الموازنة بين
السياسة الشرعية والسياسات الوضعية (4) ( أصول ونماذج )
د. سعد بن مطر العتيبي
خلاصة ما مضى في الأمر الأول : أن السياسة الشرعية تقوم على مقصد العبودية لله
تعالى المتمثل في الدعوة إليه وحكم الحياة بشريعته . بينما تقوم السياسات
الوضعية على فصل الدين عن الدولة أو الفكر العلماني الذي يمثل مفترق الطريق بين
السياسة الشرعية والسياسات الوضعية المعاصرة .
الأمر الثاني : أنَّ السياسة الشرعية جزء من الشريعة
الربانية ؛ أما السياسات الوضعية فأنواع من الخطط البشرية .
السياسة الشرعية جزء من الشريعة الربانية (1) ؛ فهي متصفـة بما يليق بمشّرعها
من كمال . أمَّا السياسات الوضعية ، فأنواع من الخطط البشرية ، فهي مهما
بَهَرَت قاصرة .
فالفلسفات السياسية والقانونية التي تستقى من غير وحي الله تعالى ، لا قرار لها
كما قال الله تعالى : { ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها
من قرار } ؛ غير أنَّ من كتّاب المسلمين من خدع بسرابها ، ولو تأمّلها هؤلاء
لوجدوها تخبطاً ظاهر التناقض ، ولو رجعوا إلى وحي الله تعالى ، لوجدوا الوصف
الدقيق لهذا التخبط البشري مع بيان سببه : { بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في
أمر مريج } ؛ فها هي النظريات تُستحسن فتقدس ثم ما تلبث أن يَتَبَدَّى انتكاسها
؛ فتُنْتَقص ، ثم تُنبذ شيئاً فشيئاً حتى يَحلّ غيرُها محلَّها ، وهكذا دواليك
، أمر مريج مختلط ؛ فها هي ( الديمقراطية ) – أنفس ما يظن الغرب ، أنَّه وصل
إليه من السياسات الوضعية – تُعاب وتُنتقص من أربابها ؛ بل في دار نشأتها ، من
ذلك إيجاز بعضهم العيوب التي لاحظها ( الديمقراطيون ) على ( الديمقراطية ) ، في
: الصراعات الدائمة بين الأحزاب المنقسمة على بعضها ، والحكومـات التي لم
يتجاوز متوسط بقائها في الحكم طيلـة نصف قرنٍ ثمانيةَ أشهر ، والمنافسات
الحمقاء بين المواطنين ، وعدم وجود سياسة متجانسة لمدى طويل ، والبطء الشديد في
تقدم مستوى حياة الجماهير : سياسة الإسكان ، وعدم كفاية التربية المدنية ،
والاقتصادية ، والاجتماعية " (2) .
فالشريعة الربانية تظهر فيها قدرة الخالق ، وعظمته ، وعلمه المحيط بكل شئ ولطفه
بخلقه ، وكماله المطلق ، وهذه الميزة العظيمة الشريفة انبثق عنها مجال في غاية
الخصوبة والعطاء ، ويعرف اليوم بـ( خصائص الشريعة ) سَلَّمَ به الأوائل عملاً
من أعمال القلوب يظهر على ألسنتهم ، ويتناثر في كتاباتهم ، وقد يفردونه
بالتأليف تحت مسمى ( محاسن الدين ) (3) ، حتى جاء هذا العصر ، وهجمة أشراره
الشرسة على شريعة الله ، مما حتّم على أهل الإسلام إفراده بالتصنيف ، على نحو
كثيف ، خطّاً هجومياً دفاعياً ، يؤخِّر زحف الهجمة ويضعفها ، ويقنع الأغرار
بالرجعة ويحصِّنها . ووصف هذا المجال ظاهر في نفيه عن سواها ؛ وما قد يُظنُّ
مثله منها في القوانين الوضعية - على اختلاف أنواعها - لا يعدو أن يكون اتفاقا
في المسمّى دون الدلالة والمعني ، وهو عند الباحث المنصف أسماء من التشبيه
المتردي أمام علو الشريعة ، ما أنزل الله بها من سلطان .
وخصائص الشريعة مجال واسع ، ولكن يُشار إلى أهم تلك الخصائص - التي لعل ما
عداها مندرج تحتها - ويُحَال إلى جملة من المراجع التى تحدَّثت عنها . ولعلَّ
من المفيد تقسيمها - هنا - إلى مجموعتين :
الأولى : الخصائص المتعلقة بذات الشريعة ، ومنها :
أ - خاصية الكمال والشمول .
ويراد بها أنَّ الشريعة الإسلامية استكملت ما تحتاجه الشريعة الكاملة من أحكام
عقدية وعملية ، فقهية ، وخلقية ، قواعد ومبادئ ونظريات ؛ فهي غنية بما يكفل
حاجات الأمة ، في علاقة المخلوق بربه الذي خلقه ، وفي علاقة الفرد بنفسه ،
وبغيره من فرد وجماعات أو دولة ؛ بل وبغيره من المخلوقات ، وذلك في الحاضر
القريب والمستقبل البعيد ، فضلاً عن الماضي قريبه وبعيده (4) .
وهي شاملة ، لا تخلو حادثة واحدة عن حكم لها في الشريعة ، وذلك في جميع الأعصار
، والأقطار ، والأحوال ، فالمعاني التي تضمنتها نصوص الشريعة وأصولها تعم جميع
الحوادث وتسعها (5) ؛ قال الله تعالى : قال الله تعالى : {فإن تنازعتم في شيء
فردوه إلى الله والرسول } ، فكلمة {شيء} هنا ، نكرة في سياق الشرط تفيد العموم
، فيما يتصور التنازع فيه جنساً وقدراً (6) . وما لم يتنازع فيه فمحل إجماع ،
والإجماع أحد أصول الشريعة ، فما صح إجماع مجتهدي الأمة عليه فهو منها ؛ فلا
يخرج عنها حكم .
ب- خاصية العموم .
والمراد بها أن الشريعة عامة لجميع البشر في كل مكان وزمان ، وهذا من القطعيات
، بل هو مؤكد في جميع مصادر الشريعة ، الكتاب والسنة والإجماع (7) ؛ وهذه
الخاصية تستلزم – عقلاً - السمو ، والثبات والدوام ، وهما الخاصيتان التاليتان
.
ج- خاصية السمو .
والمراد بها : أنَّ قواعد الشريعة ومبادئها ، أسمى من عصر الأمة ؛ من ماض وحاضر
ومستقبل ؛ إذ فيها من المرونة الفقهية في أحكامها و كلياتها ، ما يحفظ لها هذا
المستوى السامي ، مهما ارتقى وتعقَّد مستوى الأمة ؛ ومن ثم فلا تحتاج إلى تعديل
أو تغيير تلاحق به ما يطرأ على المجتمع من تغيّرٍ ، في تطوّرٍ أو تحدُّر (8) .
د- خاصية الثبات والدوام مع المرونة ؛ وهذه من آثار
كمالها وسموها .
والمراد بهذه الخاصية المركبة من الثبات والمرونة : أنَّ الشريعة باقية لا
يلحقها نسخ ولا تغيير ؛ لأنَّ النسخ يكون بقوة المنسوخ ، أو أقوى منه ، فلا
ينسخ الشريعة - التي هي من الله تعالى - إلا تشريع آخر من الله تعالى ؛ وحيث قد
ختم الله عز وجل بها الشرائع ، وختم بنبيها الأنبياء ، وانقطع الوحي بموته صلى
الله ليه وسلم ، فلا يتصور أن ينسخها أو يغيرها شيء ؛ فنصوصها وقواعدها
وكلياتها لا تقبل التعديل ، فضلاً عن التغيير والتبديل (9) .
قال العلامة أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله - في ذكره خواصّ الشريعة - : "والثانية
: الثبوت من غير زوال ؛ فلذلك لا تجد منها بعد كمالها نسخاً ، ولا تخصيصاً
لعمومها ، ولا تقييداً لإطلاقها ، ولا رفعاً لحكم من أحكامها ، لا بحسب عموم
المكلفين ، ولا بحسب خصوص بعضهم ، ولا بحسب زمان دون زمان ، ولا حال دون حال ،
بل ما أثبت سبباً فهو سبب أبداً لا يرتفع ، وما كان شرطاً ؛ فهو أبداً شرط ،
وما كان واجباً فهو واجب أبداً ، أو مندوباً فمندوب ، وهكذا الأحكام ؛ فلا زوال
لها ولا تبديل ، ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية ؛ لكانت أحكامها كذلك " .
(10)
وحيث إنها من الحكيم العليم اقترنت صفة الثبات بصفة الدوام مما يستلزم المرونة
الفقهية " داخل إطار ثابت ، حول محور ثابت " (11) .
ومن حيث الواقع التشريعي ؛ فقد جاءت أحكامها وقواعدها ، على نحو يجعلها صالحة
لكل زمان ومكان ، وهو معنى خاصية ( السمو ) السابقة ؛ ويدلّ على هذه الحقيقة
ويؤكِّدها واقع الشريعة ومصادرها ، وطبيعة مبادئها وكلياتها ، وأحكامها
ومقاصدها وهذا من الأمور الجلية ، البديهية عند أهل الشريعة ، التي تقوم هذه
الرسالة على حقيقة من حقائقها ، إلا أنه يحسن الإشارة - في غايـة الاقتضاب ،
لمن شـاء سبر هذه المسلمة ، ولا سيما من غير أهـل الاختصاص - إلى ثلاثة مناهج
موصلة ، قطعاً - لمن تجرد في بحثه طريقة وهدفاً - إلى تجلية هذا المعني ،
والوصول في الإيمان به إلى حق اليقين ، وهي : الاستقراء لمدى ابتناء الشريعة
على جلب المصالح ودرء المفاسد ؛ و النظر في طبيعة أحكام الشريعة من حيث خصائص
الأحكام المفّصلة ، والأحكـام التي جـاءت في شكل قواعـد وكليـات و مبادئ عامة ؛
والنظر في مصادر الأحكام ، وطرائق الاستنباط . (12) .
وهذه الخصائص لا وجود لها في السياسات الوضعية ؛ بل إنَّ انتفاءها منها يُعد من
خصائصها ؛ " ولولا أنَّ الشريعة من عند الله لما توفرت فيها صفات الكمال والسمو
والدوام ، تلك الصفات التي تتوفر دائماً فيما يشرعه الخالق ، ولا يتوفر شيء
منها فيما يضعه المخلوق " (13) .
الثانية : الخصائص المتعلقة بالخضوع للشريعة ، والامتثال لها .
وسيأتي الحديث عنها في الحلقة التالية إن شاء الله تعالى .
-----------------------------
(1)ينظر : إعلام الموقعين ، لابن القيم : 4/452 .
(2)الإنسان في المجتمع المعاصر ، بوسكيه و فاتييه :160، ترجمة / مصطفى كامل
فودة ، ط-1969م ، القاهرة ، لاحظ تاريخ ترجمة الكتاب ، فكيف هي الآن ، وقد
تكشفت عيوبها للعامة ، ودعمت بالسياسات الدولية الجائرة ، حتى استحى من ذلك
عقلاء القوم ! .
(3)ينظر - مثلاً من المتقدمين - : محاسن الإسلام وشرائع الإسلام ، لمحمد بن عبد
الرحمن البخاري ؛ ومن المتأخرين : حجة الله البالغة ، للدهلوي .
(4)ينظر مثلاً : التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي ، عبد
القادر عودة : 1/24، ط11-1412 ، مؤسسة الرسالة : بيروت ؛ والثبات والشمول في
الشريعة الإسلامية ، د. عابد السفياني : 130 ، وهو من أجمع ما كتب في الموضوع
وأدقِّه .
(5)ينظر : الرسالة ، للإمام الشافعي : 20 ؛ والأم له : 7/298 ، دار المعرفة :
بيروت ؛ وجامع البيان عن تأويل آي القرآن ، للإمام الطبري:14/161 ؛ وأحكام
القرآن ، للجصاص : 3/189-190 ؛ والجامع لأحكام القرآن ، لمحمد بن أحد القرطبي
:6/270-271 ؛ والموافقات ، لأبي إسحاق الشاطبي : 1/108 ، 4/184 وما بعدها .
(6)تحكيم القوانين ، لمفتي الديار السعودية سابقا الشيخ محمد بن إبراهيم آل
الشيخ : 6 ؛ وينظر في بيان قاعدة " النكرة في سياق الشرط تعم " القواعد
والفوائد الأصولية وما يتعلق بها من الأحكام الفرعية ، لعلاء الدين ابن اللحام
:278، ط1-1418، مكتبة إحياء التراث الإسلامي : مكة المكرمة .
(7)ينظر : الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي : 4/184 وما بعدها ؛ مراتب الإجماع ،
لابن حزم :193؛ والإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان ،
للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد :90 وما بعدها ، ط1-1417، دار العاصمة : الرياض
.
(8)ينظر: التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي ، لعبد القادر عودة
:1/24 ؛ والمدخل لدراسة الشريعة الإسلامية ، د. عبد الكريم زيدان :40 ؛ وعلم
القانون والفقه الإسلامي ، د.سمير عالية :58.
(9)ينظر : المراجع السابقة ؛ الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية ، د. عابد
السفياني :110 وما بعدها و589-592 ؛ والحكم والتحاكم في خطاب الوحي ، عبد
العزيز مصطفى كامل :1/361 .
(10) الموافقات : 1/109-110 .
(11)خصائص التصور الإسلامي ومقوماته ، سيد قطب إبراهيم : 75 ، ط-1415 ، دار
الشروق : بيروت .
(12)ينظر : المدخل لدراسة الشريعة ، لعبد الكريم زيدان : 39-40 ؛ والثوابت
والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي المعاصر ، لصلاح الصاوي : الفصل الثاني ؛
والحكم والتحاكم في خطاب الوحي ، لعبد العزيز كامل :1/361 وما بعدها ؛ والمراجع
السابقة ، ولا سيما : الموافقات للشاطبي ، والثبات والشمول في الشريعة
الإسلامية ، للسفياني .
(13)التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي ، لعبد القادر عودة :
1/25 .