قبل بضعة أشهر طالب بعض المصريين من غير المسلمين مع بعض العلمانيين
بتغيير المادة الثانية من الدستور المصري الحالي ، بحيث تحذف منها
عبارة " الإسلام دين الدولة " ؟!
هذه الواقعة ، لا يمكن تجاهلها في ظل الحديث عن تكييف الثورة الشعبية
المصرية الحالية في النظر الشرعي حالاً ومآلاً ؛ إذ إنَّ مصطلح الثورة
من المصطلحات التي لها اتصال بالدستور وجوداً وإلغاء وتغييراً ، ولذلك
فإنَّ الثورات الشعبية ، كما تكون فرص مكاسب ، يمكن أن تكون منشأ مخاطر
، وهنا تتعدد الأحكام المتفرعة بتعدد عللها ، والتابعة بتعدد ما تتبعه
؛ ومن ثم فإنَّ مصطلح ( الثورة الشعبية السلمية ) يتطلب تكييفا مختلفا
عن غيرها من وسائل التعبير عن الرأي المعروفة عالميا .. فهي في الحقيقة
من نوازل هذا العصر التي يعسر إلحاقها بحكم بعينه من الأحكام الفقهية
المعتادة .
1) وإنَّ من مشكلات بعض الإعلام المعاصر : تحميل بعض الخطاب
الإسلامي ما لا يحتمل - وتتبع زلل بعض قياداته مهما كان اجتهاداً
مقبولاً ؛ وبغض النظر عن سببه ، جهلاً كان أو تشفياً أو تشنيعاً -
فإنَّ ثمة إشكالات حقيقية ينبغي التنبه لها أيضاً ، منها : ما يتعلق
بفهم الخطاب الشرعي لعموم النّاس ، كطريقة صياغة الخطاب ، اتكالاً على
فهم الفقيه ومجتمعه ، ومن أمثلته : خلو الصياغة الفقهية أحياناً من بعض
القيود المؤثرة ، اعتماداً على ظهورها لدى الفقيه ، بينما هي خفية
بالنسبة لغيره ، كما ينبّه العلامة ابن عابدين رحمه الله ؛ وهذا أمر
ظاهر في هذا العصر ، إذ تكون محل سوء فهم أو إساءة فهم ، ولا سيما في
حال صناعة الخبر في صياغته . وكذا الشأن في حال ورود البيان في سياق
بيان المخاطر ، لا قصد بيان الحكم المحرّر في التعامل مع الواقعة ، ومن
أمثلة ذلك ما تداولته وسائل الإعلام عن بعض مشايخنا الفضلاء ، وتحميل
كلامه ما لا يحتمله في واقع الحال ، وقصد المتكلم ؛ فقد وجدنا لهؤلاء
الشيوخ تصريحات تضمنت بيان حكم التعامل مع الواقعة من خلال المطالبة
بتحقيق المقاصد الشرعية للثائرين على استبداده مثلا . غير أنَّ الإعلام
قد يتوقف أحيانا عند إشهار بيان دون بيان ، أو حكم دون قيود ؛ لأسباب
قد تكون بريئة ، وقد لا تكون .
2) وعلى كل حال ، فإنَّ أهمَّ الإشكالات أيضاً ، ما يقع في التأصيل
الشرعي لبعض القضايا السياسية ، ومن ذلك : إشكالية التكييف
الفقهي للمسألة عند الفقيه ، كما هي في واقع الأمر ؛ وإشكالية فقه
التعامل معها في الواقع بغض النظر عن الحكم الأصلي لديه .
ومثاله كما في العنوان : تكييف ( الثورة الشعبية السلمية ) ، هل هي
خروج على الحاكم ؟
أو هي مظاهرات سلمية ؟ أو مظاهرات عنف ؟ أو اعتصامات احتجاج ؟
أو هي شيء آخر ؟
ويتبين الحكم من خلال النظر في الأوصاف الفقهية لكل حالة ، وهل المسألة
مفردة يمكن إلحاقها بنظير أو تخريجها على حكم ، أو هي مركبة تتطلب
نظراً مستقلا ، وحكماً جديدا ؟ فلا يصح إطلاق الأوصاف جزافاً ، ولا
إلحاق المسائل المستجدة بغيرها تحكّما .
ومن يتأمل الثورات الشعبية السلمية المعاصرة ، ويراجع تاريخ الثورات
الشعبية عموما ، وينظر فيما كتب في العلوم السياسية بشأنها ، يجدها
أوسع شأناً من المظاهرات والاحتجاجات الأخرى ، ويجد لها سمات ، وبينها
وبين غيرها فروقا تتمثل في نقاط عديدة ، ربما كان من أهمها بالنسبة
للفقيه ما يلي :
-
أنَّ الثورة انتفاضة شعبية عامة لا تمثل تياراً
بعينه ، ولا تتطلب تصريحا بوجودها حتى لو بدأت بطريقة مأذون بها
قانونيا . فهي تشمل المسلم وغير المسلم ، والرجل والمرأة ، والصغير
والكبير ، و الغني والفقير ، وربما تشمل بعض المسؤولين أيضا ولا سيما
في مراحلها المتقدمة .
-
وأنَّها سلمية لا عسكرية ، فلا سلاح فيها ولا شوكة . وقد رأينا
في الثورة المصرية الحالية كيف امتلأ ميدان التحرير بالقاهرة - مثلا-
إلى اجتماع كبير للعوائل ، ففيه الرجال والنساء ، والشيوخ والأطفال ،
فرأينا فيه ابن الثمانين ، كما رأينا فيه ذي الثلاثة أشهر ! وجاءت
رمزية السلمية فيه في صور متعددة ، منها : إمضاء عقد النكاح الشرعي فيه
منقولا على الهواء مباشرة بين شاب وشابة ! إضافة إلى ترحيب الناس
بالجيش ، وتعهد الجيش بسلامتهم ، واعترافه بشرعية مطالبهم ؛ وهي مهمة
في بيان مدى صحة إلحاقها بالخروج ؛ فهل يمكن أن توصف ثورة يلتزم الجيش
بحمايتها بأنها خروج ؟!
-
ومنها : أنَّها مفاجئة يعسر توقعها بدقة ، إن لم يكن غير ممكن ؛
فهي تأتي على نحو سريع ، بحيث تكون أمراً واقعاً ؛ وقد ذكرت من قبل في
مقال ( خاطرة من وحي الثورة التونسية ) أنَّ الثورات كالزلازل الخطيرة
، لا يمكن التنبؤ بها قبل وقوعها في الغالب ، كما لا يغني التحذير منها
، ولا يصح الاكتفاء بالتفرج على آثارها ، دون إنقاذ أو مساهمة في
البناء . وهذه النقطة مهمة جداً في التكييف الفقهي عند بيان الحكم ،
حتى ممن لا يجيز بعض أدوات الثورة ؛ فمن المتقرر في قواعد الفقه وفقه
الفتوى : التفريق بين حكم الشيء قبل وقوعه ، وحكمه بعد الوقوع .
فالتعامل مع الواقع قد لا يستوفي شروط بعض الأحكام النظرية ، مما يجعل
الفقيه ينظر إلى المسألة مع مراعاة الحكم من هذه الجهة .
وهذه النقاط مهمة من الناحية الفقهية ، في جوانب عدة ، ينبغي ملاحظتها
في فقه التعامل مع الواقعة ، وإحسان توظيفها في تحقيق المصالح الشرعية
دون توقف عند أضرار أدنى منزلة ، ومن هذه الأحكام على سبيل المثال :
حكم قبول مشاركة - أو المشاركة مع غير المسلمين - أو أصحاب الفكر
المتأثر ببعض الأفكار غير الإسلامية ، أو في ظل وجود النساء المتبرجات
من مسلمات أو غير مسلمات ، ومدى الإفادة من الحضور المكثَّف لوسائل
الإعلام المباشرة الإسلامية والأجنبية ، والعربية والعجمية ؛ وكذلك حكم
الإفادة من هذا التجمع – الواقع - فيما يخدم الإسلام والمسلمين ، دعويا
أو فكريا أو اجتماعيا مثلا . وهو ما يمكن تصوره في مثل : تصحيح صورة
الإسلام المشوهة لدى العالم ، وذلك بالمشاركة الإيجابية في العمل
السلمي الناضج ، وإقامة شعائر الإسلام ، كالصلاة جماعة أمام الشاشات
بهذا العدد الهائل ، وكذا التوعية العامة ، ومدافعة اعتداءات المرتزقة
الغاشمين ( البلطجية ) على الناس ، حفظاً للأنفس و الأموال والأعراض ،
وتجهيز الموتى الذين سقطوا بسبب أجهزة النظام الحاكم ومرتزقته ،
ومعالجة الجرحى ، وإطعام الناس ، وإعانة الناس ، وغيرها من المصالح
المشروعة ، ولا سيما في ظل غياب الأجهزة الحكومية المعنية أو ممارستها
لما فيه إضرار بالناس ، ووجود ما يشبه الفراغ السياسي ، أو احتمال
وجوده .
