|
ثانياً : أسس السياسة الشرعية
الاستنباطية ( الاستـدلال ) .
يراد بالاستدلال : ما كان مستنداً للحكم غير النص والإجماع والقياس ، مما هو
عائد إليها .
أو هو : محاولة الدليل الشرعي من جهة القواعد ، لا من جهة الأدلة المعلومة (1)
وحقيقته : الاجتهاد الشرعي في استنباط حكم لم ينص عليه بعينه .
ومنه تتجلَّى النَّاحية التنظيريَّة للمستجدات في السياسة الشرعية ، كغيرها من
المجالات الفقهية . إذ إنَّ جلّ الأحكام السياسية يرجع في الأصل إلى صورة
الاجتهاد فيما لم يتعيّن له أصل معيّن ، وصاحب الأمر يفعله بحكم الولاية العامة
له أو لمن ولَّاه .
وأدلة الاستناد إلى " الاستدلال " كثيرة ، إجمالية وتفصيلية .
فمن أدلة الاستدلال الإجمالية ما يلي :
1)
قول الله _تعالى_ في سورة النساء : {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ
أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى
أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ
وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ
إِلاَّ قَلِيلاً } ؛ قال القرطبي : فيها دليل على الاجتهاد عند عدم النص
والإجماع .
وقال النووي - رحمه الله - مستدلاً بهذه الآية على وجوب الاستنباط ، وعدم
الاتكال على ما نُصًّ عليه صريحاً - : "… فالاعتناء بالاستنباط من آكد الواجبات
المطلوبة ؛ لأن النصوص الصريحة لا تفي إلا بيسير من المسائل الحادثة فإذا
أُهْمِلَ الاستنباطُ فات القضاءُ في معظم الأحكام النازلة ، أو في بعضها والله
أعلم " .
وقال أبو جعفر الداوودي _رحمه الله_ : " أنزل _سبحانه وتعالى_ كثيراً من الأمور
مجملاً ؛ ففسَّرَ نبيُّه ما احتيج إليه في وقته ؛ وما لم يقع في وقته وكَلَ
تفسيرَه إلى العلماء ، بقوله _تعالى_ : {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ
الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ
مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ
الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً } " . ونصوص العلماء في بيان هذا المعنى كثيرة .
2)
قول الله _تعالى_ في سورة المائدة :{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } ،
فالوقائع التي لم يُنص عليها : إمَّا أن تترك لأهواء الناس ، وإمَّا أن ينظر
فيها بغير اجتهاد شرعي ، وهذان فساد وإعراض عن الحق مناف لكمال الدين وإتمام
النعمة ؛ فلزم أن يكون هناك طرق تعرف بها أحكام الله تعالى في هذه المسائل ؛
ففي الآيـة دلالة على العمل بالاستدلال ، ورعاية الأحوال والأزمان ؛ فهذه الآية
تؤكد النص على العقائد وأصول الشرع وتؤكد قواعد الاجتهاد ، دون أن يعني ذلك
النص المعين على كل حادثة في كل عصرٍ في القرآن .
وأمَّا الأدلة التفصيلية الدالّة على الاستناد إلى الاستدلال في الاستنباط ؛
فهي أدلةُ طرقِ الاستدلال ، ومستندات كلٍّ منها ، وهي التي قُصِدَ إجمالُها تحت
مُسَمَّى الاستدلال (2) ؛ ذلك أنَّ الاستدلال يندرج تحته عدد من طرق الاستنباط
والمستندات الكلِّيَّة للأحكام ، التي سيكون في الحديث عنها شيءٌ من التفصيل
الذي تقتضيه قوَّة العلاقة بينها وبين السياسة الشرعية من جهة استنادها عليها ؛
وقِلَّة وجود أبحاثٍ محـرَّرة مقرَّبة لعموم طلاب العلم ؛ مع محاولة كثير من
أهل الباطل والظلمِ ، التشغيبَ بمصطلحاتها على أهل الحق والعدل ، لذا لم يكن
بدٌّ من بيان أهم هذه الطرق حسب ما يحتمله المقام ، بما يُفيد الباحث وينفع
غيره من الباحثين ؛ على نحو يُبَيِّنُ حقيقة المراد بهذه الطرق والمستنداتِ
التي لها الصلة الأقوى في تأصيل السياسة الشرعية (3) ، ويضبط كيفيَّة الإفـادة
منها في الناحية التطبيقية .
