بسم الله الرحمن الرحيم
سألني أحد الأشخاص عن حكم مسألة ما ، فأجبته بما يقتضيه الدليل وقرنت
الجواب بدليله ، فبادرني سائلا : هل المسألة متفق عليها أو أن فيها
خلافاً ؟ قلت وقد أدركت مبتغاه : وماذا يفيدك الجواب ؟ قال : إن كان
فيها خلاف سيكون أسهل عليّ !
وبالتأكيد ليس هذا الشخص فريداً في فكرته هذه ، بل قد ظهرت بين صفوف
المنتسبين للاستقامة الظاهرة فكرة البحث عن آراء الفقهاء التي فيها
تسهيل في الأحكام الشرعية بغض النظر عن مدى ثبوتها بالأدلة الشرعية ،
بل ومع العلم أحياناً بكونها مصنَّفة ضمن الشذوذ الفقهي الصارخ ،
والمؤسف حقاً أن يتبنى بعض هؤلاء العمل بها وإن جاءت على خلاف الدليل
الصحيح الصريح ؛ بل وتطبيعها والدفاع عنها ، كلّ ذلك استناداً إلى وجود
خلاف في المسألة !
ومن هنا فتن هؤلاء بعضَ العوام ، لظهور الترخص في بعض الأحكام
الظاهرة لدى المطبقين لهذه الفكرة التبريرية من الرجال والنساء ..
فتسبب هؤلاء في ارتكاب المخالفة بغير دليل من الشرع ، وبين صدّ
المتبعين للدليل الشرعي من العوام عنه ..
وتكمن الخطورة المنهجية في هذا المسلك في ابتغاء الآراء بمعزل عن
أدلتها ، وجعل الخلاف ذاته دليلاً على المشروعية ! وهذا – لا شكّ -
انحراف منهجي ، يقع فيه بعض المتفقهة فضلا عن غيرهم من الباحثين عن
التخفيف من أي طريق كان . فمما لا يخفى على صغار طلبة العلم أنَّ
الخلاف ليس معدوداً في الأدلة الشرعية ، لا المتفق عليها ، ولا ما
يعبّر عنها بالمختلف فيها . بل النصّ الشرعي ظاهر واضح صريح في حصر
الرجوع في حال النزاع إلى الكتاب والسنة ، في مثل قول الله عز وجل : (
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ
الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) .
بل إنَّ مما اختصّ به العلماء في النصيحة لهم ، الواردة في قول النبي
صلى الله عليه وسلم : ( الدين النصيحة قلنا : لمن ؟ قال : لله ولكتابه
ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) كما يقول ابن رجب رحمه الله : " ردّ
الأهواء المضلة بالكتاب والسنة على موردها ، وبيان دلالتهما على ما
يخالف الأهواء كلِّها ، وكذلك رد الأقوال الضعيفة من زلاّت العلماء ،
وبيان دلالة الكتاب والسنة على ردّها " [1] .
وهذا الانحراف بجعل الخلاف في منزلة الدليل الذي أخذ يستشرى اليوم بين
بعض المتفقهة ، ليس انحرافاً جديداً ؛ بل قد نبّه إلى خطورته ومنافاته
للشريعة الربانية ، عدد من المحققين من أهل العلم ؛ فقد قال العلامة
الباجي المالكي رحمه الله منكراً تكرر مثل هذا الانحراف لدى المستفتِين
بسبب ضعف إنكاره : " وكثيراً ما يسألني من تقع له مسألة من الأيمان
ونحوها : لعلّ فيها رواية ؟ أو لعلّ فيها رخصة ؟ وهم يرون أنَّ هذا من
الأمور الشائعة الجائزة ! ولو كان تكرر عليهم إنكار الفقهاء لمثل هذا
لما طولبوا به ولا طلبوه مني ولا من سواي ؛ وهذا مما لا خلاف بين
المسلمين ممن يعتدّ به في الإجماع أنَّه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحلّ
لأحدٍ أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنَّه حقّ ، رضي بذلك
من رضيه ، وسخطه من سخطه ، وإنَّما المفتي مخبر عن الله في حكمه ، فكيف
يخبر عنه إلا بما يعتقد أنّه حكَم به وأوجبه ، والله تعالى يقول : (
وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ) المائدة 49 . فكيف
يجوز لهذا المفتي أن يفتي بما يشتهي ! أو يفتي زيداً بما لا يفتي به
عمراً لصداقة بينهما ، أو غير ذلك من الأغراض ؟! " [2] .
وقال العلامة الشاطبي رحمه الله ، في فصل عقده في الموضوع بعد تعقيبه
على كلام الباجي: " وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية ؛ حتى صار
الخلاف في المسائل معدوداً في حُجج الإباحة ، ووقع فيما تقدم وتأخر من
الزمان : الاعتمادُ في جواز الفعل على كونه مختلفاً فيه بين أهل العلم
! لا بمعنى مراعاة الخلاف ، فإنَّ له نظراً آخر ، بل في غير ذلك ،
فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع ، فيقال : لِمَ تمنع ؟ والمسألة
مختلف فيها ، فيجعل الخلاف حُجَّة في الجواز لمجرد كونها مختلفاً فيها
، لا لدليل يدلّ على صحة مذهب الجواز ، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد
من القائل بالمنع ؛ وهو عين الخطأ على الشريعة ، حيث جعل ما ليس
بمعتمدٍ معتمداً ، وما ليس بحجّة حجّة " [3] . ثم أورد نقلاً عن
الخطابي جاء فيه : " وليس الاختلاف حُجّة . وبيان السنّة حُجّةٌ على
المختلفين[ يعني فيما أورده من المسائل التي اختلف فيها ] من الأولين
والآخرين " ثم قال الشاطبي رحمه الله : "
والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه ، ويجعل القول الموافق حجة له
ويدرأ به عن نفسه ؛ فهو قد أخذ القول وسيلة إلى اتّباع هواه ، لا وسيلة
إلى تقواه ، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلاً لأمر الشارع ، وأقرب إلى
أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه "[4] .
