الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن والاه .. أما بعد ..
ففي الأيام القريبة الماضية كثر الحديث حول قرار توظيف النساء في محلات بيع
الملابس النسائية ، الذي يقضي بقصر العمل في محال بيع المستلزمات النسائية
الخاصة على المرأة السعودية . وكثرة الحديث أتت - فيما يظهر - لأسباب في صياغة
القرار وإجراءات تطبيقه ، لعلّ أهمها توظيف النساء داخل إطار تسوق مختلط يوجد
فيه البائعون والبائعات ، والمتسوقون والمتسوقات ، مع عدم قناعة كثيرين
بالاحتياطات اللازمة لمثل هذا القرار في بلد إسلامي ، ومجتمع محافظ .
وقد تحدَّث عنه كثيرون ، في الصحافة وعلى صفحات المنتديات العنكبوتية ، بخلفيات
ورؤى متنوعة ، كما تحدّث عنه - من قبل ومن بعد - الناسُ في المجالس ، ولا يزال
الجَمْعُ يتحدَّث عنه ، ما بين طرح مقبول ، وتعليل معقول ، وصياغة حسنة ، وأخرى
لم يُنزِل أصحابها الناسَ منازلهم ، فوجد لين في القول ، كما وجدت غلظة في
اللفظ .. وكثير مما ذكرت من الاعتراض أو التأييد ، ليس بمستغرب الوقوع ، وإن
كان غريب الكم .
غير أنَّ ما لفت انتباهي كثيراً ، أنَّ هذا القرار عارضه بشكل أو بآخر ، شخصيات
لها وزنها العلمي والشرعي والرسمي ، فقد كان على رأس من عارضه - على نحو ما -
عدد من قياداتِ أكبر المؤسسات الشرعية في المملكة العربية السعودية ، من أصرحهم
عبارة سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية ، ورئيس هيئة كبار العلماء ،
التي جاء في قرار الوزارة المذكور ، ما يخالف بعض قراراتها ، وكذا جمع من علماء
الشريعة - التي يقوم عليها القضاء في المملكة العربية السعودية - وقد وقفوا من
هذا القرار : ما بين محذِّر يتحفَّظ على تطبيقه على نحو ما قُرِّر ، ويطالب
بتنفيذه بعد تخصيص أسواق نسائية مستقلَّة أو أقسام نسائية منفصلة ، وآخر يحاول
كشف بعض آثاره غير المحمودة ، ويرى العدول عنه ، لما وراءه من مفاسد رأى أنها
لا تخفى ، وذكر عدداً من مسوغات قوله ، وضم إلى ذلك ما احتف به من قرارات ،
ودعوات إعلامية تزيد الريبة في تحقيقه لأهدافه المشروعة ، وتجعله محلّ نظر ، في
تحقيق العفة والحشمة لبنات المسلمين .
ومن المقرَّر في أصول القوانين والأنظمة ، أنَّ النظام الأدنى (في أي صورة كان)
لا يجوز ولا يصح أن يخالف النظام الأعلى الذي هو (النظام الأساسي للحكم) ،
والنظام الأعلى كما هو معلوم ، مقيد بموافقة الكتاب (القرآن الكريم) والسنة
(الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم) ، إذ جاء في مادتـه السابعة ما نصّه :
" يستمد الحكم في المملكة العربية
السعودية سلطته من كتاب الله تعالى ، وسنة رسوله . وهما الحاكمان على هذا
النظام وجميع أنظمة الدولة " ؛
فهي صريحة في أن ما خالف الكتاب والسنة فهو مستبعد حتى على فرض صدور نظام به ؟
كما نجد أن السياسة التي تدار بها الأمة ومصالحها في وطننا ، هي السياسة
الشرعية ؛ ومرجع التحقق من وصف الشرعية في بلدنا إنما هي فتاوى علماء الشريعة
المعتبرين فيه ، الذين هم أهل الذكر في نص الكتاب العزيز ؛ وهو ما جاء واضحاً
في (المادة الخامسة والأربعون) من النظام الأساسي للحكم :
"مصدر الإفتاء في المملكة العربية
السعودية .. كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم"
؛
كما جاء نص (المادة الخامسة والخمسون) من هذا النظام في غاية الصراحة والوضوح ؛
إذ تلزم الملك بسياسة الأمة سياسة شرعية ؛ وهذا نصها :
"يقوم الملك بسياسة الأمة سياسة شرعية
طبقا لأحكام الإسلام ويشرف على تطبيق الشريعة الإسلامية والأنظمة والسياسة
العامة للدولة وحماية البلاد والدفاع عنها"
.
وهذا من الثوابت التي لا تقبل المزايدة ، كما يؤكِّد ولاة أمرنا ، وتصريحات
خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - وفقه الله وسدّد على
طريق الخير خطاه - تؤكِّد حرصه على تطبيق الشريعة الإسلامية المتلقاة من كتب
الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ونص كلمته في خطابه للأمة حين مبايعة
الأمة له ، في غاية الوضوح والتأكيد .
ومن هنا لا يشك أي قانوني منصف - يعرف النظام الأساسي للمملكة العربية السعودية
- أنَّ قرار وزارة العمل المشار إليه ، يكون محلّ نظر من الناحية الدستورية ؛
وإذا ما ثبت عدم دستورية قرار وزارى العمل المذكور ، فلا شك أنَّه يكون باطلاً
، وإذا ثبت بطلانه ، فإنَّه لا يصح تنفيذه ، ولا يترتب على مخالفته أي أثر
قانوني تجاه من يخالفه ، بل يمكن المطالبة بالتعويض في حال تقدم متضررين منه
بذلك ، أمام ديوان المظالم .
وهنا أجدني أكرِّر دعوات سابقة ، بالسعي الحثيث في تشكيل محكمة شرعية دستورية ،
أو منح المحكمة العليا - التي ورد ذكرها في التعديل الجديد للجهاز القضائي -
اختصاصات المحاكم الدستورية ؛ للبت في مثل هذه القضايا التي تثير الكثير من
الجدل ، ويظهر بسببها كثير من اللغط .
هذا ما رأيت إيضاحه على نحو موجز بهذا الشأن ، في محاولة لإيجاد سبل نظامية ،
لحلِّ مثل هذه الإشكالات التي تكون محلّ شكٍّ في عواقبها على حال ومآل مجتمعنا
الإسلامي المحافظ ، الذي رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً ، وبمحمد صلى الله
عليه وسلم نبياً ، وبالقرآن الكريم والسنة النبوية حكما . نسأل الله عز وجل أن
يوفق ولاة أمرنا لما فيه خير العباد والبلاد ، وأن يعينهم على ما فيه صلاح
الإسلام والمسلمين ، بمنه وفضله وإحسانه . إنَّه وليّ ذلك والقادر عليه .
والله تعالى أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله .