صلح الحَرَم بين
فتح وحماس يبدِّد سايكس بيكو الفكرية !
د. سعد بن مطر العتيبي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن والاه .. أما بعد .. (فإذا
أردتم أيها المسلمون النجاح والفلاح في دينكم ودنياكم ومعاشكم ، فكونوا مؤمنين
غير منافقين ، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ، وكونوا عباد الله إخوانا
، وأدعوكم جميعاً إلى الإخلاص للدين أولاً ، وإلى التآخي والتناصح والجمع بين
القلوب ثانياً ... نحن معشر المسلمين ضعفاء بأنفسنا ، أقوياء بالإسلام ..
فاتخذوا من اتحادكم قوّة) .
هذا النص جزء من خطبة الملك عبد العزيز رحمه الله في وفود الحجيج في يوم النحر
بمنى عام 1359هـ الموافق 12/1/1941م يؤكِّد فيها أهمية التضامن الإسلامي .
ولمعرفة خلفية هذا الخطاب الحيّ وما سبقه وما لحقه من خطابات مشابهة ، ودعوات
متكررة للتضامن الإسلامي انطلاقا من هذه البلاد المباركة - أوجز ذلك بقول
أستاذنا أ.د.نبيل بن سعد الشاذلي - رعاه الله - إنَّه بعد : " قيام مصطفى كمال
أتاتورك بإلغاء الخلافة الإسلامية التي كانت تركيا مقرّها (1343هـ/ ="1924م)"
اضطرب العالم الإسلامي ، وتصاعدت من بعض أقطاره دعوات تنادي باستمرار الخلافة ،
ومبايعة خليفة جديد . وقَصَدت جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله وفود كثيرة من
بعض البلاد الإسلامية للتباحث معه في هذا الأمر ، وأبدى بعض تلك الوفود أمله في
مبايعة جلالة الملك عبد العزيز خليفة للمسلمين ؛ لأنَّه الوحيد — بين سائر ملوك
وسلاطين وأمراء وحكّام المسلمين — المؤهّل لذلك ، لتوفر الصفات الشرعية للخليفة
فيه ، ولكنّ جلالته اعتذر عن عدم قبول هذه البيعة ؛ انطلاقا من نظرة موضوعية ،
أبداها لتلك الوفود .
ووسط هذا الجو الذي شغل المسلمين ، وأثار قلقهم ، دعا جلالة الملك عبد العزيز
إلى عقد مؤتمر إسلامي في مكة المكرمة ، للبحث في شؤون المسلمين واقتراح سبل
توحيد كلمتهم ، والنظر في مختلف المشكلات الإسلامية ... وبدأ المؤتمر جلساته
يوم 2 ذو القعدة 1344هـ ( مارس /آذار 1926م ) " ( السياسة السعودية والتضامن
العربي والإسلامي :5-6 ) . وقد وجه الملك عبد العزيز - رحمه الله - كلمة جاءت
فيها عبارات إسلامية مدعّمة بنصوص شرعية منها قول الله عز وجل :
}وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ {[آل عمران : 13]
الآية . إنَّ من نعمة الله عز وجل على بلادنا ، حيث تنزّلَ الوحي ، وبَعْثَ
النبي صلى الله عليه وسلم ، ومحور رحى الأمة في هذا العصر ، أن هيأ الله لها
وحدة ، شرعيّة ، إسلامية ، لا شيوعية ولا علمانية ولا ليبرالية .
ولم تقف الرغبة في الوحدة عند حدود الإقليم ، بل كانت طموحة الروح ، مدركة لحجم
الرسالة ، مستشعرة عِظم المهمّة ، ممتلئة أملاً بالوحدة الأخوية الإسلامية ،
قيادة وشعبا ، ولاة ورعيّة ، سيراً في ظلال (( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم
كمثل الجسد الواحد )) وكان هذا من أسس قيام هذه الدولة : المملكة العربية
السعودية ، وكان الهم قد نشأ مع نشأة وحدتها .
ولكنّ المتربصين بالأمّة لا يريدون التعايش بينها ولا معها تعايشاً إيجابيا ،
لأنَّهم يقرؤون الإسلام قراءات مغلوطة ، ويستسقون من غير ظمأ منابع فكرٍ أجنبي
منحرف ، يكتبه حقَدة ما بين أفراد ومؤسسات ، تُنظِّر لصراع الحضارات ! في عصر
يسعى عقلاء العالم فيه لسلام أممي ، يتبادل فيه المصالح ، ويحفظ فيه كل ذي حقٍ
حقَّه .. ولكنَّ القوّة المادية المنفلتة ، تولِّد الصراع من القهر والظلم
بالظلم ذاته ! إنَّ هؤلاء المفكرين من أصحاب المواقف العدائية للأمة الإسلامية
، لا يسرّهم أن يروا الأمة الإسلامية تسير نحو وحدتها رغم الصعوبات ، وترتضي
الأخوة الإسلامية رغم كل الإشكالات ، وتنبذ غيرها من الروابط ذات الشعارات
المغريات ؛ من هنا أوجدوا الخِطط وأظهروا المكائد ، وأعلنوا المؤامرة في تقارير
أجنبية سبق الحديث عن بعضها مرارا .
وحيث لا يجد القاريء أو المشاهد الواعي ، فضلاً عن المتابع المتخصص ! عناءً في
فهم دوافع الخوض المتكرر ، في مسائل أصولية كليّة تتعلق بالإسلام عقيدة وشريعة
.
ووصل الأمر ببعضهم إلى الجرأة حتى على العروبة ! التي لا يتنصّل منها بعد
تنصّله من ثوابت دينه إلا من به لوث ظاهر ، أو انتماء خارجي مستتر .. و لقد
بلغوا في المنحدر ، أن تجرَّأ بعضهم على سلبنا - أمّةً ودولةً - حقَّنا وواجبنا
في الانتماء لأمتنا الإسلامية ! بل زعم بعضهم أنَّه لا شأن لنا بإخواننا
المسلمين ؛ وكيف أنسى تلك السخرية ، التي كأنِّني أسمعها الآن بلسان عربيّ
وفكرٍ انهزامي ، وصوتٍ يشبه متثاقلٍ سخريةً ،كآلة تسجيل صوتي تشتكي قلّة الطاقة
: يقول فيه : ( أيش إخواننا في فلسطين ! إخواننا في ... ) .. يا لها من عبارة
مؤلمة ، ويا له من فكرٍ أجنبيٍ جلّاب للعار! هذا في الوقت الذي لم تجف أقلام
هؤلاء القوم من التأكيد الزائد على حقوق الآخر ! وكأنَّنا وحوشٌ تَنْهَدّ على
قطيع من البهْم لا راعي له ، فيما نحن الضحية التي ينهشها الآخر ( المتغطرس )
صباح مساء .. وأنا هنا ، لست بصدد الردّ على هؤلاء بردود شرعية ، فهم لا يريدون
مرجعية شرعية ؛ فأنَّى لهم السماع لنصوص الشرع التي يحاولون النيل من قداستها ،
وإلا لاكتفيت بتلك الآيات العظيمة التي افتتح بها حفل توقيع الصلح ، وتلاها
الشيخ عبد الودود حنيف بصوته الشجي ، ليسمعها كل العالم في بثٍّ مباشر .
ولكنّي أريد أن أُذكِّر الناسي ، وأُنبِّه المتغافل بما جرى هذه الليلة — ليلة
الجمعة 21/1/1428 ببكة - بجوار بيت الله الحرام ، حيث يُعلَن الصلح الذي تمّ
بعد دعوة خادم الحرمين الشريفين — وفقه الله - لقومنا في قيادتي فتح وحماس ،
للاجتماع في رحاب الحرم المكي ، سعياً في الصلحِ ، وحقنِ الدَّم الإسلامي
والعربي . إنّ هذا لردّ عمليّ يكتم أنفاس دعاة سايس بيكو الفكرية ، التي تمهد
لمشروع الشرق الأوسط الكبير ! ذاك الأمل الأجنبي الذي فشل قبل سن الفطام ،
وربما دخل السرداب تأثراً بفكر الحليف الجديد ، فلا عجّل الله له فرجا ! لقد
شعرت هذه الليلة بأننا نحن السعوديين لا زلنا محلّ ثقة أمتنا ، بل وقياداتها من
شتى المشارب ، وكفى دليلا سرعة الاستجابة القولية التي أتت بعد نداء خادم
الحرمين بدقائق على لسان الأستاذ / خالد مشعل ، القائد الفلسطيني ذي الشعبية
الإسلامية الواسعة ، ثم تتابعت بعد ذلك لتصل الوفود الفتحاوية والحماسية ، في
مدة قياسية إلى بلادنا ، وكأنها كانت تنتظر هذا النداء على أحرّ من جمر ..
استمعت إلى كلامات هؤلاء القادة في المجلس الملكي ، وتأكيدهم لمكانة بلادنا
وقيادتنا ، في قيادة الأمة الإسلامية ، ودعائهم الحارّ لخادم الحرمين الشريفين
وإخوانه ، الذين وصف أثرهم في الصلح رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية
بالجولات الأميرية أثناء الحوار .. وإنني إذ أشكر خادم الحرمين الشريفين - نصر
الله به الإسلام وأهله — على هذا العمل الجليل الذي يستحق الشكر ، فإنني أنبِّه
أولئك المتنادين بنبذ ثوابتنا الإسلامية ، وأخلاقنا العربية الأصيلة ،
وواجباتنا تجاه أمتنا شعوبا وقضايا — أنبِّههم إلى أنَّهم يجهلون علينا حين
يظنون أنَّ قيامنا بواجبنا تجاه أمتنا تدخل في شؤون الآخرين ! إذ إنَّه في
الحقيقة واجب شرعي ، ومبدأ دستوري .. وأُحبّ أن أؤكِّد لهم ذلك بعرض موادّ من
النظام الأساسي لبلادنا — حفظ الله إيمانها وأمانها — موادّ يحق لكل عربي ومسلم
أن يفخر بها ، لأنَّني أريد أن يتعلّموا شيئاً من معاني الوطنية الصادقة ، إن
بقي فيهم شيء من خلاق ، وذلك بعد أن عرضتُ شيئاً من كلام مؤسس المملكة العربية
السعودية الحديثة في آماله بوحدة المسلمين ، وشعوره بثقل الأمانة في تحقيق ذلك
وفق الممكن دولياً ، مما يُبيِّن الهمَّ الإسلامي لنا ، فهو ليس مجرد شرف ، بل
سبب بركة وبقاء .. وهو همّ لن يقطع إن شاء الله تعالى ، ولذا دوّن ونصّ عليه في
النظام الأساسيّ للحكم كما أشرت ، وهو ما أردت ذكره هنا بياناً للحقيقة ،
وكشفاً لأجنبيي الفكر أصالة أو تبعاً ، فأقول :
جاء في نص ( المادة الأولى ) من النظام الأساسي للحكم : ( المملكة العربية
السعودية دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة ، دينها الإسلام ، ودستورها كتاب
الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ). وهي مادة لا تحتمل التفسيرات
الأجنبية لمبادئنا ! فهي تؤكِّد عروبتنا ، كما تؤكِّد إسلامنا ، وهما وصفان يجب
أن يكونا متلازمين تلازم الروح والجسد ، إذ لا خير في شعار عروبة من غير إسلام
! وجاء في نص ( المادة الخامسة والأربعون ) من النظام ذاته ، في باب الحقوق
والوجبات ، نعم الحقوق والواجبات : ( تحرص الدولة على تحقيق آمال الأمة العربية
والإسلامية في التضامن وتوحيد الكلمة .. وعلى تقوية علاقاتها بالدول الصديقة )
؛ وهي مادة واضحة تحدد علاقتنا بالأنا والآخر بعبارات مستمدة من أصولنا الشرعية
. وأخيراً أختم بتأكيد الملك عبد العزيز على هذه المسيرة ، بقوله رحمه الله :
(إنَّ أبنائي سيعكفون بعدي على إكمال رسالتي ، وإذا منحهم الله العون الذي
منحني ، فإنَّهم سيرسمون الطريق لأكثر من مائة مليون مسلم) .
(دور المملكة العربية السعودية في خدمة الإسلام ، د. عبد الحكيم عبد السلام
المدني :438) . وأنصح من يتبنى فكرة عزلنا عن العالم ، أن يقرأ هذا الكتاب ،
ليعلم أنه في المملكة العربية السعودية ، بلاد الحرمين ، وليس في قيانا أو قرين
لاند .
هذا ما جال في الخاطر حول ما جرى من صلحٍ سارٍّ هذه الليلة ، بين قومنا في
فلسطين ، والله تعالى أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله .