أسس السياسة
الشرعية
(7)
قاعدة : الأصل في المنافع الإباحة وفي
المضار التحريم
د. سعد بن مطر العتيبي
قاعدة : الأصل في المنافع الإباحة ، وفي المضار التحريم
.
هذه القاعدة تجمع أصلين :
الأول : الأصل في المنافع الإباحة .
والمراد به : أنّ المنافع (1) التي لم يرد بشأنها دليل من الشارع ؛ فالقـاعدة
في حكمها : الإباحة ؛ حتّى يثبت خلافها الذي هو المنع.
قال إمام الحرمين الجويني : " فما لم يُعلَم فيه تحريم يجري على حكم الحِلِّ ؛
والسبب فيه أنَّه لا يثبت لله حكمٌ على المكلفين غير مستند إلى دليل ؛ فإذا
انتفى دليل التحريم ثَمَّ ، استحال الحكم به " (2) .
وقال : " من الأصول التي آل إليها مجامع الكلام أنَّه إذا لم يُسْتَيْقَن حجرٌ
أو حظرٌ من الشارع في شيءٍ ؛ فلا يثبت فيه تحريم في خلو الزمان " (3) .
وقال أبو العباس ابن تيمية : " وأمَّا العادات فهي ما اعتاده النَّاس في دنياهم
مما يحتاجون إليه ؛ والأصل فيها عدم الحظر ؛ فلا يحظر منه إلا ما حظره الله
سبحانه وتعالى … والعادات الأصل فيها العفو ؛ فلا يحظر منها إلا ما حرَّمه وإلا
لدخلنا في قول الله تعالى : {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه
حراما وحلالا} … " (4) .
حجية الاستدلال بهذا الأصل :
استُدِلَّ لهذا الأصل بأدلة كثيرة ، منها :
1- قول الله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا
أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } [ المائدة :4] قالوا : إذ
ليس المراد بالطيب الحلال ، وإلا لزم التكرار ؛ فوجب تفسيره بما يستطاب طبعاً ،
وذلك يقتضي حلّ المنافع بأسرها (5) .
2- وقوله عز وجل : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم
مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ
سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [سورة البقرة : 29] ؛ حيث
إنَّ الله عز وجل ذكر ذلك في معرض الامتنان ، ولا يمتن إلا بالجائز ، واللام
تقتضي الاختصاص بما فيه منفعة (6) .
وتأمل استدلال أبي العباس ابن تيمية رحمه الله بآية يونس في النقل عنه أعلاه ،
فما ألطفه من استدلال !
4- قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( إِنَّ
أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ
لَمْ يُحَرَّمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ
مَسْأَلَتِهِ )) (8) ؛ حيث ربط صلى الله عليه وسلم التحريم بالمسألة ، ومقتضاه
أنَّه كان مباحاً قبل ذلك (9).
5- قوله صلى الله عليه وسلم : (( مَا أَحَلَّ
اللهُ في كِتَابِهِ فَهو حَلالٌ ، وَ مَا حَرَّمَ فهو حرَامٌ ، وَ ما سَكَتَ
عنهُ فهو عَفْوٌ ، فَاقبَلُوا من اللهِ عافِيَتَه ، فَإنَّ اللهَ لم يكنْ
لِيَنْسى شَيْئاً )) وتلى : } وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } [مريم : 64] (10)
؛ إذ هو صريح في العفو عمَّا سُكِتَ عنه ، و المعفو عنه هو ما لا حرج في فعله ،
وما لا حرج في فعله هو المباح ، وهو محمول على المنافع لا على غيرها ؛ لأنَّ
المضار ورد بِشأنها ما يدلُّ على تحريمها مطلقاً ، كما سيأتي في الاستدلال
للشطر الثاني من هذه الطريق (11) .
والثاني : الأصل في المضارّ التحريم .
وقد يعبر بـ( ـالمنع ) أو ( الحظر ) بدل ( التحريم ) .
والمراد به : أنَّ ما لم يرد بشأنه دليل من الشارع من المضار فالقاعدة في حكمه
، التحريم (12) ؛ حتى يثبت خلافه .
قال القرافي : " الأصل في المنافع : الإذن ، وفي المضار المنع ، بأدلة السمع "
(13) .
وقال الإسنوي : " وأمَّا بعد الشرع ؛ فمقتضى الأدلة الشرعية أن الأصل في
المنافع الإباحة … وفي المضار – أي مؤلمات القلوب – هو التحريم " (14) .
حجية الاستدلال بهذا الأصل :
استُدِلَّ لهذا الأصل بأدلة كثيرة ، منها :
1- جميـع الآيـات التي دلَّت على تحريـم الضـرر
ومنعـه ؛ من مثل قـول الله تعالى : { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ
مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } [البقرة :233] ، وقوله سبحانه : {وَلاَ
تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ
نَفْسَهُ } [البقرة:231] ، وقوله تعالى : {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ
شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة :282] ، وقوله
سبحانه : {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ }
[النساء : 12] ، وقوله تعالى : {وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا
عَلَيْهِنَّ } [الطلاق :6] ، وقوله تعالى : } وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ
بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} [الأعراف : 56] ؛ فهي وإن كانت في قضايا جزئية إلا أنَّ
استقراءها يدل على قصد الشارع تحريم كلَّ أنواع الضرر ، ويفيد ذلك أصلاً كلياً
يُرجع إليه في كلِّ ما كان من هذا القبيل (15) .
2- قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا ضَرَرَ
و لا ضِرَار )) (16) ؛ فإنَّه دالٌّ على نفي الضرر مطلقاً ؛ لأنَّه جاء نكرةً
في سياق النفي ، والنَّكرة في سياق النفي تعم (17) ؛ قال الزرقاني : " فيه
تحريم جميع أنواع الضرر إلا بدليل " (18) .
وإلى الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى عن سنة الخلفاء الراشدين ، وهي ختام
محور أسس السياسة الشرعية وأهم طرق استنباطها التي ينبغي بيانها وتقريبها لمن
رام تمييز السياسة الشرعية عن غيرها من السياسات .
--------------------------------------------
(1) وقد يعبر عنها بـ " العادات " ؛ لتكون في مقابل العبادات ، إذ الأصل فيها
التوقيف .
(2) غياث الأمم في التياث الظلم ، للجويني : 490 ، وينظر : 502 .
(3) المصدر السابق : 509-510 .
(4) القواعد النورانية الفقهية : 176 ، ط1-1416 ، طبعة دار الفتح : الشارقة .
(5) إرشاد الفحول ، للشوكاني : 2/411 ؛ و رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ،
لشيخنا د. يعقوب الباحسين : 396
(6) الإمام في بيان أدلّة الأحكام ، لابن عبد السلام : 86 ، 173 ؛ والمصدرين
السابقين .
(7) إرشاد الفحول ، للشوكاني : 2/411 .
(8) رواه البخاري : ك/ الاعتصـام بالكتـاب والسنَّة ، ب/ ما يُكره من كثرة
السُّؤال ، ومن تكلُّف ما لا يعنيه وقولـه تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن
تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ
عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [المائدة :101] ، ح(7289) ؛ ورواه مسلم :
ك/ الفضائل ، ب/ توقيره صلى الله عليه وسلم وترك إكثار السؤال عمَّا لا ضرورة
إليه أو لا يتعلق به تكليف وما لا يقع ونحو ذلك ، ح(2358) واللفظ له .
(9) إرشاد الفحول ، للشوكاني : 2/411-412 ؛ ورفـع الحـرج في الشريعـة الإسلامية
، لشيخنا د. يعقوب الباحسين : 399.
(10) رواه البزار - كما في - كشف الأستار عن زوائد البزار ، لنور الدين الهيثمي
: 1/78، ح(123) و 3/58 ، ح(2231) ، ط2-1404، ت/حبيب الرحمن الأعظمي ، مؤسسة
الرسالة : بيروت – ؛ والحاكم : 2/375 ؛ والدار قطني في السنن [ مع التعليق
المغني ] : 2/137، ط- فالكون ، حديث أكادمي : لاهور ؛ والبيهقي في السنن الكبرى
: 10/12 ؛ وغيرهم .
(11) ينظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، د. يعقوب الباحسين : 398 ، وقد
استَدَلَّ بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنَّه قال : (( الْحَلالُ
مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي
كِتَابِهِ وَمَا سَكَـتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّـا عَفَـا عَنْهُ )) وهـذا حديث
فيه مقال ، ويغني عنه الحديث المذكور هنا بمعناه ؛ وينظر : العمل بالاحتياط في
الفقه الإسلامي ، منيب بن محمود شاكر : 112 .
(12) ينظر : إرشاد الفحول ، للشوكاني : 2/409 ؛ و المصدر السابق : 393-394 .
(13) الذخيرة : 1/151 .
(14) التمهيد في تخريج الفروع على الأصول : 487 .
(15) ينظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، د. يعقوب الباحسين : 406 .
(16) رواه ابن ماجه : ك/ الأحكام ، ب/ من بنى في حقِّه ما يضرّ بجاره ، ح(2340)
؛ وغيره .
درجته : صححه الحاكم ، ولم يتعقبه الذهبي (المستدرك : 2/58) ؛ وقال ابن الصلاح
: " هذا الحديث أسنده الدار قطني من وجوه ، و مجموعها يقوِّي الحديث ويُحَسِّنه
، وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به " . ذكره عنه ابن رجب ، في : جامع
العلوم والحكم : 2/211 ؛ وقال النووي : " له طرق يقوي بعضها بعضا " . الأربعين
النووية [مع جامع العلوم والحكم ] : 2/207 ؛ وقال العلائي : " للحديث شواهد
ينتهي مجموعها إلى درجة الصحة أو الحسن المحتج به " . ذكره عنه المناوي ، في :
فيض القدير :6/432 ، دار الفكر : بيروت ؛ وأكد ابن رجب قول النووي السابق (جامع
العلوم والحكم :2/210) ؛ ومن المعاصرين قال الشيخ أحمد شاكر : " وخلاصة القول
أنا نرى أنَّ حديث أبي سعيد ، حديث صحيح ، والروايات الأخرى شواهد له ، تقوي
القول بصحته ، والله أعلم " . تحقيقه لكتاب : الخراج ، ليحيى بن آدم (ت/203) :
95 [ آخر الحاشية (3) من ص : 93] ، ط2، تحقيق وشرح وفهرسة / أحمد محمد شاكر ،
مكتبة دار التراث : القاهرة ؛ وصححه الألباني في أكثر من موضع من كتبه ( إرواء
الغليل : 3/408) ح(896) .
(17) ينظر : التمهيد في تخريج الفروع على الأصول ، للإسنوي : 487 .
(18) شرح الزرقاني على موطأ مالك : 4/32 .