العمل بالسياسة
الشرعية بين مكر الأعداء وعجز العلماء وجهل الأبناء
د. سعد بن مطر العتيبي
سبق في الحلقة الماضية أن ما يذكر من خلاف في جملة العمل بالسياسة الشرعية ،
غير مسلَّم به قادحاً في الاتفاق على العمل بها ؛ إذ المتأملُ يتضح له أن ما
يُحكى من خلاف في العمل بالسياسة الشرعية ، غايته أن يكون خلافاً في بعض مصادر
السياسة الشرعية ، لا في العمل بالسياسة الشرعية ، وأنَّ لذلك أسبابا ، منها :
حصر مجالات السِّيَاسة الشَّرعيَّة ، في مفهومٍ ضيق ؛ والخلط بين اختلاف
الفقهاء في اعتبار بعض مستندات السياسة الشرعية وبين العمل بالسِّيَاسة
الشَّرعيَّة من جهة ، و بين رفض العلماء لتصرفات بعض الولاة التي يسمونها (
سِيَاسة ) أو ربما ينسبونها إلى السِّيَاسة الشَّرعيَّة ، وبين اعتبار العلماء
للعمل بالسياسة الشرعية من جهة أخرى ؛ والخلل في إدراك الفرق بين سوء تطبيق
السِّيَاسة الشَّرعيَّة من بعض الولاة والحكَّام ، واعتراض العلماء على ذلك ؛
وبين اعتبار العلماء للعمل بالسِّيَاسة الشَّرعيَّة .
ومما ينبغي العلم به هنا أنَّ سوء النظر وسوء التطبيق
هذا عائد إلى تفريط طائفة ، وإفراط أُخرى :
فالأولى : طائفة سدٌّت على نفسها وعلى الناس ، من
طرق السياسية الشرعية ما تستقيم به أمورهم ؛ ظنَّاً منهم منافاتها لقواعد الشرع
؛ " والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصيرٍ في معرفة حقيقة الشريعة ، والتطبيق بين
الواقع وبينها " (1) .
ولا زال منهم أقوام في هذا العصر ممن ينتمون إلى أهل الإسلام ، لكنهم لم يأخذوا
الكتاب بقوّة ، ولم يتعلموا الشرع بوعي ، وبلغ الأمر ببعضهم أن صار جاهلاً
مركباً ، يبحث عن تأويلات فاسدة للوازم نظره الفاسد من سوء الظنّ بالمشرِّع ،
والتشكيك في لزوم حمل الكافّة على النظر الشرعي في جميع شؤونهم .
والثانية : سوَّغت باسم السياسة ما يناقض حكم
الله ورسوله ، من السياسات والقوانين ؛ لمَّا رأت أن النَّاس لا يستقيم أمرهم
إلا بشيءٍ زائدٍ على ما فهمه أولئك المفرِّطون ، من الشريعة ؛ " فتولَّد من
تقصير أولئك في الشريعة ، وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شرٌّ طويل ،
وفسادٌ عريض … وكلا الطائفتين أُتيت من قِبَل تقصيرها في معرفة ما بعثَ الله به
رسولَه …" (2) .
وهذه الفئة هي في عصرنا أشرّ مأخذاً وأخطر أثراً ، إذ قادها في عصرنا أعداء
الملّة ، ووسع دائرتها وأبرز شبهها بعض من انخدع بالأفكار الوافدة من تلاميذ
المستشرقين ، وهي في كثير من شبهها مستقاة من مياه الفكر الفلسفي الغربي الآسنة
.
وثمة فئة معاصرة تجاوزت حدّ الإيمان والتسليم بشرع الله ، ووصل بها الحال إلى
المطالبة بالأحكام الوضعية التي تناقض مسلمات الشرع الحكيم ، وتتعدى على ثوابت
الدين الحنيف ، فيما يشبه موجة الزنادقة التي ظهرت في مراحل ضعف الدول
الإسلامية السالفة ؛ وكان فيهم من يصرح بردته ويتباهى بأيديلوجية كافرة ، وربما
ألبست بلبوس مصطلحات معاصرة حكم بكفر أفكارها علماء الإسلام ، كالعلمانية
الرافضة لسياسة الدنيا بالدين والليبرالية الملحدة المطالبة بتجاوز أحكام كل
دين ؛ وهؤلاء لم يدعوا مجالا لمناقشة فكرهم في دائرة الإسلام ، ولذلك يناقش
فكرهم ويفند كما يناقش فكر أهل الكفر والزندقة سواء بسواء .
ولكنَّا وجدنا من بني جلدتنا من علقت بفكره بعض شبههم ، وظهر تأثره ببعض طرحهم
ولو على سبيل المطالبة بتفنيد الشبهة لا تبنيها ، فقرأنا لمن يشكك في إمكان
تطبيق الشريعة بعد عهد النبوة والخلافة الراشدة ، زاعمين أن الشرع لم يطبق بعد
ذلك ! وسمعنا من يلوك ذات الجهالة .
ومن هنا فإنَّ من المناسب التعريج على شيء مما يكشف حقيقة هذه الشبهة أو
الجهالة التي يحسن وصفها بالفرية ، إذ يكذبها واقع القضاء على مرّ العصور
الإسلامية ، ويردّها التاريخ بأخباره ووقائعه وأحداثه وطبقات الرجال من قضاته ،
ويقطع دابرها التفاتة عابرة إلى ضخامة التراث الفقهي الإسلامي الذي دون كثيرا
منه قضاةُ الإسلام ، حتى كان وصف القاضي من أظهر أوصاف الفقهاء فيما مرّ من
الأزمان ؛ بل وجدنا في تاريخ الفقه نقلة في خدمة القضاة ، تتمثل في تدوينٍ
فقهيٍ على نمط التنظيم والتقنين الحديث تقريبا للأحكام من غير إلزام فيما لا
يشرع الإلزام به ، وتميز بذلك أشهر مذهبين حكَم أتباعهما الدول الإسلامية
السالفة ، وهما المذهب الحنفي في المشرق والمالكي في المغرب ، فلن يعسر على
باحث منصف أن يرجع إلى كتبٍ من هذا النوع لبعض قضاة الحنفية من مثل : خزانة
الفقه ، لأبي الليث نصر بن محمد السمرقندي (ت/373) ؛ وهو الكتاب الذي تبعه في
ذات النهج مهذبا ومطوِّراً القاضي أبو الحسين علي بن الحسين السّغدي (ت/461) في
كتابه المنظّم : النتف في الفتاوى ، وكان يذكر الآراء إن تعددت دون ترجيح
ليُرَجِّح المتفقه والقاضي منها ما يراه راجحا ؛ ولن يعسر على الباحث أيضا أن
يطلع على ما جاء عند المالكية شبيها بذلك من مثل : أصول الفتيا في الفقه ،
لمحمد بن حارث الخشني (ت/361) . وأما كتب القضاء وسياساته وتراتيبه في ظلال
الدول الإسلامية فأمر لا يخفى على عوام باعة الكتب .
أما الحديث المصنفة في القضاء ونوازله فأمر من الظهور بمكان ، حتى إنه لحري أن
يعاب جهله على من يدعي ثقافة ، بله طالب فقه . بل إنَّ استشعار حقيقة الجهل حمل
د. خالد محمد خالد وهو من أشهر من أثار هذه الفرية إن لم يكن أشهرهم إلى
التراجع عنها وعن علمانية الحكم ، وكشف ستر الفكر المنحرف الذي دفعه إلى القول
بها ، وأصدر بكل شجاعة كتاباً سماه " الدولة في الإسلام " أعلن فيه أنَّ
الإسلام دين ودولة بلا مراء (3) .
وما أعسر الحديث في إثبات الواضحات ، ولمن قلّ اطلاعه على علوم أهل الإسلام
وأراد تثقيف نفسه في هذا المجال حتى لا يمرِّر عليه الجائرون ظلمهم للتاريخ ،
ومكابرتهم للواقع – أُرشد الباحث عن الحقيقة إلى الاطلاع على الكتب المتخصصة في
نظام القضاء الإسلامي ومدارسه ومؤلفاته ، ما بين مؤصّل مطوّل مثل : القضاء
ونظامه في الكتاب والسنة ، للدكتور عبد الرحمن الحميضي ، وهو رسالة دكتوراه
محكّمة ، ووجيز كاشف للحقيقة بلغة الواقع ، مثل : دراسة في تاريخ القضاء الشرعي
في الإسلام وتطوراته منذ عهد النبوة إلى عصرنا الحاضر ، للدكتور إبراهيم
الربابعة ، وإن شاء نوعا آخر من التأليف الكاشف لجهل المنكرين الموضِح لمكانة
قضاة المسلمين ، فليطع على كتاب من مثل : أثر القضاء في الدعوة إلى الله تعالى
دراسة تأصيلية وتطبيقية في العصر العباسي .
ولست هنا أرمي إلى قصد تفنيد تلك المقولة التي لم يع أصحابها معنى استشهاد
الفقهاء بسنن الخلفاء الراشدين دون غيرهم من الخلفاء ، امتثالا لوصية المصطفى
صلى الله عليه وآله وسلم باتباع سنتهم ، دون غيرهم من خلفاء الإسلام – وإنما
القصد الإشارة إلى هذا الانحراف المبني على هذه الفرية الواهية ، وإلا قد
فنّدها علماء الإسلام ومفكروه المعاصرون ، وبيّنوا سذاجتها وفكَّكوا فكرتها .
ومنهم الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في الباب السادس من كتابه القيم : " الإسلام
والعلمانية وجهاً لوجه " ؛ والدكتور المستشار طارق البشري في كتابه المفيد : "
الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي " ؛ ومما كُتب
حديثا في رد هذه الفرية ، سلسلة من المقالات لم تكتمل بعد ، بعنوان : " تحكيم
الشريعة الإسلامية عبر التاريخ الإسلامي " ، لأخينا الدكتور علي الصلابي وفقه
الله (4) .
وعوداً على بدأ ؛ فإنَّ مِمَّا يؤيد ما سبق من أسباب توهم الخلاف في إعمال
السياسة : أنَّ العلم بطرق استنباط السياسة الشرعية الرئيسة ؛ كالعلم بفقه
القواعد الكلية ، والمقاصد المرعيّة ، والمنفيّة ، وإلحاق فروع كلٍّ منها بها -
من العلوم التي تُعدّ مزية للفقيه المتبحِّر - لا ينهض بها كلُّ أحد ؛ لما قد
يظهر من معارضة جزئياتها للأدلة ؛ وحيث قد اشتهر فقه بعض الأئمة بتعليل فروع
تلك الكليات بها أكثر من غيرها ، كمذهب الإمام مالك ؛ فقد كان ذلك منهم محلَّ
ثناء وتبجيل ؛ فهذا الحافظ الذهبي يُثني على فقه الإمام مالك ، بقوله : " وبكل
حال فإلى فقه مالك المنتهى ؛ فعامَّة آرائه مُسَدَّدَة ، ولو لم يكن له إلا حسم
مادّة الحيل ، ومراعاة المقاصد (5) لكفاه " (6) ، وهذه من حقائق السياسة
الشرعية وكبرى ملامح فقهها .
وقال أبو العبَّاس ابن تيمية - بعد أن ذكر وجوب سياسة الناس سياسة شرعية يكون
السيف فيها تابعاً للكتاب كما كان الأمر على عهد الخلفاء الراشدين ، وكان أهل
المدينة بعد ذلك أرجح فيه من غيرهم - : " وهذه الأمور من اهتدى إليها ، وإلى
أمثالها ؛ تبين له أن أصول أهل المدينة أصح من أصول أهل المشرق ، بما لا نسبة
بينهما " (7) .
وقال : " خاصَّة الفقه في الدين … معرفة حكمة الشريعـة ومقاصدها ومحاسنها " (8)
.
وقال : " … العلم بصحيح القياس وفاسده من أجلِّ العلوم ، وإنَّما يعرف ذلك من
كان خبيراً بأسرار الشرع ومقاصده ، وما اشتملت عليه شريعة الإسلام من المحاسن
التي تفوق التعداد ، وما تضمنته من مصالح العباد في المعاش والمعاد ، وما فيها
من الحكمة البالغة والرحمة السابغة ، والعدل التامّ " (9) .
وقال شهاب الدين القرافي : " تخريج الأحكام على القواعد الأصولية الكلية أولى
من إضافتها إلى المناسبات الجزئية ، وهو دأب فحول العلماء ، دون ضَعَفَةِ
الفقهاء" (10) . و جلّ فقه السياسة الشرعية من هذا الباب .
وهذا مما يدل على فضيلة علم السياسة الشرعية وعلو منزلته من الفقه في الدين
والله تعالى أعلم .
وإلى الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى .
---------------------------
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين ، لابن القيم : 4/137 .
(2) المصدر السابق : 4/451-452 ؛ وينظر : تبصرة الحكام ، لابن فرحون : 2/137 .
(3) ينظر : الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه ، د. يوسف القرضاوي : 170 . وقد كشف
الشيخ القرضاوي أن الفرية ليست من بنات أفكار فؤاد زكريا ، وهي ملاحظة تكشف
قلّة أمانة القوم . وهكذا الشأن في كثير من طرحهم ما هم إلا نقل عن المستشرقين
أو تلامذة المستشرقين ، وما أقبح التعالم بالغوية ، فكيف إذا كان مصدرها تقليد
إمعة .
(4) وهذه السلسة على هذا الرابط :
http://almanara.org/new/index.php?scid=32&pid=122
(5)المقاصد هي : " المعاني [ العلل ] والحِكَم [ ما يترتب على التشريع من جلب
مصلحة وتكميلها أو درء مفسدة وتقليلها ] ونحوها [ من الألفاظ التي بمعناها
كالغاية ] التي راعها [ أرادها ] الشارع في التشريع عموماً [ المقاصد العامة
التي تجتمع عليها جميع الأدلة أو أكثرها ] وخصوصاً [ المقاصد الخاصة التي قصدها
الشارع في كل حكم من الأحكام ، من حِكَم وعلل ] ، من أجل تحقيق مصالح العباد "
. مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية ، د. محمد سعد اليوبي :
37-38 . وعرفها د. عوض القرني بأنَّها : " الغايات التي أنزلت الشريعة لتحقيقها
لمصلحة الخلق في الدارين " . المختصر الوجيز في مقاصد التشريع : 19، ط-1419 ،
دار الأندلس الخضراء : جدة .
(6) سير أعلام النبلاء : 8/ 92.
(7) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية : 20/393 ، وينظر : 395 .
(8) المصدر السابق : 11/354 .
(9) المصدر السابق : 20/583 .
(10)الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام : 90 . وينظر : تهذيب الفروق والقواعد
السنية في الأسرار الفقهية ، لمحمد بن علي بن الحسين المالكي [ بهامش الفروق ]
: 4/97 .