-
ومن ذلك : أنَّ الثورات الشعبية غرضها التغيير - لا مجرد
التعبير - في النظام الحاكم ، بإصلاح إن كان قابلا للإصلاح ، أو بتغيير
أو إسقاط ، إذا ما كان النظام فاسدا فاقدا للثقة فيه ؛ ولا تهدأ الثورة
عادة إلا إذا تحققت مطالبها ، حتى لو أُقنِعت أو قُمِعَت في بدايتها ،
فإنَّها تبقى كامنة لتثور في وقت لاحق . فهي ليست مجرد مظاهرات جماعية
أو نقابية أو نحوها ، تخرج للتعبير عن مطالبها ، لتعود بعد تعبيرها عما
تريد وإن لم تتحقق مطالبها ؛ بل هي عملية يتم من خلالها التغيير الجذري
لنظام الحكم ويترتب عليه بالضرورة إلغاء الدستور . وهذه نقطة مهمة جداً
في التكييف الفقهي ، وذلك من حيث النظر في النظام الحاكم وحكم وجوده ،
ومدى شرعيته ، ومدى المصلحة في الحفاظ عليه أو في تعجيل زواله ، وكذا
الدستور إذا ما كان إسلامياً لا يجوز تغييره ، أو علمانيا مختلطاً يجب
إصلاحه ، أو غير إسلامي يجب تبديله بما لا يناقض الثقافة الإسلامية في
المجتمعات المسلمة ، إلى غير ذلك من الاعتبارات المهمة في الحكم ..
وهنا ترد مسألة حكم المبادرة الشرعية في الإصلاح أو التأسيس الصحيح ،
بمختلف أنواع المساهمة استقلالاً في أحوال واشتراكاً في أخرى . وهي
اعتبارات مهمة لا ينفك الحكم عنها .
-
ومنها : أنَّ الثورة الشعبية يقوم بها الشعب وقياداته الشعبية عادة ،
فإن لم يكن فيشترط في الثورة أن تكون معبرة عن إرادة الشعب ، إذا ما
قام بها بعض قياداته ؛ وذلك كله دون اشتراط قانونيتها من عدمه ، بل قد
لا تحتمل التنسيق مع الحكّام أصلا ، ولا التحاور بل ولا – حتى -
التفاوض معهم أحيانا . بخلاف المظاهرات التي تبدأ عادة وفق قوانين تسمح
بها ، وقد تحمل تراخيص لتنفيذها . بل قد تكون بإيعاز من الحاكم ، أو
برعاية الحزب الحاكم ، ولا سيما حين يشعر بضغوط أجنبية لا تتوافق مع
سياساته أو آماله . وفي الثورة المصرية الحالية سمعنا الاعتراف بالثورة
الشعبية رسميا من قبل قيادات النظام الحاكم ، وهو اعتراف رسمي سواء كان
اعترافا بالشرعية أو بالواقعية .
وعليه ؛ فإنَّ هذه الفروق وغيرها ، تجعل (الثورة الشعبية السلمية) ،
مسألة مستقلة بذاتها ، تقع على نحو معين ، ومن ثم لا ينبغي أن يُستدعى
في بيان حكمها فتاوى جزئية تتعلق ببعض أدواتها التابعة ، كالمظاهرة أو
الاعتصام مثلا .
وإذا ما انتقلنا إلى فقه التعامل مع الثورة ؛ فسنجد أنَّنا أمام فقه
آخر ، تحكمه جملة من الأحكام ، لما لها من امتدادات متنوعة ، ومسائل
متفرعة ؛ تجعل المسألة محل نظر فقهي ، مداره على جلب المصالح ودرء
المفاسد ، مع اعتبار النظر في المآلات ، وهو أمر يتطلب نظراً آخر يوظّف
علوماً أخرى في فقه التعامل مع هذه الواقعة ، كأدواتٍ وعلومِ آلةٍ
للفقه السياسي ، منها : جملة العلوم السياسية ، التي تتطلب توظيفا
فقهيا شرعياً للفكر السياسي ، والتنظيمات السياسية ، والعلاقات الدولية
، ومؤسسات المجتمع الشعبي وجماعات الضغط ؛ وهي قضايا متشابكة . وأكثر
النَّاس فقهاً لهذه الأمور هم أهل الحل والعقد من العلماء الشرعيين
والخبراء القانونيين والأساتذة المتخصصين ، ورؤوس الناس في بلد الواقعة
، كما شهدنا من علماء مصر وقضاتها وخبرائها ، وقياداتها الشعبية ،
وتبقى وظيفة غيرهم من أهل الإسلام مكمِّلة ، في نحو إبداء نصح أو مشورة
.