وذلك على النحو الآتي :
الطريق الأولى : المصـالـح المرسلـة
(4)
المصالح جمع مصلحة ، ضد المفسدة ، وهي : جلب المنفعة أو دفع المضرّة .
والمصالح من جهة اعتبار الشرع لها وعدمه
، لا تخلو عن ثلاث حالات :
الحال الأولى :
أن يدل دليل خاص من الشرع على اعتبار
تلك المصلحة ، وعدم إهدارها ؛ فهذه لا إشكال في صحتها ، ولا خلاف في إعمالها .
ولهذا تسمى المصلحة المعتبرة . ويصح مثالاً لها كلّ منفعة مادية أو معنوية
دنيوية أو أخروية ، يجنيها المكلف من عمله بما هو واجب أو مندوب أو مباح ، أو
يدرؤها بالامتناع عن العمل بما هو محرم أو مكروه . كمصلحة حفظ مال الصغير
بمشروعية الولاية على ماله . ومصلحة حفظ العقل بتحريم كل مسكر .
الحال الثانية :
أن يدل دليل خاص من الشرع على إهدارها وعدم اعتبارها ؛ وهذه مردودة برد الشرع
لها لا سبيل إلى قبولها و إعمالها ، وما رَّده الشرع فهو مردود باتفاق المسلمين
؛ ولهذا تسمى المصلحة الملغاة .
ويمثل لها الأصوليون : بما لو ظاهر مَلِكٌ من امرأته ؛ فقد يُرى أن مصلحة الزجر
والردع تقتضي تخصيص تكفيره بالصوم ؛ لأنَّه يردعه ، بخلاف الإعتاق والإطعام
فإنَّ الملوك لا يبالون بهما ؛ لخفتهما عليهم . ولكن الشارع الحكيم أهمل هذه
المصلحة ؛ باشتراطه الترتيب في كفارة الظهار ، بقول الله تعالى في سورة
المجادلة : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ
لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ
تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } ؛ وذلك لتحصيل مصلحة
أخرى أهّم من هذه ، هي أن عتق الرقبة من الرِّقِّ أهم عند الشارع من التضييق
على المَلِك ونحوه بالتكفير بالصوم ؛ لينزجر ؛ وهذه قاعدة الشرع ؛ فهو لا يلغي
مصلحة ويحكم بإهدارها ، إلا لتحصيل مصلحة أخرى أعظم عند الشارع من التي أهملها
.
ومن أمثلته العصرية : كل ما يستند إليه دعاة الفكر المنحرف من تعليلات ينسبونها
للمصالح مع أنها تتناقض مع أحكام الشريعة وقواعدها الكلية ، علموا ذلك أو لم
يعلموا ؛ كالترويج للفكر المنابذ للدين تحت اسم الحرية الفكرية ، و تسويغ الربا
بحجة الضرورة ، والمطالبة بالاختلاط بين الجنسين في التعليم ، بدعوى انتفاء
المفاسد بالاعتياد ، ومحاولة إيهام الناس بوجود مصالح في ذلك . فكل ما ينادي به
العلمانيون وغيرهم من أمور يعدونها مصالح وربما كان فيها منافع لكنها مما يناقض
أحكام الإسلام فهي من قبيل المصالح الملغاة في أحسن أحوالها .
الحال الثالثة :
أن لا يدل دليل خاص على اعتبار مناسبة ذلك الوصف ولا على إلغائها وإهدارها .
ويُعَبَّر عنها
بالمصلحة المسكوت عنها ، أي : التي سكت عنها الشارع فلم يشهد لها منه دليل معين
ولا إجماع ، لا بالإلغاء ولا بالاعتبار . .
ومثاله : أن تثبت لهذه المصلحة علاقة اعتبار شرعية ، بشهادة أصل كُلِّيٍّ ؛ بأن
يكون الوصف المَصْلَحيُّ داخلاً ضمن معنى وأصلٍ قامت على صحته الأدلَّة الشرعية
، دون أن يـَرِدَ بشأنه في ذاته حكم معين .
وهذا النوع هو المعبّر عنه عند التحقيق ، بـ " المصلحة المرسلة " ؛ وهي الطريق
المراد بيانها هنا .
وعليه فالمصلحة المرسلة هي : " كلُّ منفعةٍ ملائمةٍ لتصرفاتِ الشارع ، دون أن
يَشْهَدَ لها بالاعتبارِ أو الإلغاءِ أصلٌ مُعَيَّن " . أي : لكن شهد لها أصل
كلي ( من مثل : مبدأ رفع الحرج وأصل مآلات الأفعال ، و نفي الضرر في الإسلام )
؛ بأن اعتبر الشارع جنس المعنى في الجملة ، بغير دليل معين .
قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي _رحمه الله_ : " فتولية أبي بكر لعمر- رضي
الله عنهما - و إن لم يدل على خصوصها دليل ، فقد دلَّ الدليل على وجوب حفظ نظام
المسلمين والإسلام ، بتولية الأحق بذلك من المسلمين ؛ و كتابة المصحف ونقطه
وشكله وإن لم يدل عليها دليل خاص فقد دلَّ الدليل العام على وجوب حفظ القرآن من
الذهاب والتصحيف ، وهكذا في جميع المصالح المرسلة ، والعلم عند الله ".
وقوله : " كلُّ منفعةٍ ملائمةٍ " ، يؤكِّد ما اتَّفَقَ عليه المُنَظِّرُون
للاستدلال بالمصلحة المرسلة ، من أنَّه لا مدخل لها في التَّعَبُّدَات ، و مَا
جَرى مجراها من الأمور الشرعية ؛ كالحدود و الكفَّاراتِ ، والمُقَدَّرَات ؛
لأنّ عامَّة التَّعَبُّدَاتِ لا يُعْقَلُ لها معنىً على التفصيل ، كالوضوء
والصيام في زمان مخصوص دون غيره ، والحجِّ ، والأذكار المعدودة ، ونحو ذلك ؛
فهذه ليست من مجالات الاستدلال بالمصالح المرسلة .
وقوله : " دون أن يَشْهَدَ لها بالاعتبارِ أو الإلغاءِ أصلٌ مُعَيَّن " ،
يُخْرِجُ ، من مجالات الاستدلال بالمصالح المرسلة - ما كان داخلاً في دلالةٍ
مستفادةٍ من النص الشرعي الجزئي ، و ما كان مشروعاً من قبيل ما لا يتم الواجب
إلا به ، أو كان راجعاً إلى أصل الإباحة ، ونحو ذلك مما له صلة بالمصالح
المرسلة ، و ليس هو داخلاً فيها عند التدقيق ؛ وإنَّما ترجع مستنداته إلى أصول
السياسة الشرعية الأخرى .
حجية الاستدلال بالمصالح المرسلة
حجية الاستدلال بالمصالح المرسلة ثابتة بالكتاب ، والسنة ، والإجماع ، واستقراء
الشريعة ؛ ومن أدلَّة حجيتها - إضافة إلى ما سبق من الأدلَّة العامَّة على
اعتبار الاحتجاج بالاستدلال ما يأتي :
فمن الكتاب ما حكى الله تعالى في سورة الكهف ، من أعمال الخضر التي اعترض عليه
بها موسى - عليهما الصلاة والسلام - لِمَا ظهر له من مخالفتها للشرع ؛ فلما
نبَّأه بتأويلها وبين له ما قصده فيها من المصلحة سلَّم له .
قال أبو العباس ابن تيمية _رحمه الله_ : " … ما فعله الخضر لم يكن مخالفا
لشريعة موسى عليه السلام ، وموسى لم يكن عَلِمَ الأسباب التي تبيح ذلك ، فلما
بينها له وافقه على ذلك ؛ فإنَّ خَرْقَ السفينة ثم ترقيعها لمصلحة أهلها خوفا
من الظالم أن يأخذها إحسان إليهم وذلك جائز ، وقتل الصائل جائز وان كان صغيرا ،
ومن كان تكفيره لأبويه لا يندفع إلا بقتله جاز قتله … " .
وقال في موضع آخر : " … قصة الخضر مع موسى لم تكن مخالفة لشرع الله وأمره ، …
بل ما فعله الخضر هو مأمور به في الشرع بشرط أن يعلم من مصلحته ما علمه الخضر ؛
فإنَّه لم يفعل محرما مطلقا ، ولكن خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار ؛ فان
إتلاف بعض المال لصلاح أكثره هو أمر مشروع دائما وكذلك قتل الإنسان الصائل لحفظ
دين غيره أمر مشروع … فهذه القضية تدل على أنَّه يكون من الأمور ما ظاهره فساد
؛ فيحرِّمه من لم يعرف الحكمة التي لأجلها فعل ، وهو مباح في الشرع باطناً
وظاهراً لمن علم ما فيه من الحكمة التي توجب حسنه وإباحته " .
ومن السنة أدلَّة ، منها : تولي خالد بن الوليد _رضي الله عنه_ إمرة المسلمين
في غزوة مؤتة ، مع أنَّ النبي _صلى الله عليه وسلم_ لم يؤمِّره فيها ؛ وإنَّما
مستنده في ذلك المصلحة الشرعية ؛ إذ كانت تقتضي وجود قيادة للجيش ، وليس ثم نص
يُرجع إليه ؛ وقد أثنى عليه النبي _صلى الله عليه وسلم_ مع ذكره تأمُّرَه من
غير تأمير منه (5) . وأمثلة ذلك كثيرة ، لمن تأمَّل .
وأمَّا الإجماع ؛ فقد أجمع الصحابة _رضي الله عنهم_ إجماعاً سكوتياً على العمل
بالمصالح المرسلة ، في وقائع كثيرة بانضمام بعضها إلى بعض يحصل القطع ؛ من مثل
: جمع المصحف ( كما عند البخاري ) ؛ وعهد أبي بكر بالخلافة إلى عمر - رضي الله
عنهما – (وهو في الصحيحين ) ؛ وتدوين الدواوين ( وهو في الموطأ والطبقات الكبرى
وغيرها ) ؛ وعقوبة شارب الخمر بثمانين ( وهو في الصحيحين ) .
قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي _رحمه الله_ : " وأمثال هذا من أصحاب النبي
_صلى الله عليه وسلم_ كثير جداً ، من غير نكير ولا معارض ؛ وهذا يدل دلالة
واضحة على العمل بالمصالح المرسلة " .
و يمكن الاحتجاج لها بالإجمـاع مطلقاً ؛ فـإنَّ العلماء قد اتفقوا على العمل
بها ، عند تحقق شروطها في الواقعة ؛ وقد حكى الاتفاق على ذلك غير واحد من
العلماء منهم الغزَّالي ، وابن دقيق العيد ، و الزركشي ؛ والقرافي ، والطوفي ،
و الشنقيطي ، وغيرهم .
ويؤكِّد ذلك جملة ما عورض به القائلون بالمصالح المرسلة من حُجج ، حيث يتضح
أنَّها خارجة عن المراد بالمصالح المرسلة عنـد القائلين بها ؛ ومن ثمَّ فهي
واردة على غير محلِّ ما نازعوا فيه ؛ وعليه فإن الاستدلال بالمصالح المرسلـة
سالم من المعارضـة ؛ فإنَّ المنظِّرين لها قد ضبطوا القول بها بضوابط تزيل ما
خشيه المعارضون للقول بها ؛ فقد اشترطوا للاستدلال بها شروطاً تدرجهـا تحت
النصوص الشرعية ، ومن المتفق عليه من هذه الشروط :
1)
أن لا تعارض نصاً - من الكتاب أو السنة - ولا إجماعاً .
2)
أن تكون ملائمة لتصرفات الشارع . بأن يثبت للمصلحة المستدلِّ بها علاقة اعتبار
شرعية ، بدلالة أصل كلي ؛ بأن اعتبر الشارع جنسها في الجملة . وقد يعبر عنه بعض
العلماء بقوله : أن تعود على مقاصد الشريعة بالحفظ والصيانة .
وطريقة معرفة ذلك قيدها القرافي بقوله : إنَّا نعتبر من النصوص الأصول ما هو
خاصٌّ بذلك الباب في نوعه دون ما هو أعم منه ؛ فإذا كانت المَصلَحة في الإجارات
، اعتبرنا نصوص الإجارات ، أو في الجنايات اعتبرنا نصوص الجنايات ؛ أمَّا نصٌّ
يشمل ذلك الباب وغيره ، فلا عبرة به ؛ لأنَّ هذه المصلحة أخص منها ، والأخصّ
مقدمٌ على الأعم - لاسيما - إذا كان النصّ يشمل جميع الشريعة ، فقد كثر تخصيصه
، فضعف التمسك به "
ومن هنا اعتبر بعض علماء الأصول هذين الشرطين داخلين في مفهوم المصلحة المرسلة
وحقيقتها ، وليسا مجرد شرطين للعمل بها .
