا
الجلال ؟؟ ألا ترون هذا المنظر الباهر ؟؟ إنني أشعر بك . . أشعر بقطرات عرقك
وهي تتحدر من جبينك فَتَنْسَلُّ من شُعَيْرَات عارضيك وتَنْدَاح على قميصك
فيبتل بتلك القطرات ، أشعر بك وحزام القنابل وخزانة الرصاصات الذي شددته على
حِقْوَيْكَ قد أثر في جلدك وأنت تتصبّر ممنيا نفسك أن هذه المعركة هي الأخيرة
وبعدها جنة الخلد ، فما جرح يدمي في جنب جنة عرضها السماء والأرض ؟ أشعر بك
وبالكدمة التي أصابت يدك فاخضر جلدك حين وقعت عليك لوحة حديدية إثْر انفجار
صاروخ جو أض رماه عليك الأمريكان . . أشعر بك وقلبك الذي يرجف طربا حينما سمعت
صوت رتل الدبابات وقد أقبل ناحيتك ومجموعتك . . أشعر بك وأنت تتحفز . . أشعر بك
وأنت تثني ركبتك وتشرئِبٌّ برأسك تختلس نظرة من فوق آخر لَبِنَةٍ متهدمة ، تقيس
بعينك المُتَمَرِّسَة بُعْدَ المسافة عن الدبابات ، أشعر بك وأنت تقول في نفسك
، خمس دقائق ويمرون من هنا ، خمس دقائق على الجنة ، يا مجاهدي . . . هل مللتنا
. . هل مللت دنياك هذه ؟؟؟ ويحك ! هل سترمي بنفسك إلى الهلكة هكذا !؟ نظر إلي
مستخفا . . . شعرت أن كهرباء سرت في كل جسدي من نظرته ، طأطأت رأسي حياء وخجلا
، بماذا سينطق لساني أمام هذا الشيء ؟ عاود النظر إلى الدبابات . . . نظر تارة
إلى الضفة الأخرى من الشارع ، ثم أطرق كأنه يفكر . . إنني أشعر بك . . أشعر بك
وأنت تقول لنفسك : إلى الجنة ولكن بعد أن نثخن فيهم . . نعم أشعر بك . . . كيف
ستفعل . . . نادى أصحابه بصوت كأنه الفحيح ، إنها دبابتان تحرسان قافلة من
الجنود الأمريكان ، عددهم لا يقل عن ثلاثين جنديا . . لقد كانت المعلومات تفيد
أنها نقالة جند واحدة تحميها سياراتا جيب بمدافع رشاشة ، إن الخطة يجب أن تتغير
. . يجب صرف الدبابة التي في المقدمة حتى يحصل الاقتحام السريع المطلوب . . .
إن الحل الوحيد هو الهجوم على قافلة الجند من فوق الدبابة ، إن صعودنا فوق
الدبابة سيجلها عديمة القيمة . . . كيف ؟؟؟ سنلقي قنبلة في مقدمة القافلة
للإعاقة وتبطيء سرعتها ، ويحمي ظهري ويصرف أنظار الجند مجموعة منا وسأصعد إلى
فوق الدبابة بالسرعة المطلوبة ! ! ! إنها مغامرة يا مجاهدي ! ! نظر إلي نظرة
حادة . . وهل جئنا لنلعب ؟؟؟ مرت القافلة . . فرموا مقدمتها بثلاث قنابل جعلتهم
يضطربون وأبطأت القافلة قليلا وفي سرعة فائقة صعد مجاهدي الدبابة والتفّتْ
مجموعته على القافلة تمطرها بوابل من الرصاص ، وتحلق الأمريكان حول الدبابة
الأمامية والخلفية لكن مجاهدي كان قد علاها ، فصب كل ما في كلاشينكوفه فاقتنص
عشرة أو يزيد ، فلما فطن له الأمريكان بدأوا يمطرونه بالرصاص فأصاب مجاهدي منها
في ساعده وكاهله فوقع على الدبابة . . . لقد ايقن الهلكة . . . أمسك بالقنابل
الثلاثة ورماها واحدة تلو الأخرى وكانت الثالثة في يديه فما أن رأى الأمريكان
يقتربون منه حتى فجرها بقربهم فنالته شظاياها ولكن رصاصاتهم قد سبقت الشظايا
فمات مجاهدي . من فوره . .
. لا زلت معك . . معك بكل وجداني . . وأنت الآن جثة ملقاة على الدبابة .
لقد سحبوك وألقوا بك في قارعة الطريق مع من مات من المجاهدين . . . وطفقوا
يلملمون جثثهم ، بالعشرات ، ويضعونها في حاملة الجند ، ثم أسرعت بهم السيارات .
نحو مقصدهم . .
الآن . . على قارعة الطريق . . مجاهدي الحبيب . . أين أنت ؟؟؟ هل أخرف ؟ ها هو
مجاهدك أمامك . . لالا . . هذا جسده . . أين روحه الآن . . في أي حوصلة من
حواصل الطير الخضر التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم ؟ لئن نأت روحه عنا
، فما زالت جثته موجودة . . خطوت إليها بتؤدة . . أهويت أنظر إليه . . نعم هاهي
. . قطرات العرق التي تحدرت من جبينه وبلت قميصه . . . ما زالت كما هي . .
فالمعركة لم تستغرق عشر دقائق . . . ولكن الدماء . قد ملأت جسمه كله . . أي
أريج أشمه ، أي عطر أجده ؟
مجاهدي الحبيب . . الآن طابت نفسك . . هيه . . . ؟ الآن هدأ فؤادك . . . هيه؟
نعم أشعر بك . الآن . . يا لها من راحة تلك التي نلتها وفزت بها .
مجاهدي الحبيب . . لاتظن لحظة أنني خذلتك . . إنني معك . . معك بكل قلبي .
ومشاعري وجوارحي وجوانحي . . . معك بباطني وظاهري . . بسري وعلانيتي . . معك
وأنت تبتسم ، معك وأنت تحزن ، معك وأنت تبكي . . . معك على الدوام . . . . يا
أخي المجاهد .