وهنا ينبغي التنبيه إلى أنَّ الحكم يبنى على نظر كلي ؛ فلا يمكن الحكم
على الثورة الشعبية العارمة من خلال ما قد يصحبها من عنف عارض من أفراد
لا يمثلون مجموع الثورة ، ولا من خلال عنف منظم مصدره بعض أجهزة
الحكومة التي تريد التخلص منها .
وبهذا يظهر أنَّ إشكالية التكييف ، أحد أهم أسباب الخلاف الفقهي بين
بعض العلماء في هذه النازلة .
وهو أمر يدركه كبار الفقهاء ، ويظهر ذلك في فقه التعامل مع الثورة
المصرية ؛ وبه تفسر مطالبة الرئيس المصري بالتنحي من بعض من يمنع
التظاهر من العلماء ، سواء كان منعه منعاً للمظاهرات عموما تغليبا
لجانب مفاسدها ، أو لما يعتقد من كونه جزءاً من خطة تقسيم جديدة للعالم
العربي والإسلامي ؛ وذلك إدراكاً منهم للفرق بين الحكم على أصل الشيء
قبل وقوعه ، وحكم التعامل معه بعد الوقوع .
كما يظهر أنَّ للإعلام أثراً إيجابياً أو سلبياً في خدمة الفقه أو
التأثير فيه نقلاً أو توظيفا ، حسناً كان أو سيئاً ، وهو ما ينبغي على
العلماء والدعاة ملاحظته .
وأخيراً ، فهذه إشارات عابرة ، قُصد منها لفت الانتباه إلى
أهمية فهم كلام أهل العلم وطريقتهم في الخطاب ، وأهمية العناية
بالمسائل على ما هي عليه ، دون الاكتفاء باستدعاء أحكام مسائل أخرى
ليست إلا حكما بالنظر في الجزء ، لا يمكن اختزال حكم الكل فيه ، ولا
تخريج حكم الواقعة على فتاوى علماء أجلاء ، جاءت في سياقات مختلفة ،
كسياق بيان وسائل الدعوة ، لا بيان فقه التعامل في حال وقوع الثورات
الشعبية .
وفي ظل الثورة العارمة ، ينبغي أن يدرك الثائرون أنَّ لحظة الانتصار قد
تكون هي ذاتها لحظة الخطر الأكبر ، إذ هي محل للثقة المفرطة ، التي قد
تحمل المنتصر على تفويت فرصة الانتصار بالإصرار على حصول ما قد لا
يتحقق كله ، أو الثقة في وعد دون ضمانات قوية .
وفي تاريخ الثورة المصرية السابقة عبر كثيرة ، وغدر خطير ، كما أنَّ
فيها مكاسب ، كان منها النّص في الدستور المصري على أنَّ الإسلام دين
الدولة ، والذي كان مسودة حتى تقرر في الدستور الحالي وسابقَيه ، وهو
ما لم يكن فيما قبلها ؛ وثقتنا في أهل الإسلام في مصر أن لا يقبلوا
تغييرا في الدستور يمس دين الدولة ، بل أملنا فيهم بعون الله ، أن
يضيفوا إليه – من خلال الأدوات الرسمية المتاحة - ما يجعل الشريعة
الإسلامية العادلة مصدر القوانين المصرية ، وهي شرعية تحفظ حقوق
المواطن المصري ، مسلماً كان أو قبطيا .
نسأل الله تعالى أن يبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه الإسلام وأهله ،
وأن يولي على المسلمين خيارهم من ذوي الأمانة والقوة ، ممن يحفظون
الدين ويسوسون الدنيا به ، ويسوسون الأمة سياسة شرعية ، تحفظ كيانهم
وهويتهم ، وتحقق الاستقرار والرغد لهم في أوطانهم .
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .