والمراد به العرف الصحيح ، وهو : ما تعارفه أكثر الناس ( وهذا قيد يخرج العادات
الخاصة ) من قول أو فعل اعتبره الشرع ؛ أو أرسله ، مما شأنه التَّغَيُّر
والتَّبَدّل .
وهذا القيد يخرج العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها ، كالأمر
بإزالة النجاسات ، وستر العورات ؛ لأنَّها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام
الشرع بخصوصها ، فلا تبديل لها ، ولو اختلفت فيها آراء المكلفين ، كما لو تعارف
الناس على كشف العورات ، كما يقول الشاطبي ، أو الاختلاء المحرم أو غيره .
ومجال إعمال العرف ما يلي :
1) الحالات التي أحال الشارع فيها على العمل
بالعرف .
ومن أمثلته : إحالة الشارع إلى العرف في مقادير الإنفاق ، كما سيأتي في إثبات
حجية العرف إن شاء الله تعالى .
2) تفسير النصوص التي وردت في الشريعة مطلقة ،
مما لا ضابط له فيها ولا في اللغة .
ومن أمثلته : تحديد ما يكون حرزاً في السرقة ؛ وما يكون به إحياء الموات .
قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله : " كل اسم ليس له حدٌّ في اللغة ولا في
الشرع فالمرجع فيه إلى العرف " .
وقال السيوطي : " قال الفقهاء : كلّ ما ورد به الشرع مطلقاً ، ولا ضابط له فيه
، ولا في اللغة ، يرجع فيه إلى
العرف " .
3) الأعراف التي تكون أسباباً لأحكام شرعية تترتب
عليها ، أو بعبارة أخرى : التي هي مناط لأحكام شرعيَّة ، مما لم تأمر به
الشريعة على نحو معين ، ولم تنه عنه ، وتُلحظ فيه المصلحة تبعاً لذلك . وهذه
لها صور ، منها :
- الأعراف التي تكشـف عن مرادات المكفين فيما يصدر منهم من أقوال وتصرفات ؛
ويدخل فيها صيغ العقود والفسوخ ، من بيوع و إجارات وإقرارات وأيمان ووصايا
وشروط في عقود ، ومعاهدات ومواثيق دولية ، وغيرها .
- الأعراف التي تكشف عن العلل والحكم التي تترتّب عليها الأحكام الشرعية ، أو
انتهائها . وسيأتي بيان لها إن شاء الله تعالى في مجالات السياسة الشرعية .
- الأعراف التي تكشف عن الصفات الشرعية ، أو صفات المحال التي تتعلق بها
الأحكام ، كالكشف عن مالية المعقود عليه ، وما يعتبر عيباً في المبيع ، وما
يتحقق به خيار الرؤية ؛ والكشف عما تتحقق به صفة الضرورة أو الحاجة ؛ والكشف
عما أجمله الشارع من الجرائم الموجبة للتعزير كألفاظ الشتم من غيرها ، وما يقع
به التعزير الرادع ، وغير ذلك .
هذا مجملٌ لمجالاتِ إعمالِ العرف شرعاً .
و ضابطه : " كل فعل رُتِّب عليه الحكم ، ولا ضابط
له في الشرع ولا في اللغة ؛ كإحياء الموات ، والحرز في السرقة ، والأكل من بيت
الصديق ، وما يعد قبضاً ، وإيداعاً ، وإعطاء ، وهدية ، وغصباً ، والمعروف في
المعاشرة ، وانتفاع المستأجر بما جرت به العادة ، وأمثال هذه كثيرة لا تنحصر "
.
شروط اعتبار العرف :
نص العلماء على شروط لا بد منها في اعتبار العرف طريقا
صحيحا للاستدلال ، وهي :
1) أن لا يخالف نصاً أو قاعدة شرعية .
2) أن يكون موجوداً عند إنشاء التصرف .
3) أن يكون مطرداً ، أي : مستمراً في جميع حوادثه
؛ أو غالباً، أي : في أكثرها ؛ والمراد : اطِّراد أو غلبة العوائد المتجددة في
كل زمان وفي كل مكان .
4) أن لا يُصَرِّح المتعاقدان بخلافه إن كان ثمّ
عقد .
حجية الأخذ بالعرف واعتباره .
استُدِلَّ لحجية العرف بأدلة كثيرة ، يكفي منها في إثبات
اعتباره : إحالة الآيات والأحاديث الأحكام المطلقة إليه لتحديدها به ، من مثل :
1) قول الله عز وجل : {وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ
الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ } [ البقرة233] ؛ إذ أرجع الله سبحانه وتعالى تقدير نفقة المرضع
إلى العرف غنىً وفقراً .
2) وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهند بنت
عتبة رضي الله عنها : (( خُذِي مَا يَكْفِيكِ َوَولَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ ))
رواه الشيخان ؛ حيث أحال في نفقة الزوج والولد إلى العرف .
ثم هو معتبر في الجملة في جميع المذاهب ؛ وهو معنى قول العلماء : إنَّ العادة
محكمة .
فالعرف قاعدة تطبيقيّة مهمّة ، يرجع إليها في تطبيق كثير من الأحكام العملية ؛
فهو في واقع الأمر ليس دليلاً ؛ بل الدليل مستنده الذي أحال إليه ؛ فالعلماء
عند اعتبارهم الأعراف وملاحظتها عند تطبيق الأحكام ، يستندون إلى أصل شرعي
ودليل معتبر ؛ يؤكد ذلك أهم شروط اعتبار العرف ، وهو : أن لا يخالف نصاً شرعياً
.
ما يشترط فيمن يفتي باتباع العرف الحادث :
لا يسوغ الإفتاء على مقتضى العرف الحادث لكلّ أحد ؛ فقد
نصَّ العلماء على شروط لابد من توفّرها ، في من يتصدَّى لذلك ، أهمها ما يلي :
1- أن يكون ممن له رأي ونظر صحيح ، ومعرفة بقواعد
الشرع ، وأن يكون على علم بمدارك الفتاوى وشروطها واختلاف أحوالها ؛ وذلك حتى
يُمَيِّز بين العرف الذي يجوز بناءُ الأحكام عليه وبين غيره ؛ فإنَّ المتقدمين
شرطوا في المفتي : الاجتهاد ؛ وهذا مفقود في زماننا ، فلا أقلَّ من أن يُشترط
فيه معرفة المسائل بشروطها وقيودها التي كثيراً ما يُسقطونها ولا يصرِّحون بها
اعتماداً على فهم المتفقه كما يقول ابن عابدين .
وقد عزى القرافي غلط كثير من الفقهاء المفتين ، إلى فقدان هذا الشرط منهم ؛ حيث
قال : " فهذه قاعدة لابدَّ من ملاحظتها [ يعني تغير الأحكام بتغير الأعراف ] ؛
وبالإحاطة بها يظهر لك غلط كثير من الفقهاء المفتين ؛ فإنَّهم يُجرون المسطورات
في كتب أئمتهم على أهل الأمصار في سائر الأعصار ، و ذلك خلاف الإجماع ، وهم
عصاة ، آثمون عند الله تعالى ، غير معذورين بالجهل ؛ لدخولهم في الفتوى وليسوا
أهلاً لها ، ولا عالمين بمدارك الفتاوى وشروطها واختلاف أحوالها " .
2- أن يكون عارفاً بوقائع أهل الزمان ، مدركاً
أحوال أهله . فلابد له من معرفة عرف زمانه ، وأحوال أهله ، والتخرّج في ذلك على
أستاذ ماهر ؛ يقول ابن عابدين مبينا ذلك : " لو أنَّ الرجل حفظ جميع كتب
أصحابنا لابد أن يتّلمذ للفتوى حتى يهتدى إليه ؛ لأنَّ كثيراً من المسائل يجاب
عنه على عادات أهل الزمان فيما لا يخالف الشريعة . والتحقيق أنَّ المفتي لابد
له من ضرب اجتهاد ومعرفة بأحوال الناس " .
و هذه القاعدة من القواعد التي زادت أهميتها في هذا العصر ؛ حيث تَعَدُّدُ
الأقاليم الإسلامية ، و تناثر الجاليات المسلمة في غيرها ؛ مما ينبغي معه تقييد
الفتاوى بأعراف المستفتين زماناً ومكاناً وحالاً ؛ فقد تصل – مع انتشار وسائل
الاتصال الحديثة - فتوى أهل بلد غير مقيدة به ، إلى غيره ممن لا تشملهم الفتوى
؛ فيُظنّ شمولها ؛ فيقع بذلك على من لا تشملهم الفتوى حرج ، أو توسع غير مشروع
في حقهم ، كما قد يقع بذلك استغلال وتوظيف للفتاوى ، أو سُبَّة بها على أهل
الإسلام ، من أهل الباطل المتربصين ، والله أعلم .