( السلفية ) مفردة يكثر تردادها في وسائل الإعلام ، ولا سيما هذه
الأيام ؛ وكثير من الحديث عنها حديث لا يخلو من إشكالات ، ولذلك أسباب
عديدة ، لا أود الخوض فيها . غير أنَّ من المهم محاولة كشف هذه
الإشكالات ، ولا سيما أن منهج السلف أوسع مما قد يعرضه بعض الفضلاء
فضلا عن غيرهم . والحديث في هذا الموضوع حديث شائك ، لأسباب خارجة عن
حقيقة الموضوع . وهو ما يتطلب أهمية الفصل بين الوصف والتيارات التي
تنتمي إليه ؛ بحيث يكون الوصف حكما على من يتصف به لا العكس . وهو أمر
لا بد منه لقراءة الأحداث ذات العلاقة .
وقبل الحديث في الموضوع ؛ أحب التأكيد على أنه حديث محب للوفاق
الإسلامي ، ومتطلع إلى اتساع رقعته ، وانحسار رقعة الشقاق والاختلاف ما
أمكن ، انطلاقا من منهج أهل السنة والجماعة . ولمَّا كانت هذه عبارات
بشرية ، فلا غرابة أن يعتريها نقص في التعبير أو قصور في الإيضاح ، غير
أنّ ما أطمع إليه من قصد الحق بها ، وغلبة حسن الظن على قارئها ، جعلني
أجد قوة داخلية في الدفع بها بين يدي إخوتنا وأخواتنا الكرام في هذه
المجموعة النخبوية ، التي يوجد فيها بعض مشايخنا وأساتذتنا .
فأقول مستعينا بالله :
1) السلفية في حقيقتها الأصيلة ، تعني : منهج أهل السنة
والجماعة المتقيد باتباع السلف (منهج الصحابة رضوان الله عليهم ومن
تلقى نهجهم وسار عليه في القرون الفاضلة) في أصول الاعتقاد ، وأصول
الاستنباط ، والعمل والسلوك على ضوء ذلك ( أي : الاقتداء والاتباع
لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتقيد بمنهج الصحابة ومن تبعهم
بإحسان ) .
فهي منهج عقدي فقهي سلوكي ، لا جماعة معينة ولا فردا بشخصه .
2) وهي ليست منهجاً حادثاً أو محدثاً كما يصورها بعض الكتاب ؛
فأشهر رموز أهل السنة والجماعة على مستوى الأمة الإسلامية بمختلف
أطيافها التي تؤمن بالكتاب والسنة هم : الأئمةُ الأربعة : أبو حنيفة
النعمان ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، رحمهم الله ؛ فهم رموز
السلفية الحقة ؛ ولذلك اتفقت كلمتهم على أن الحجة في نصوص الشرع ، لا
في أقوالهم إذا ما خالفتها لعدم علم بها ، أو خطأ في فهمها ، وهم
متفقون في ثلاث قضايا رئيسة :
1- أصول الاعتقاد .
2- ما علم من الدين بالضرورة من الأحكام الشرعية .
3- أصول الاستدلال وقواعد الاستنباط .
واشتهر أهل الحديث بأنهم الناقلون لمنهج السلف في الاعتقاد والاستنباط
؛ ولذلك كانوا أسعد به في التطبيق من غيرهم في الجملة .
3) ولذلك فالفروع الفقهية مما يقع فيه الخلاف أو يسوغ فيه
الاجتهاد ، ليس معيارا لمنهج السلف ؛ ولذلك وجدناهم يؤلفون في فقه
الخلاف ، ويستسيغون الخلاف فيه دون تجريم أو تأثيم للمخالف عن علم
واجتهاد ، مع اعتمادهم للدليل الشرعي مرجعا للترجيح ؛ ونظرة في ما يعرف
بكتب الخلاف (الفقه المقارن) كالأم للإمام الشافعي [بعض الناس يظنه
كتابا خاص بفقه الشافعي بينما هو كتاب فقه مقارن] ، وفتح القدير لابن
الهمام الحنفي ، والاستذكار لابن عبد البر المالكي أوتلخيصه وتحليله :
بداية المجتهد لابن رشد المالكي ، والمغني لابن قدامة الحنبلي ، كافية
في كشف هذه الحقيقة .
وجماهير أتباع المذاهب الأربعة متفقون على منهج السلف في الفقهيات ،
وإن تخلف بعضهم عنه في بعض مسائل الاعتقاد.
وبه يعلم أن المذاهب الفقهية الأربعة وبقية فقه السلف متفقة في مرجعية
الكتاب والسنة وإجماع الأمة ، وإن اختلفت في تطبيقات الاستنباط منهما
فيما يقع فيه الخلاف ويسع فيه الاجتهاد .
وعليه ؛ فمنهج السلف ، منهج لعموم الأمة في الجملة ، بمعنى أنَّه لا
يخلو متبع للأئمة الأربعة من اتباعه ، كلاً أو جزءاً ، وإن كان اتباعه
جزئياً ، تجعل من العسير إطلاق الوصف على من ظهر منه خلافه في قضاياه
الكلية . وهذا مفترق طريق يمكن ردمه بالتصحيح والإصلاح والدعوة وفق
الحكمة الشرعية ؛ فثمة علماء أجلاء في عصور سابقة وفي عصرنا هذا ،
كانوا على خلافه ، فما لبثوا أن تبين لهم الحق فاتبعوه عن علم ،
وساهموا في نشره بحكمة .
4) ومنهج أهل السنة والجماعة يتميز بحيز كبير من التعددية
الفقهية داخل إطارها الأصولي ، المحكوم في العمل بالترجيح الشرعي بناء
على الدليل .
وهو ما يفسر تعدد آراء المنتسبين له في كثير من القضايا الاجتهادية ؛
وإن بالغ بعض المعاصرين في ذلك حتى خرج عن الإطار الأصولي ، الذي يتطلب
وعيا كبيرا بفقه المصلحة في إطار الشرع ، وهو ما تتطلبه المواقف
السياسية أكثر من غيرها ؛ ولهذا كان من قواعد السياسة الشرعية : ( تصرف
الراعي على الرعية منوط بالمصلحة ) ومن ضوابطه : ( اعتبار المآلات ) و
( فقه الموازنات ) ؛ وهي قضايا تكون أصح قراءة وأكثر دقة في حال العمل
الجماعي المحكم والتحالفات الواعية ( المؤسسات الشرعية الدعوية ،
كالمجامع الفقهية ، ولجان الفتوى ، وهيئات كبار العلماء ، واتحادات
العلماء ورابطاتهم ، أوالتنظيمات السياسية التي تجمع بين الفقه السياسي
والتجربة السياسية كبعض الجماعات الإسلامية التي مارست السياسة وتعاملت
معها دون جمود على آراء اجتهادية متوارثة لرموزها ) .
وهي أخطر ما تكون عندما تنطلق من آراء فردية في قضايا عامة ، إذ تسيء -
غالبا - للمنهج ، وتقدح في الفكر ، وتشق الصف ووحدة الجماعة .
5) ومن هنا فإنَّ مما ينبغي التذكير به ، وهو مما قد يخفى في
الحديث عن منهج السلف عند من يسمعون به أو يتبعوه ولم يدرسوه أو
يرتسموه : أن من خصائص منهج السلف : نبذ الفرقة والاختلاف ، كما نجده
في متون العقيدة السلفية كالعقيدة الطحاوية وشروحها ؛ والخلاف يعنون به
الخلاف المذموم كالفرقة في الدين ، وتفريق الكلمة والجماعة ، لا الخلاف
الفقهي بين المذاهب )وللشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله كلام عصري
جميل في بيان هذه المسألة ) ؛ ولذلك فمن يسعى في فرقة الأمة سواء كان
منتسبا للسلفية أو غير منتسب إليها ، فهو قد تخلف في ذلك عن منهج السلف
، الذي هو منهج أهل السنة والجماعة ؛ فلا يصح نسبة تصرفه هذا إلى منهج
السلف .
ومن هنا ؛ فينبغي التفريق في التحليل السياسي بين مواقف بعض من ينتسبون
إلى منهج السلف ، وبين منهج السلف ؛ فمن الظلم لمنهج السلف أن ينسب
إليه من يخالفه ، أو أن يتم توصيفه من خلال بعض من ينتسب إليه .
6) ومما يحسن ذكره - هنا - أننا في هذا العصر نجد انتشارا هائلا
لمنهج أهل السنة والجماعة ( في دائرته الخاصة التي تمثل منهج السلف في
أصول الاعتقاد والاستنباط ، ودائرته الأخص التي تمثل - إضافة إلى ذلك -
منهج السلف في الاعتقاد والاستنباط والسلوك ) ، وذبول ما عداه على
المستوى الشعبي ، أمام المد العلمي ، والتعليم العام ، الذي ينبذ
الشعوذة والخرافات والاعتقادات الباطلة ، التي تعارض النقل ويأباها
العقل ، (وإن بقي له مؤسسات تجد دعما داخليا وخارجيا كبيرا في عالمنا
الإسلامي مما يوحي بقوة لا تدعمها المسيرة الإسلامية على أرض الواقع )
؛ وهو ما استنهض خصوم منهج أهل السنة والجماعة من غلاة الصوفية
والعلمانيين ، إلى التنادي للوقوف في وجه مسيرة الإصلاح الإسلامي
المتنامي . وقد انضم إليهم – للأسف - غير المتثبتين من أهل السنة
والجماعة من علماء وكتاب ، ممن يبنون مواقفهم على خلفيات إعلامية أكثر
منها علمية ، وإن كنت أرى انضمام هؤلاء لهؤلاء عن غير قصد سيء في
الجملة .
7) وخلاصة القول :
- ينبغي أن نسعى جميعا في التصحيح والإصلاح على منهج أهل السنة
والجماعة ، وأن نتواصى بذلك ، بعيدا عن التصنيفات ، التي تمزق الأمة ،
وتشتتها ، وتجعل بأسها بينها .
- كما ينبغي البعد عن الاستعجال في قراءة الداخل الإسلامي ، دون دراسة
تبحث عن الإشكالات وتضع الحلول ، وعدم الاكتفاء بالتوصيف الذي يساهم في
التصنيف .
- كما ينبغي الحذر من الانضواء - دون قصد - تحت حملات مغرضة ، تدفع بها
جهات معادية - داخلية وأجنبية - في عالمنا الإسلامي ، وقد أشرت من قبل
إلى بعض الخطط الأجنبية المكتوبة في ضرب أهل السنة والجماعة ببعضهم ،
والبحث عن فروق لتحقيق ذلك أو افتعالها إن لم توجد . وأمَّا من يقصد
الدخول في تلك الحملات المعادية أو المشبوهة ، فليس محل حديث في هذه
الخاطرة .
ورحم الله علماء السلف الذين علمونا تكرار هذه الدعاء القرآني العظيم
الذي جاء في آية مطلعها يحكي حال الخلف السائرون على منهج السلف : : {
وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ
فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ
رَّحِيمٌ } .
والله المستعان .
سعد بن مطر العتيبي