وقال الشاطبي رحمه الله مبيناً بعض دعاوى هؤلاء : (( ويقول : إن
الاختلاف رحمة ، وربما صرّح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول
المشهور ، أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر ، أو الذي عليه
أكثر المسلمين ، ويقول له : لقد حجَّرت واسعاً ، وملت بالناس إلى الحرج
، وما في الدين من حرج ، وما أشبه ذلك . وهذا القول خطأ كلّه ، وجهل
بما وضعت له الشريعة ، والتوفيق بيد الله " [5] .
وقد قسّم رحمه الله الآخذين بهذا المنهج المنحرف
إلى ثلاثة أقسام :
الأول : الحاكم به ،
والثاني : المفتي به ،
والثالث : المقلّد العامل بما أفتاه به المفتي . ثم بين حكم كل
قسم إذ قال : " أمَّا الأول ؛ فلا يصح
على الإطلاق ؛ لأنَّه كان متخيراً بلا دليل ، لم يكن أحد الخصمين
بالحكم أولى من الآخر ، إذ لا مرجح عنده بالفرض إلا التشهي ...
وأمَّا الثاني ؛ فإنَّه إذا أفتى
بالقولين معاً على التخيير فقد أفتى في النازلة على الإباحة ، وإطلاق
العنان ، وهو قول ثالث خارج عن القولين ، وهذا لا يجوز إن لم يكن يبلغ
درجة الاجتهاد بالاتفاق ، وإن بلغها لم يصح له القولان في وقتٍ واحد
ونازلة واحدة أيضاً حسبما بسطه أهل الأصول .
وأيضاً ؛ فإنَّ المفتي قد أقامه المستفتي مقام الحاكم على نفسه ، إلا
أنه لا يلزمه المفتي ما أفتاه ، فكما لا يجوز للحاكم التخيير ، كذلك
هذا .
وأمَّا إن كان عاميَّاً ؛ فهو قد استند في فتواه إلى شهوته وهواه ،
واتّباع الهوى عين مخالفة الشرع ، ولأنَّ العامي إنَّما حكَّم العالِمَ
على نفسه ، ليخرج عن اتّباع هواه ، ولهذا بعثت الرسل وأنزلت الكتب ؛
فإنَّ العبد في تقلباته دائر بين لَمَّتين : لمّة ملَك ، ولمّة شيطان ؛
فهو مخيّر بحكم الابتلاء في الميل إلى أحد الجانبين ، وقد قال تعالى :
( ونفسٍ وما سوّاها * فألهمها فجورها وتقواها ) ( إنَّا هديناه السبيل
إمَّا شاكراً وإمَّا كفورا ) ( وهدينه النجدين ) ...
ثمة قضية أخرى ينبغي مراعاتها في هذا الموضوع ، حتى لا تختلط به ؛ وهي
الفرق بين الطرائق الشرعية في الفتوى ، التي يسلكها المفتي الناصح ،
مراعياً فهمه للوقائع الخاطئة وطبيعة انتشارها ، والآليات التي تؤدي
إلى الحكم الصحيح ؛ وأعني بذلك فقه التدرج في التطبيق ، لا التدرج في
التشريع ، إذ إن التدرج في التشريع قد انتهى زمنه بانقطاع الوحي ،
فالحلال حلال والحرام حرام منذ نزل به الوحي ، إلا أنَّ الحرام قد
يحتاج إلى تدرج في سبيل الخلاص منه ، كالفتوى لمن ابتلي بالتدخين بأن
يقلل منه في بداية عزمه على التخلص منه ، حتى لا يثقل عليه تركه ،
فيفشل في تركه والانقطاع عنه ؛ فهذه السبيل في الفتوى تبقي المحرم
محرما ، وتسعى في الخلاص منه بالتدرج في التخلي عنه ، لسبب يخص المسألة
محلّ الفتوى ؛ ويشهد للتدرج في التطبيق : نصوص التدرج في التشريع ، مع
بقية أدلة الأمر بالمستطاع من مثل قول الله تعالى : ( فاتقوا الله ما
استطعتم ) ، ومن السنة من مثل قول النبي e في الصحيح : ( دعوني ما
تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم و اختلافهم على أنبيائهم، فإذا
نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، و إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) .
نسأل الله تعالى الثبات على الحق ، مهما خالفه الخلق ..
والله تعالى أعلم وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وآله .
وكتب / سعد بن مطر العتيبي
الرياض 6/3/1431
---------------------------------
[1] جامع العلوم و الحكم ، لابن رجب : 1/97 .
[2] نقلاً عن الشاطبي في الموافقات :5/90-91 .
[3] الموافقات : 5/ 92-93 .
[4] الموافقات : 5/93-94 .
[5] الموافقات :5/94 .