وعلى هذا إنَّما تكون حجج المعارضين صحيحة في معارضـة ما فُهِم عن الطوفي من
شذوذ - تعلق به بعض المنحرفين العصريين - من القول بالمصالح الملغاة التي سبق
ذكر الاتفاق على إلغائها ، بتقديمه رعاية المصلحة على النصوص والإجماع ، بما
سمّاه طريق البيان ، زاعماً أنَّها أقـوى من النصِّ والإجماع ، مع اعترافه بعد
ذلك بأنَّ النصَّ لا يخالف المصلحة .
وأمَّا استقراء الشريعة ، فقد قال عزّ الدين بن عبد السلام رحمه الله : " ومن
تتبّع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد ، حصل له من مجموع ذلك اعتقاد
أو عرفان ، بأنَّ هذه المصلحة لا يجوز إهمالها ، وأنَّ هذه المفسدة لا يجوز
قُربانها ، وإن لم يكن فيها نصّ و لا إجماع ولا قياس خاص ؛ فإنَّ فَهْمَ نفس
الشّرع يوجب ذلك " .
ثم إنَّ الاستدلال بالمصلحة المرسلة مِمّا لا يتم الواجب إلا به ، وما لا يتم
الواجب إلا به فهو واجب .
وعلى كل حال فهي من طرق الاستدلال التي لا تستقل ببيان الأحكام دون أصل كلي ،
قال الغزَّالي – رحمه الله تعالى - : " … من ظنّ أنه أصل خامس فقد أخطأ ؛ لأنّا
رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع ، ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنة
والإجماع . فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فُهِمَ من الكتاب والسنة والإجماع
، وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع ، فهي باطلة مطَّرحة ،
ومن صار إليها فقد شرَّع ، كما أن من استحسن فقد شرع . وكل مصلحةٍ رجعت إلى حفظ
مقصود شرعي علم كونه مقصوداً بالكتاب والسنة والإجماع ؛ فليس خارجاً من هذه
الأصول ، لكنه لا يسمى قياساً ، بل مصلحة مرسلة ، إذ القياس أصلٌ معين . وكون
هذه المعاني مقصودةً عُرِف لا بدليل واحد ، بل بأدلةٍ كثيرة لا حصر لها من
الكتاب والسنة وقرائن الأحوال ، و تفاريق الأمارات ؛ فسُمّي لذلك مصلحة مرسلة .
وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع ، فلا وجه للخلاف في اتباعها ،
بل يجب القطع بكونها حجة ، وحيث ذكرنا خلافاً فذلك عند تعارض مصلحتين ومقصودين
، وعند ذلك يجب ترجيح الأقوى " .
ومع هذا ؛ فإنَّ الاستدلال بالمصالح المرسلة ليس أمراً هيناً ، ولا هو بالمركب
السهل ؛ وليس هو حقّاً لكل أحد ؛ إذ هو من أضنك مواقع الاجتهاد ، وأحراها بما
يشترط في أهله من شروط دونها خَرْطُ القتاد .
الاستدلال بالمصالح المرسلة وضوابطه
جاء في ختم الحلقة السابقة أنَّ الاستدلال بالمصالح المرسلة ليس أمراً هيناً ،
ولا هو بالمركب السهل ؛ وليس هو حقّاً لكل أحد ؛ إذ هو من أضنك مواقع الاجتهاد
، وأحراها بما يشترط في أهله من شروط دونها خَرْطُ القتاد .
وبيان ذلك أنَّ للمصلحة جانب نظر عقلي ،
وهي كما مرّ طريق استدلال لا مصدر الحكم ، ومن ثم فإنَّ دور العقل فيها لا يصح
ولا يجوز أن يكون معارضا لمصدري التشريع الإسلامي ( الكتاب والسنة ) ، وإنَّما
تنحصر وظيفته في أمور من مثل :
1)
فهم النص الشرعي ، والبحث في مقاصد المصالح التي روعيت فيه أو به .
2)
استنباط الأحكام من النصوص ، بناء على ما تم الوصول إليه من العلل المعتبرة
والمقاصد المشروعة .
3)
تنزيل الأحكام على الواقع بتحقيق مناطاتها فيه .
4)
الاجتهاد المستند إلى ضوابط الشرع فيما ليس فيه نص معين .
5)
النظر في المآلات المستقبلية ومراعاتها أثناء النظر في الأحكام .
وهكذا كل أمر يخدم الأحكام أو القرارات مما لا يعود على النص الشرعي أو التقعيد
الكلي بالإبطال .
وهذا كله يقتضي وجود شروط في ولي الأمر أو من يستند إليه ولي الأمر في تنفيذ
الأحكام ورعاية المصالح . وهذا ما أكَّده عدد من العلماء المحققين ، وحذَّروا
من تجاوزه .
قال القرافي _رحمه الله_ : " فإنَّ مالكاً يشترط في المصلحة أهليّة الاجتهاد ؛
ليكون الناظر متكيفاً بأخلاق الشريعة ، فينبو
عقله وطبعه عمَّا يخالفها ، بخلاف العالم بالسياسات إذا كان جاهلاً بالأصول ،
فيكون بعيد الطبع عن أخلاق الشريعة ، فيهجم على مخالفة أخلاق الشريعة من غير
شعور " .
وقال ابن بدران _عليه رحمة الله_ : " والمختار عندي اعتبار أصل المصالح المرسلة
، ولكن الاسترسال فيها وتحقيقها
يحتاج إلى نظر سديد وتدقيق " .
و قال الشنقيطي _رحمه الله_ : "… ولكن التحقيق : أنَّ العمل بالمصلحة المرسلة
أمر يجب فيه التحفظ وغاية الحذر حتى يتحقق صحة المصلحة ، وعدم معارضتها لمصلحة
أرجح منها أو مساوية لها ، وعدم تأديتها إلى مفسدة في ثاني حال " .
وقال أيضاً : " … لكن يجب في هذه المسألة كما حققه غير واحد من المحققين أن
ينتبه للنظر في مآلات الأمور
وعواقبها ، فلا يحكم المجتهد على فعل من أفعال المكلفين بالإقدام عليه أو الكف
عنه إلا بعد نظره فيما يؤول إليه ، فربما يظهر في فعل أنه مشروع لمصلحة تستجلب
أو منهي عنه لمفسدة تنشأ عنه لكن مآلـه خلاف ذلك .
واعلم أنَّ التحقيق أن المصلحة المذكورة تنخرم باستلزامها مفسدة راجحة عليها أو
مساوية لها … " .
ثم هو مزلّة قدم للمبتدع في الدين ، وهاوية ذمم للمقننين والسياسيين - نسأل
الله العافية والسلامة - وقد نبه إلى ذلك بعض أهل العلم .
وأمثلة المصالح المرسلة في الجملة كثيرة جدا ، ومنها : كل مستحدث عصري ينتفع به
الناس من التنظيمات والتراتيب
الإدارية ، مما لم يرد فيه دليل نصي و لا يخالف الشريعة الإسلامية . كسن
الأنظمة المصلحية ، وهيكلة الدوائر الحكومية ، فتنظيم أمور التقاضي ، وتصنيفات
الموظفين ، وتقدير رواتبهم ، ونحوها ، هي في الحقيقة أمثلة لإعمال المصالح .
بل إن مدار بقية طرق الاستدلال هو في الحقيقة على قاعدة المصالح المعتبرة دون
غيرها مما هو مُتَخيّل أو موهوم .
ومن هنا نبَّه بعض الأصوليين إلى أنه لا توجد مصلحة لم يثبت لها علاقة اعتبار
شرعية ، لا بدليل خاص ولا عام . وهي التي توصف عند الأصوليين بأنَّها غير
ملائمة ، وقد يُعَبَّر عنها بالمناسب الغريب . فهذه " في حكم المصلحة الملغاة ؛
إذ ليس إهمال هذا النوع من الاعتبار إلَّا دليلاً على أنّه في حكم الملغي ،
وإلا لكان النّاس متروكين سدى ، وهذا ما قامت النصوص الشرعية على نفيه " (6)
وَقد مثّل بعض الأصوليين لهذا النوع : بحرمان القاتل من الميراث لو لم يرد فيه
نص ، لمعارضتـه بنقيض قصده . وهذا المثال افترضه الغزالي ، وتبعه فيه الشاطبي ؛
لأنَّه افتراض اقتضته القسمة العقلية ، لا وجود له في الواقع .
ولهذا قال أبو حامد الغزالي : " فأمَّا المناسب الغريب الذي لا يلائم ، ولا
يشهـد له أصل معين ؛ فهو مردود ، لا يعرف فيه خلاف " (7) ، وقال : "… فلا يقبل
قطعاً عند القائسين ، فإنَّه استحسان ووضع للشرع بالرأي" (8) ؛ بل يمكن القول
إنَّ هذا النوع من المصالح وهميٌّ فرضيٌّ ، لا وجود له في الواقـع ؛ لأنَّه ما
من مسألة تفرض إلَّا وفي الشرع دليل عليها إما بالقبول أو بالردِّ ؛ إذ من
المسَّلم استحالة خلو واقعة عن حكم الله _تعالى_ (9) .
وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي : " ما لم يدل عليه دليل خاص ولا عام لا يصح
أن يكون حكما شرعياً " (10) .
وعلى كلٍّ فهذه الحال كالقِسْم الملغى ، مطَّرَحة غير معتبرة بالإجماع ؛ بل لا
وجود لها في الواقع .
وللمصالح اتصال وثيق بفقه الموازنة الشرعية بين درجاتها ، وبينها وبين المفاسد
، ودرجاتها .
وقد قعّد العلماء لفقه الموازنة هذا عند التزاحم (6) ، بقواعد وضوابط تنتظم
الموازنة بين المنافع ، والموازنة بين المفاسد ، والموازنة بين المنافع
والمفاسد ، منها : قاعدة درء المفاسد أولى من جلب المصالح . وقاعدة : الضرورات
تبيح المحظورات . وقاعدة : يُتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام . وقاعدة :
يُحمل الضرر الأخف لدفع الضرر الأشد . وقاعدة : إذا تعارضت مفسدتان روعي
أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما ومثّل له بعض علماء السياسة الشرعية بمشروعية
القتال مع الفاسق لإقامة ولايته دفعا للأفسد .
ويُجري الفقيه الموازنة بالنظر من أوجه منها على سبيل المثال : مدى التحقق :
قطعيّة أو ظنيّة أو وهميّة ، ومدى الشمول : عامة أو خاصة ، ومدى الأهمية :
ضرورية أو حاجية أو تحسينية .
ولهذه القواعد معايير تضبط إعمالها ، منها على سبيل التوضيح :
- إذا تعارضت المصلحة الضرورية مع الحاجية أو التحسينية ، قُدِّمت الضرورية
لأنها أكثر أهمية .
- إذا تعارضت مصلحة حماية الحياة مع حماية مصلحة المال ، قُدِّمت مصلحة حماية
الحياة .
وهذه القواعد والمعايير الشرعية مراعاة في كثير من القوانين الوضعية أيضا .
ولقاعدة المصالح في الجملة صلة قوية بقواعد المقاصد ، وسيتم التعرض له _إن شاء
الله تعالى_ في تطبيقات السياسة الشرعية عند العلماء .
وأختم الحديث عن المصلحة ببيان علاقتها القوية بالسياسة الشرعية " فإنَّ
السياسة الشرعية هي المجال الذي يضفي الطابع العملي أو التطبيقي على المفهوم
الأصولي للمصلحة ... إضافة إلى كون المصلحة أداة استدلالية في بناء الحكم
الفقهي " (11) على مرّ من بيان .
------------------------------------------------------
(1) ولهذا المصطلح مدلولات أخر غير ما ذكر تعرف من نوع الفن ؛ فليتنبّه لذلك .
(2) و طرق الاستدلال ليست أدلة مُنشِئة ، وإنَّما هي أدلة بيانية ، وتسميتها (
أدلة ) عند التعبير عنها بمصطلح ( الأدلة المختلف فيها ) تجوز في التعبير ليس
إلَّا ؛ ومن هنا كان وضعها تحت مسمَّى ( الاستدلال ) ردَّاً لها في المسمّى إلى
الحقيقة ؛ دفعاً لما قد يَرِد من اللبس ، الذي قد وقع فيه بعض القانونيين ؛ حيث
ظنُّوا أنَّ طرق الاستدلال مُنشِئة للأحكام ، كنصوص الوحي ودلالاتها ؛ ومن ثمَّ
ربَّما قدَّمها بعضهم على النص فجعلوها قاضية عليه .
(3) وصلة طرق الاستنباط - أو طرق استثمار النصوص كما يعبِّر بعض الأصوليين –
بالسياسة الشرعية من صلة الأصل بالفرع ، حتى كان من مصنِّفات السياسة الشرعية
ما اختصّ ببيانها ، ككتاب : الغصون المياسة اليانعة بأدلة أحكام السياسة ، لابن
حبش الصنعائي .
(4) الحديث عن المصالح واسع ومتشعِّب ، وقد اجتهدت في إثبات ما رأيته مهما في
موضوعنا ، وإن كان في مباحث المصالح سواه ما يستحق الذكر والبيان . ومما يمهِّد
لغير المختص مما لم أر وضعه في الأصل : بيان المصالح التي عليها مدار التشريع
الإلهي ، ويقسمها جمهور الأصوليين إلى ضروريات وحاجيات وتحسينيات .
فالأولى : حفظ الضروريات بدرء المفاسد عنها ؛ ويشمل جميع : ما شرع حماية
للضروريات الخمس – الدين والنفس والعقل و النسب أو العرض والمال - التي يحصل
بتفويتها ضرر على الإنسان في شيء منها ؛ كتحريم القتل ، و وجوب القصاص .
والثانية : حفظ الحاجيات بجلب المصالح وفتح أبوابها ؛ ويشمل جميع : ما شرع
لتحصيل ما يحتاجه الناس من المنافع التي يحصل بتفويتها الضيق والمشقة والحرج
عليهم ؛ كتحليل البيع والشراء والإجارة .
والثالثة : الجري على مكارم الأخلاق ، وأحسن العادات ؛ وهي دون رتبة الحاجيات ؛
كتحريم النجاسات ، واستحباب أخذ الزينة ، والعمل بخصال الفطرة ، وسائر الآداب
الشرعية .
ويتعلق بكل قسم من هذه الأقسام ما يجري منها مجرى التكملة والتتمة لها ، و
مثاله : إيجاب القصاص يدرأُ الضرر عن النفوس فيحافظ به عليها ، ورعاية المماثلة
في القصاص يجري مجرى التتمة والتكملة لهذه المرتبة .
( يراجع للمزيد على سبيل المثال : المستصفى ، للغزالي : 1/416-420 ؛ والبحر
المحيط ، للزركشي : 5/213 وما بعدها ؛ و الموافقات ، للشاطبي : 3/263 ؛ و شرح
الكوكب المنير ، للفتوحي : 4/159-168 ؛ و روضة الناظر ، لابن قدامة : 1/412-414
؛ و المصالح المرسلة ، لمحمد الأمين الشنقيطي : 6 ؛ وأضواء البيان في إيضاح
القرآن بالقرآن ، له : 2/237 ) .
(5) ينظر ذلك فيما رواه البخاري : ك/ الجهاد والسير ، ب/ تمني الشهادة ،
ح(2798) ؛ و ك/ المغازي ، ب/غزوة مؤته من أرض الشام ، ح(4262) ؛ قال الحافظ ابن
حجر – مبيناً ما يفيده هذا الحديث - : " فيـه جواز التأمُّر في الحرب بغير
تأمير ، قال الطحاوي : هذا أصل يؤخذ منه أنَّ على المسلمين أن يقدموا رجلا إذا
غاب الإمام يقوم مقامه إلى أن يحضر ، وفيه جواز الاجتهاد في حياة النبي _صلى
الله عليه وسلم_ " . فتح الباري : 7/586 .
(6) رفع الحرج في الشريعة الإسلامية لشيخنا د.يعقوب الباحسين : 254-255 .
(7) شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل ، لأبي حامد الغزالي :
188 ، مطبعة الإرشاد : بغداد .
(8) المستصفى : 2/313 ؛ وينظر : الاعتصام ، للشاطبي : 2/ 115، بعناية الشيخ /
محمد رشيد رضا ، المكتبة التجارية الكبرى : مصر .
(9) ينظر : المنخول من تعليقات الأصول ، للغزالي : 460 ، ط3-1419، ت/ محمد حسن
هيتو ، دار الفكر المعاصر و دار الفكر : بيروت ؛ ورفع الحرج في الشريعة
الإسلامية ،لشيخنا د.يعقوب الباحسين : 255 .
(10) رحلة الحج إلى بيت الحرام ، للشيخ محمد الأمين الشنقيطي :181 ، ط1-1403 ،
دار الشروق :جدة .
(11) من المراجع التي عالجت هذه القضية إضافة إلى جملة ما كتب في علم القواعد
والأصول ، اطروحة علمية في قسم أصول الفقه بجامعة بغداد ، لنيل الدرجة العلمية
العالية ، بعنوان : الموازنة بين المصالح دراسة تطبيقية في السياسة الشرعية ،
د. أحمد عليوي حسين الطائي . وقد أفدت منها في هذه المسألة .
(11) المصلحة العامة من منظور إسلامي ، د. فوزي خليل :123 .
نشر في موقع المسلم
http://www.almoslim.net/